كردفان.. صور ومشاهدات من أرض السهول والطبيعة الخلابة.. رواية بروفيسور التجاني علام

الخرطوم – مهدي الشيخ مهدي
يا لروعة تلك اللحظات التي يعيش فيها الإنسان تحت سماء ملبدة بالغيوم، ويحمل إليه النسيم نفحات الرياحين البرية، ثم يتنزل رذاذ رطب على جبهته السمراء كقطرات الندي التي تعلو هامة الورد.
عاش البروفيسور التجاني محمد علام ردحاً من الزمن في ربوع كردفان، وقد هام بطبيعتها الخلابة بما فيها من جبال وسهول ووديان تجري فيها مياه الأمطار في فصل الخريف وترى الأشجار الباسقات كأشجار العرديب والتبلدي الضخم الذي يستخدم ساقه كخزان للمياه يستفيد منها الإنسان، كذلك نجد أناسا اتخذوا عقولهم مستودعاً للعلوم لكي يستفيدوا منه الناس أيضا وترى أنواعا مختلفة من الحيوانات والطيور هنا وهناك.
الطيور المهاجرة
ولفت انتباه بروفيسور التجاني أن بعض الطيور تأتي إلى السودان مهاجرة في فصل الخريف من بعض دول أوروبا وأفريقيا لتتخذ من أعالي الأشجار أوكارا لها، فتضع بيضا ثم تفرخ وتعود أدراجها مصطحبة معها فراخها التي (استخرجت لها شهادة ميلاد سودانية)، التي أتت منه ورغم الأمان التي تحس به الطيور المهاجرة إلا أنها أحيانا تتعرض إلى نيران القنص، حيث لها (لحم طعمه لذيذ لا يقاوم) ومن تلك الضحايا عثر بروف التجاني على رجل أحد الطيور وفيها حلقة كالسوار على معصم الفتاة، وقد كتب عليها موطن الطائر وعنوان يرجو فيه من وضعه على رجل الطائر الاتصال به، وذلك ليعرف أين استقر المقام بالطائر المهاجر، وكم مكث هناك، وماذا كان يفعل في تلك البقاع؟
أثرت تلك المشاهدات وجمال الطبيعة في تكوين وجدانه واختياره لعلم الحيوان والنبات في دراسته كما سنرى.
غرائب الطبيعة
والملاحظ أن تلك الطيور التي تأتي مهاجرة إلى السودان من بعض دول أوروبا كبيرة الحجم نسبياً، وتكون هجرتها منتظمة سنوياً، فعندما يبدأ سرب الطيور في الطيران عبر البحر الأبيض المتوسط متجها نحو أفريقيا يتبعه سرب من العصافير صغيرة الحجم جميلة المنظر، وبالرغم من من سرعة طيرانها أسرع من تلك الطيور الكبيرة إلا أنها لا تستطيع أن تعبر البحر المتوسط إلى أفريقيا، فتنتظر قليلاً حتى تبدأ الطيور الكبيرة في الطيران داخل المياه ثم تلحق بها وتركب على ظهورها حتى يلوح لها في الأفق الشواطئ الأفريقية، ثم تبدأ الطيران أمام تلك الطيور (حكمة والله وحكاية).
موطن الطيور
والآن الإنسان السوداني يترك هذا الوطن الجميل الذي افتتنت به طيور أوروبا ليهاجر إلى موطن الطيور، ولكن بجواز سفر مع معاناة مريرة قد تكلفه حياته.
ويقول الشاعر: بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة
أهلي وأن ضنوا عليَّ كرام
ويقول آخر: أبداً ما هنت يا سوداننا يوماً علينا
والذي أصبح شمساً في يدينا
أما الطيور الكبيرة فإنها لم تحدث نفسها يوماً باستغلال تلك الهجرة للإتجار بالعصافير الصغيرة، كما نفعل نحن معشر البشر في هذه الأيام (دنيا غريبة).
تدرج بروف التيجاني في مراحل التعليم من المدرسة الريفية بالدويم إلى المرحلة الثانوية في مدرسة حنتوب، وكان الفصل المسمى (مدام كوري)، ودخل جميع طلاب ذلك الفصل جامعة الخرطوم ? تخرج البروف التجاني في كلية العلوم بدرجة البكالوريوس بمرتبة الشرف في علم الحيوان، وأكمل درجة الماجستير بجامعة الخرطوم ? ثم ابتعث إلى جامعة لندن لنيل درجة الدكتوراه، وعاد منها في عام 1971م.
ثم عمل أستاذاً بجامعة الخرطوم وأسس مع زملائه الجمعية السودانية لحماية البيئة وعين رئيساً لها.
عمل أستاذاً زائراً بجامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية في عام 1983م ثم إلى جامعة الخرطوم في عام 2000م.
عمل مديراً لمتحف التاريخ الطبيعي فترك بصمات واضحة فيه وأدخل بعض التحسينات لا تزال باقية حتى الآن.
رحلات جامعية
وكان بروف التيجاني كثيراً ما يسافر إلى جامعتي كردفان وشندي من أجل تدريس المواد المقررة، ويجعل الطلاب يستفيدون من علمه وخبراته الثرة، ورغم ما يعانيه من مشقة في السفر هنا وهناك، إلا أنه كان سعيداً بعمله هذا، لأنه كان يهتم ببناء الطالب السوداني علمياً وليس ببناء العمارات الشاهقة.
كان يقود حملات استكشافية مع الطلبة لمنطقتي الدندر والمصورات لما فيهما من آثار وكيفية المحافظة على البيئة، وخاصة في منطقة محمية الدندر خوفاً من إزالة الأشجار والصيد العشوائي باستخدام الأسلحة الفتاكة لبعض الحيوانات، التي بدأت تهاجر إلى إثيوبيا خوفاً من دوي السلاح لتنجو بنفسها، كما كان يشجع الطلبة لنيل درجة الماجستير والدكتوراه والاشتراك في مناقشة طلبة الدكتوراه.
ترك كنزاً عظيماً من العلوم أودعها مكتبة الجامعة وبيانات ودراسات خاصة بأثر البيئة في حياة الناس وظهر ذلك في أدبهم وأشعارهم وتراثهم الشعبي بذكر أسماء أو صفات بعض الحيوانات والطيور، وكذلك الورود والأزهار التي تمثل قبائل ورقصات لمختلف أنحاء السودان، فتعكس بعض الفنون والرقصات الشعبية التي تتميز بها كل قبيلة، وكانت الفرقة تجوب معظم الدول العربية وبعض الدول الأوروبية، فتثير الإعجاب ويقبل الناس لرؤيتها طيلة أيام العرض دون ملل.
رقصات سودانية
وأكثر ما كان يثير اهتمام الأجانب رقصة الكمبلا، حيث تظهر قرون الثور في رأس الشخص الذي يأتي بحركات مميزة وإيقاعات بأرجله، ويصدر صوتا أشبه بصوت الثور (الخوار)، فيتعجب المشاهدون كثيراً فيرفعون أكفهم بالتصفيق الحار.
وأذكر أن فرقة رضا المصرية للفنون الشعبية اختارت من كل دولة عربية رقصة، ومن السودان اختارت رقصة الحمامة، وتقوم برقصها النساء مع إيقاع أغنية للفنان صالح الضي، وهي “أوع تخلف الميعاد وانت عارف شوقي كم” ثم تعقبها الأغنية الشعبية (الفقيرة) “دور بي البلد دا أحرق الجازولين يا الوابور جاز”، فكانت من أكثر الرقصات إثارة وروعة وأيضاً طافت الفرقة معظم الدول العربية والأوروبية.
أهمية السياحة
كان بروف التيجاني يهتم كثيراً بالسياحة في السودان، فكلما استضافته إحدى القنوات الفضائية السودانية ذكر مدى أهمية السياحة وأنها أصبحت مصدراً للدخل لكثير من الدول والسودان من أعظم الدول تنوعاً بالأماكن السياحية وخاصة المنطقة الشمالية وحظيرة الدندر وغزالة جاوزت في الغرب، ولابد من المحافظة على البيئة. وبعد عمر من العطاء انتقل إلى جوار ربه في 3/6/2015م وترك قلوباً حزينة دامية وعلماً عظيماً يُنتفع به وأبناء صالحين يدعون له، ونسأل الله أن يجعل له جنات الفردوس نزلا
اليوم التالي
شكر الله لك يا استاذ .. فقد اعدت الينا الذكريات الطيبة في سبعينات القرن الماضي عندما كنا طلابا بكلية العلوم وكان استاذنا الجليل التجاني علام من اكبر عشاق الطبيعة ومن المحفزين لدراستها.. وكنت من اقرب الطلاب اليه اذ كان يصطحبني معه في محاضراته العامة التي كان يقدمها للنوادي خاصة الاجانب عن عالم الحشرات والحياة البرية عموما.
وفي سنتي الاخيرة اشرف على البحث الذي قمت به للتخرج بدرجة الشرف .. والحمد لله اكرمني الله بشرف الانضمام الى هذه الكوكبة الطببة كمعيد وفيما بعد استاذا بنفس القسم.
تميز د. تجاني بحسن الخلق وطيب المعشر وكان محبوب الجميع
الا رحم الله استاذنا ووالدنا الدكتور التجاني محمد حسن علام رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء.
عيسى عبد اللطيف
دبي – الاول من ابريل 2016