أوروبا في دوامة العدمية (1): على هامش أحداث بروكسل الإرهابية

واسيني الأعرج

يجب التفكير بصوت عالٍ وإلا لا حلّ أبداً لظاهرة توغلت في النسيج الإنساني حتى أصبحت تتهدده بالتلاشي والموت. أخطر ما يحدث لدولة كبيرة، ومستقرة، أن تُمس في عصب استراتيجي وحيوي مثل المطارات. هذا يعني أن أمنها الأساسي مهدد باستمرار. المطارات هي الواجهات الدولية للأمم. من هنا، ما حدث في الأيام الأخيرة في بروكسل شديد الخطورة، على الصعيد المحلي والدولي. ويدل بشكل واضح على أن لا مكان أصبح في منأى عن الإرهاب، وأن العواطف البشرية التي تشكل ذاكرة الإنسان الجمعي، لم تعد لها أية قيمة في منظور القتلة. يتساوى الأمر أن يغتال القاتل عسكرياً، أو امرأة حاملاً، أو طفلاً صغيراً وجد في مسرح الجريمة بالصدفة. أن يهجم على ثكنة حيث هناك بعض التساوي على الأقل في الفعل وفي رد الفعل، أو يهجم على مطار لا يحمل أصحابه إلا حقائب مليئة بالأحلام والرغبة في الحياة.
لا فرق بين أن يفجر دبابة أو يسقط طائرة مدنية بقنبلة موقوتة وُضعت في إحدى الحقائب. ما يحدث اليوم شديد الخطورة ويكاد يكون ضرباً من الجنون الحقيقي. طبعاً في الحالات الطبيعية يصعب علينا أن نتصور إنساناً، فيه بقايا جينات البشر، يضع قنبلة قاتلة للعشرات من المسافرين، في مطار يكون المجرم نفسه قد سافر من خلاله قبل أن يدخل دوامة العدمية. طبعاً، يظل الإنسان أحياناً رهين رؤية رومانسية لا تسمح له بالتوغل عميقاً في إمكانات الأعماق البشرية. مع أن الحروب بينت لنا كم من وحش خرافي قادم من بعيد ينام تحت الغلاف الإنساني، من أغوار تراكمات التوحش البشري.
الحالات الحادة تبين إلى أي مدى أن رؤيتنا الرومانسية لم تعد صالحة لهذا العصر. ما فعلته محاكم التفتيش المقدس في القرون الوسطى يبيّن هذا بوضوح، وما فعلته الحرب العالمية الثانية في البشر يصعب على الإنسان تخيله. والحروب الحالية لا تشذ عن القاعدة. الممارسات الداعشية التي تتلذذ بتصوير عمليات القتل والحرق وتقطيع الرؤوس، تظهر بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا حدود لبشاعة الإنسان الداخلية، ولا حد لاكتشافاته في التعذيب والإهانة والقتل. كثيراً ما تنسينا رؤانا الرومانسية للإنسان أن القتلة تحولوا مع الزمن إلى آلة لا إحساس فيها ولا عواطف، ما يهمها أولاً وأخيراً، الأرقام فقط، كم قتل؟ كم جرح؟ كم هُجِّر؟ وكأننا في صفقة تجارية تهم فيها الأرقام والأعداد ولا شيء غير ذلك. ولا قيمة إلا لعدد الضحايا الذين فقدوا أرواحهم.
لا يمكن رؤية ما حدث في بروكسل، سواء في المطار أو في المترو، إلا من هذه الزوايا. يعيدني هذا إلى حادث مشابه، عندما كان الإرهاب ينشب مخالبه في جسد المجتمع الجزائري ويدمره في الأعماق، ليحوله إلى رماد. أول عملية ثقيلة نفذت وقتها كانت في مطار هواري بومدين الدولي في الجزائر العاصمة. كانت شديدة العنف. مازلت إلى اليوم أذكر تلك اليد التي التصقت بأعالي سقف المطار، وتداخلت مع القطع الحديدية التي أصبحت بارزة بسبب عنف التفجير. لأي طفل كانت تلك اليد المقطوعة، وأي ذنب اقترف سوى وجوده في المكان غير المناسب، في الزمن غير المناسب.
ما الفرق بين مطار الجزائر ومطار بروكسل؟ ماذا لو كان الرد الدولي حاسماً وقاطعاً ومشتركاً أيضاً قبل عشرين سنة. ربما يكون قد وفر على الإنسانية الكثير من الآلام. مشكلة البشر أنهم يعيدون إنتاج فكرة جحا بشكل دائم: «تخطي راسي وخلاص». على البشرية أن تغير رؤاها لمواجهة زمن جديد آلة صنعتها الإخفاقات والرؤى الضيقة للبشرية، أصبحت عابرة للقارات. تبادل المعلومات والخبرات بشكل فعال، أصبح أكثر من ضرورة، حاجة لاستمرار الإنسانية. ما يمس بروكسل اليوم يمس الإنسانية أيضاً. يكفي أن 11 جنسية أصيبت في هذا العمل الإجرامي والإرهابي. ولا يكفي التعامل معه أوروبياً فقط، لكن بشكل يأخذ كل المعطيات بعين الاعتبار بما في ذلك أخطاء الدول الأوروبية في احتضان الإرهاب الذي تربى الكثير منه في ظل صمتها وحساباتها التي لم تكن صائبة دائما.
نعرف اليوم أن الكثير من المدن الأوروبية كانت قواعد أمامية للإرهاب الدولي الممارس في العالم الثالث، ونعرف أيضاً أن الكثير من النشريات المنادية بالإرهاب والتقتيل، كانت تصدر من هناك. ربما أولى العمليات الضاربة، تحديد خارطة حقيقية للنشاط الإرهابي عبر العالم، والعمل على إبداع السبل الجديدة لمواجهته. الإستراتيجية الدولية بهذا الصدد أكثر من ضرورة حيوية. البشر يتساوون. أن يموت ثلاثون عراقياً في تفجير، أو يسقط عشرون سورياً في عملية إرهابية، أو يغتال عشرات الأطفال على الساحل الغزاوي وهم يلعبون، يجب أن يهم البشرية قاطبةً، وبالدرجة نفسها لما يحدث في مختلف المدن الأوروبية. النقد الذاتي وحده هو الأقدر على تجاوز الرؤى الضيقة. بدون ذلك ستظل أوروبا والعرب، وبقية العالم، يعيدون إنتاج السياسات نفسها، والأخطاء نفسها أيضاً.
ونعرف جيداً أن الإرهاب يتغذى قوياً من الحسابات الضيقة، ومن الفرقة الدولية. يجب أيضاً تحديد القوى الممولة له ووضعها تحت الضوء من أجل تجفيف منابعه المادية. إرهاب بلا مصدر مالي يختنق. التعمق في إيديولوجيته العدمية ومحاربتها بالحياة والعدالة الاجتماعية إذ لا مسلك آخر غير هذا. يجب أن تنتصر الحياة على الموت. ما الذي يمنع أوروبا اليوم بكل مؤسساتها أن تعمل جنباً إلى جنب، وبشكل مشترك، مع الضفة الأخرى، تحديداً العالم العربي والإسلامي، لجعل العمل المشترك أكثر فاعلية. فالإرهاب لا يفرق بين الأمكنة والبشر. تهمه الأرقام والأثر الإعلامي. ما يمس بغداد التي تدفن يومياً ما معدله 100 ضحية من الإرهاب، هو نفسه ما يمس اليوم الشعب السوري في عمقه، بتدمير آثاره، وقيمه، وثقافته، وتفكيك نسيجه المجتمعي، هو نفسه الذي مس الجزائر قبل سنوات، في عز العشرية السوداء وخلف وراءه أكثر من 200 ألف ضحية، ومس المغرب في عمق مراكزه السياحية، ويمس اليوم تونس واليمن وليبيا.
الشجب الآني لا يكفي، لأنه بعد أقل من أسبوع يتم نسيانه وكأن الأمر مجرد ردة فعله سرعان ما تنتفي بانتفاء أسبابها الظاهرة. وأعتقد أن الإرهابيين المحترفين في القتل، يضحكون كلما رأوا الشجب على الشاشات العالمية، لأنهم يعرفون جيداً أن ذلك لن يذهب بأصحابه بعيداً.
على الخــــوف أن يغـــير مواقعه
La peur doit changer de camp
المقولة الشهيرة للباحث الجزائري الكبير، والسياسي المحنك، رضا مالك، التي بدأ بها خطابه، في عز أيام الإرهاب، يوم جنازة المسرحي الكبير عبد القادر علولة، في 16 آذار/مارس 1994، في عز الألم والدم والدموع. يومها غيرت الدولة من طريقة تعاملها مع الظاهرة وأدركت متأخرةً أن الآلة الإرهابية تحتاج إلى استعمال كل الوسائل الشعبية والعســــكرية والترسانة القانــــونية العادية والخاصة للمقاومة والخروج من دائرة السياسات النفاقية. كيف للخوف أن يغير مواقعه من المجتمع الضحية، باتجاه الإرهابي العدمي؟ حينما يدرك هذا الأخير أنه أصبح يواجه قوة أكثر تنظيماً منه، وأكثر فاعلية من مخططاته. وأن كل سبله أصبحت مغلقة. لهذا يصبح التضامن الدولي الضروري سياسة وليس فعلاً طارئاً تتحكم فيه الوقائع والأحداث، للتمكن أخيراً من ظاهرة عابرة للقارات، ليست جديدة، لكنها تتلون بحسب الأزمنة والأمكنة.

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..