عبد الخالق محجوب وحسن عبد الله الترابى … هل أودت بهما المغامرات الإنقلابية ؟!

الراحل عبد الخالق محجوب والدكتور حسن الترابى هما وجها العملة السياسية للأحزاب العقائدية فى السودان . تبؤا موقعيهما فى أقصى اليسار وأقصى اليمين وأسهما إسهاماً فاعلاً فى ترسيم خطى السياسة السودانية خلال النصف الثانى من القرن الماضى ، وشكلا تضاريس البنية السياسية لتلك الحقبة بكل نتؤاتها وانكساراتها . إرتبط إسماهما بأكثر الإنعطافات حدة فى تاريخنا المعاصر وأنغمسا برغبتهما ? أو بالإقحام ? فى تداعيات الفعل الإنقلابى فدفعا الثمن باهظاً . خسر الأول حياته على أعواد المشانق الظالمة وخسره حزبه حين طواه الردى هو واثنين من رفاقه الأوفياء مع ثلة من كوادر الحزب من العسكريين تاركين الحزب هشيماً وبعض حطام ، بينما الآخر ورغم حصافته السياسية وعقله المتقد مشى فى ذات الدرب الشائك دون تدبر أو عظة فخسر الحزب والحركة التى وهبها سنوات حياته ، وراح يجاهد اليوم لإستعادة تماسكها التنظيمى بعد أن إنفرط العقد وتداعى السياج ويمم الحواريون نحو باب السلطة … ذات الباب الذى فضّ أقفاله وأشرعه لهم هو بنفسه . وفوق كل هذا وأهم من كل هذا كان الخاسر الأكبر هو الوطن الذى عصفت به حقب طوال من الشمولية جراء تلك المغامرات الإنقلابية الخاسرة .
هذان الرجلان النابهان هل إفترسهما ذاك الطموح الإنقلابى الوثاب أم أن حياتهما السياسية تقاطعت خطوطها مع نهج إنقلابى لا قبل لهما بمجابهته ؟
لم يترك لنا الدكتور الترابى كبير عناء فى الجزم بتورطه فى تدبير الإنقلاب فـبـ ( عضمة لسانه ) كما يقول أهل السودان تطوع بتأكيد الأمر ، وأضحت كلماته الشهيرة ( إذهب للقصر رئيساً وسأذهب أنا للسجن حبيساً ).. أضحت توثيقاً جازماً وكفى الله المؤمنين شر الجدال . ورغم هذا التثبت والجزم الا أن سؤالاً منطقياً ينتصب : لماذا ؟ … لماذا كان هذا الإنجراف والإمتثال لإغواء المغامرة الإنقلابية رغم الكسب الكبير الذى حققته الحركة الإسلامية تحت مسمى (الجبهة القومية الإسلامية) فى حقبة الديمقراطية الثالثة ، حين برزت كقوة ثالثة إستطاعت إحراز 51 مقعد فى البرلمان ، ولا يفصلها عن الاتحادى اليمقراطى سوى عشرة مقاعد وفوق ذلك إكتسحت كل دوائر الخريجين مما يشى بكسب مستقبلى قادم ؟ لقد نهض الدكتور بعبء الإجابة على هذا السؤال فى أوساط مجلس شورى الحركة الاسلامية قبل الانقلاب وهو يسّوق ويبيع الكثير من الحيثيات والدفوعات حتى إنتزع لنفسه مع مجموعة من أصفيائه الثقاة لا يتجاوز عددهم ستة قياديين هو سابعهم تفويضاً مطلقاً لإتخاذ ما يرونه مناسباً، ولم يكن هناك – فى نظرهم – ماهو أنسب من المضى فى خيار الإنقلاب . تراوحت تلك الدفوعات والحيثيات عندهم بين : الفزع من عودة اليسار وقوى التجمع الى الحكومة الحزبية .. نُذر إتفاق الميرغنى قرنق الذى حسبوه سيجمد القوانين الاسلامية .. مذكرة الجيش التى بموجبها أُخرجت الجبهة من حكومة الوفاق مع حزب الامة .. تنامى شوكة التمرد فى الجنوب .. وأخيراً وليس آخراً التوجس من تأهب جماعات عقائدية يسارية صغيرة لإمتطاء الدبابات فى مغامرة ليلية مماثلة . وتربحاً فى التسويق والبيع تم بث نغمة إعفائية فى اوساط الحركة تقول : ( لم لا .. لم لا نجرب .. لقد قارفت جميع الاحزاب الانقلابات العسكرية ، كان حزب الامة أول من بادر بسن المعصية فى نوفمبر 58 ، والحزب الشيوعى مرتين فى مايو 69 ويوليو 71 ، ثم كان الراحل الشريف حسين الهندى رئيس الحزب الاتحادى رأس الرمح فى غزوة 76 ) !
هكذا إذاً نسج الدكتور خيوط السيناريو بحذق ومهارة بالغة وتم تنفيذ الانقلاب بتمويه أنتجته إحترافية رفيعة فى الدهاء والخداع لم تنطلِ فقط على غرمائه الغافلين الذين ذهب معهم الى السجن حبيساً وهو يضحك فى أكمامه ، بل إنطلت على دهاقنة الإستخبارات فى دول الجوار . شىء واحد سقط من حسابات ذهنه الوقاد .. تحسب لكل صغيرة وكبيرة كما يتحسب لاعب الشطرنج لكل الإحتمالات ولكنه نسى فى غمرة إنشغاله فعل السلطة وفتنتها .. سلطة أرادها كاملة الدسم فأستحالت علقما ، ووطن تحاذق فى الإنفراد برسم مستقبله فأسلمه الى تصاريف قاسية .
* * * *
هذا ما كان فى شأن الوجه الأول من العملة السياسية لأحزاب السودان العقائدية ، بينما على الجانب الآخر من النهر .. الضفة اليسارية ، تصادمت الامواج وتلاطمت بعنف بالغ وهى تفضى الى خسران أكثر فداحةً . لقد ظل منتوج الخطاب السياسى اليسارى أو الشيوعى على وجه التحديد ينفى وبإصرار تورط الحزب أو سكرتيره العام فى إنقلابىّ مايو 69 ويوليو 71 ، وإن الأمر برمته فى الحالين لم يتجاوز حدود العلم المسبق والإمتثال لواقع تعذر الفكاك منه ، مرةً بدافع التناغم والتعاطف الايديولوجى مع التوجه اليسارى الذى طرحه إنقلابيو مايو، وفى الثانية لصعوبة التنصل عن تقديم المساندة لكوادر حزبية غير منضبطة من إنقلابييى يوليو . هكذا كانت وظلت الرواية المعتمدة من قبل أجهزة الحزب على مدى السنوات الطوال .. رواية مفادها الاقرار بالعلم والإحاطة الكاملة بشأن الانقلاب الاول (إنقلاب مايو) مع إبداء التحفظ الحذر على الخط السياسى للإنقلاب رغم يساريته والدعوة للنأى بالحزب عن المشاركة فى السلطة الوليدة والتمسك بإستقلالية منابره ، أما فى شأن الإنقلاب الثانى (إنقلاب يوليو) فقد كان العلم والإحاطة أيضاً وافرين ولكن هذه المرة ليس من خارج أسوار البيت الحزبى ..بل من داخله .. من الكوادر العسكرية للحزب والتى إضطلعت بتنفيذ الإنقلاب ولكن ظل الدفع الاساسى فى التحرر من تبعات هذه المغامرة يتلخص فى أن لا عبد الخالق محجوب ولا الامانة العامة ولا المكتب السياسى للحزب إتخذوا قراراً بالتحضير للإنقلاب أو تنفيذه . فى تقديرى ، إن تماسكت هذه الرواية فى شأن الحزب كمؤسسة الا أننى أجدها شديدة الاضطراب فيما يلى سكرتيره العام المرحوم عبد الخالق محجوب ، على وجه التحديد فى الجزئية المتعلقة بإنقلاب يوليو71.
وفى هذا السياق وقبل أن ندلف الى الإستنتاجات المعززة لما ذهب اليه إجتهادنا هذا ، لابد ومن باب الإنصاف للرجل أن نسجل أنه بذل جهداً شاقاً ومثابراً فى مكافحة الفكر الإنقلابى داخل مؤسسة حزبه ، فقد وقف فى صلابة فى إجتماع اللجنة المركزية للحزب مساء 25 مايو (مساء اليوم الاول للإنقلاب) رافضاً للمشاركة فى السلطة ومتمسكاً بإستقلالية الحزب ، ولكن هذا الرأى هُزم فى التصويت داخل الإجتماع ولم تقف مع عبد الخالق إلا قلة فى حين رأت الأغلبية تأييد الحزب لحكومة مايو ومشاركته فيها . لقد كان عبد الخالق حتى ذاك الوقت ، رغم التحفظات ورغم حل الحزب الشيوعى ، غير متبرم وينظر بصبر وواقعية للمسرح الديمقراطى ، إذ إستطاع أن يظفر لحزبه ولنفسه بالدائرة الأشهر … دائرة امدرمان الجنوبية ، التى إنتزعها فى معركة شرسة من قبضة الاتحاديين فى آخر إنتخابات برلمانية . لكن هل ظلت تلك القناعة على حالها حتى عصر ذاك اليوم المفصلى .. يوم 19 يوليو 71 ؟
ثمة سؤال يلوح : هل كان عبد الخالق محجوب مدبراً لإنقلاب 19 يوليو أم كان مسئولاً عنه ؟ إن ” المسئولية ” هى الكلمة الأوفق وقد تطوع عبد الخالق بنفسه الى تحمل تبعاتها فى المحكمة العسكرية ، وهو ماعدّه الحزب شهامة وفداء من قائده ، رغم الإصرار على التمسك بأن الحزب ولجنته المركزية وسكرتيره العام لا علاقة لهم بالإنقلاب !
إن كثير من المؤشرات تمضى فى تأكيد هذه ” المسئولية ” فبعيداً عن البيانات والادبيات السياسية للحزب يمكن إلتقاط بعض الخيوط المتناثرة التى تثبّت هذا الأمر . هذه الخيوط يسهل إدراكها والتوقف ملياً عندها فى كتاب (عنف البادية .. وقائع الايام الأخيرة فى حياة عبد الخالق محجوب ) للصديق د/حسن الجزولى والذى قدّم له الراحل د.محمد سعيد القدال بقوله : ( سعى الكاتب بجهد اكاديمى ليستوفى مختلف الجوانب ، فأطلع على أغلب ماكُتب عن تلك الفترة الكالحة ، وأتصل بأغلب الشخصيات الأحياء الذين عاصروها ، ورجع الى بعض الوثائق التى توفرت مؤخراً وجمع وللمرة الاولى الروايات التى كانت متداولة على صعيد واحد ، فجاء الكتاب وثيقة تاريخية على عنف البادية المنفلت .) … أورد الكتاب مؤشرات وخيوط من بينها : تكليف عبد الخالق للراحل جوزيف قرنق بصياغة أوامر جمهورية جديدة بعد ساعات من وقوع الانقلاب بناءً على طلب الرائد هاشم العطا قائد الانقلاب … لقاء عبد الخالق صباح اليوم التالى للإنقلاب مع أركان السفارة العراقية بالخرطوم حيث طلب دعماً مالياً عاجلاً لخزينة الدولة قدره 5 مليون دولار الى جانب طلب حضور وفد عراقى شعبى ورسمى للتاييد والمساندة ، وكذلك طلب موافقة العراق على تعيين محمد سليمان الخليفة ، حفيد الخليفة عبد الله وعضو القيادة القومية بحزب البعث وزيراً للتربية والتعليم فى حكومة 19 يوليو (أكد الاستاذ نقد لكاتب الكتاب صحة هذه الواقعة)….. وأخيراً وليس آخراً ما أورده الكتاب بشأن ما طلبه المكتب السياسى للحزب من العسكريين الحزبيين عندما طرحوا فكرة الانقلاب وقبل أن يشرعوا في التنفيذ ، فقد طلب رأيهم وتقديراتهم حول موقف أجهزة الأمن والاستخبارات المايوية .. حول إحتمال تدخل دول ميثاق طرابلس .. حول وضع البوليس والحرس الوطنى والقوات الخاصة .. حول حجم نيران قوات الانقلاب والقوات المضادة .. حول هل يبقى بابكر النور وفاروق حمد الله بالخارج أم يعودان للمشاركة!! …. أولا يندرج كل هذا فى إطار المسئولية ؟؟ لعل هذا الإبهام هو ما دفع د. حسن الجزولى فى خواتيم صفحات كتابه أن يمضى فى التساؤل قائلاً : ( على ” إفتراض ” موافقة عبد الخالق على إنقلاب 19 يوليو : هل وقع الانقلاب بموافقته هو وحده أم بموافقة الحزب مؤسسياً ؟! وفى كلا الحالين : لماذا تم التخلى عن الموقف السابق المعلن والمؤسس فكرياً ، والمعتمد كخط للحزب من الانقلابات العسكرية بإعتبارها ” وسيلة البرجوازية الصغيرة التى تتأفف من العمل الشعبى الصبور ” ؟! ) .
* * * *
إذاً هذا ما كان فى شأن الرجلين النابهين اللذين تقاطعت أقدارهما السياسية مع الطموحات الإنقلابية فكانت الخسارات الفادحة … لم يكن القصد التلويح بصكوك الإدانة فى وجهيهما أو إلتماس الأعذار لهما ، بل هو الحزن والأسى على الوطن جراء العتمة الشمولية الماحقة التى تسببت فيها تلك المغامرات الخاسرة .

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. شكرا الاخ الفاضل هي شجاعة الشجعان ان يتحمل عبد الخالق المسئولية وقد تنبأ بهذا حين اشار ان الانقلابات ستكلفهم الالاما عظيمة وقد حدث رغم علم عبد الخالق بانقلاب في عبارت التي اوردها برف عبد الله (بابكر شقالو دربا غادي )مشيرا لبابكر عوض الله وهم كانوا ثلاثه تولوا رئاسة حلف يفف ضد مشروع الدولة الدينية لكن بابكر حين علم بانقلاب القوميين العرب (اغلب مجلس مايو ) امتنع عن حضور الاجتماعات وكمن ببيان الجماعة الذي صاغه المحامي عابدين اسماعيل مع تعديلات خطيرة اما الترابي رغم دخولة السجن فاول من عرف توجه الانقلاب كان الراحل نقد ومن الضابط الذي اعتقلهوكان جاهزا للاعتقال لعلمه بانقلاب ما ولكن الضابط قال له (تاني في شيوعية ) فرد عليه (اعتقلني ونمشي كوبراما ما في شيوعية فانت لا تحددها )ومع الفجر حين وصل اخبر كل المعتقلين .الترابي هذا حلمه منذ1964الثورة مرورا بالدستور الاسلامي وحل الحزب الشيوعي فهو الخازوق الاساسي في كل ما جري للوطن حبا في الذات اكثر من حبا في الاسلام والله اعلم وكما قلت 51مقعد لماذا الانقلاب .وهل انت ابن الراحل العظيم الوزير حسن عوض الله تلك الايام !!!

  2. لا يوجد ادني تشابة بين الرفيق عبدالخالق والنكره المدعو الترابي قارن الترابي الي رفيقنا رحمة الله

  3. هذا المقال من أروع ما قرأت في السياسة السودانية في الفترة الأخيرة إذا أصاب كبد الحقيقة المسكوت عن نصفها لدى الاسلاميين وعن نصفها الآخر لدى اليساريين وكل منهما لا همه له إلاالدفاع عن موقفه ويلجأ فقط لكيل الاتهامات للطرف الآخر بنفس الجرم الذي ارتكبه الطرفان: الانقلابات العسكرية، وما جرته على البلاد من ويلات ودمار وخراب وتخلف عن ركب البشرية. وهذ الجملة لخصت الأمر كله:
    بل هو الحزن والأسى على الوطن جراء العتمة الشمولية الماحقة التى تسببت فيها تلك المغامرات الخاسرة.
    ولو باليد حيلة يجب محاكمة أي انسان سوداني لبس الكاكي وحمل السلاح الذي قدمه له الشعب السوداني وفكر في القيام بانقلاب عسكري حتى لو كان ذلك في أحلامه وبين أحضان أمه بتهمة الخيانة العظمى. ولا سبيل للمصالحة قبل المصارحة يا كيزان ويا يساريين من يهاجم انقلاب البشير ليس الحق في الدفاع عن انقلاب عبود أو انقلاب النميري أو انقلاب هاشم العطا أو انقلاب حسن حسين أو انقلابات قبوش او مذكرة الجيش المشؤومة في عام 1989 او انقلاب رمضان فكلها في الهم سواء وكله عند العرب صابون هذه هي الحقيقة المرة التي يجب أن يواجهها كل واحد منا وهو ينظر للمرآة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..