حوار مع منقو….في الخرطوم!ا

قراءة في المشهد السياسي
حوار مع منقو….في الخرطوم!!
د.الشفيع خضر سعيد
زرت، مطلع هذا الأسبوع، صديقا عزيزا من أبناء الجنوب، توطدت علاقتنا منذ مرحلة الدراسة الثانوية، ثم نمت وترسخت مع مرور الزمن والمحن. الصديق أراد مناقشتي حول مقالي السابقين: «تقرير المصير» و»الوحدة على أسس جديدة لا زالت ممكنة» واللذان ضمهما العنوان: «منقو جاء من يفصلنا». تداعى الصديق أمامي كاشفا عن بعض هواجس الجنوبيين تجاه ثنائية الوحدة والإنفصال. فكرت أن ما دار بيننا من حوار يصلح أن يكون المادة الأساسية في مقال اليوم. لم أستأذن الصديق في نشر الحوار، ففي تلك الجلسة لم يخطر على بالي نشر الحوار، ويقيني أنه لن يستنكر الخطوة لأن حوارنا كان حول الهم العام بعيدا عن الهموم الخاصة، ثم أني لن أكشف عن هوية الصديق. فماذا قال الصديق وماذا قلت له؟:
قال الصديق بحدة: بعيدا عن حذلقة المثقفين ورحلة الغوص وراء الأسباب، هنالك الحقيقة الموجعة، حقيقة أن الملايين ماتوا في حرب الجنوب منذ العام 1955. هل هؤلاء فقدوا أرواحهم حبا في الموت؟ ألا تتفق معي يا شفيع بأن الموت في الجنوب أصبح أمراً عادياً بدرجة أثرت على سايكلوجية الجنوبي تجاه الحياة، خاصة الحياة المشتركة مع الشماليين؟ ثم ماذا عن اللاحياة في الجنوب…ماذا عن القرى الوديعة في الأحراش والتي، حتى اللحظة، تبحث عن ساكنيها اللذين تبعثروا بين كينيا ويوغندا وإثيوبيا وأطراف مدن الشمال؟
تدخلت قائلا: موتهم يا صديقي ليس خسارة للجنوب وحده، إنها خسارة للسودان والإنسانية…ويتساوى في ذلك موتهم وموت جندي الجيش السوداني. فقدناهم بسبب حماقات النخب السودانية في إدارة أزمات الحكم في البلاد…إنه انعكاس لضيق الأفق والعمى الآيديولوجي أمام التصدي لمهام وأسئلة متعلقة ببناء الوطن..
قاطعني: ولكن، كيف تفسر سلوك الآلة الإعلامية في الخرطوم التي كانت تضعنا في خانة المجرمين الواجب الجهاد فيهم، تبيح وتشرع لقتلنا؟ ألا تذكر برنامج ساحة الفداء الذي كان يقدس الحرب على أهلنا في الجنوب ويعتبرها واجبا دينيا، في حين كل الآلة الإعلامية في الشمال تتجاهل معاناتنا وبؤسنا؟
قلت له: الحرب هي الحرب، ومثلما كان هنالك الجيش السوداني كان هنالك الجيش الشعبي. الجيش السوداني يطيع أوامر القيادة السياسية، والخطورة تتأتى عندما تكون هذه القيادة السياسية مصابة بداء الإستعلاء وضيق الأفق وقصر النظر الذي لا يرى مصلحة الوطن إلا من خلال المصلحة الخاصة، الشخصية أو الحزبية أو الطبقية.
قال: فلنترك الحرب جانبا…يا شفيع رغم أن أهلك الشماليين استفادوا من العلم والحضارة وتقدموا، لكن عندما كانوا يأتون للجنوب لم يحملو معهم بذور التقدم أو شتلاته لغرسها في الجنوب، كنتم تذهبون إلى الجنوب كتجار «جلابة» تبيعون كل شئ بالغالي غض النظر عن قيمته، وتأخذون غالي القيمة برخيص الثمن، تأتون برأسمال ضعيف وتصدرون أرباحا مضاعفة إلى الشمال…نحن في الجنوب لم نكن نملك العلم أو التقدم أو الإمكانات…ليس لدينا «طبقة تجار» تذهب للتجارة في الشمال…ثم أن «الجلابة» لم يكونوا يمثلون أنفسهم… كانوا محميين من قبل الدولة المركزية في الخرطوم وممثليها المحليين….
قاطعته: يا أخي هذا هو المسار الطبيعي للتطور…تطور الدولة المستقلة، ولكنها تدور في فلك التبعية للرأسمال…وبالمناسبة أعتقد أن الجنوب شهد ويشهد منذ فترة تشكل ملامح طبقة «جلابة الجنوب» …أفصد المجموعات التي تستأثر بخيرات السلام ومتعة التحالف مع «جلابة الشمال» فتعلن عن نفسها بقوة في الجنوب حيث المورد، وفي الشمال حيث العمارات الشواهق! ألا ينظر الجنوبي البسيط إلى هذه المجموعات كجلابة؟
قال ضاحكا: لكن جلابتكم «غتيتين».. حتى التزاوج استكتروا علينا، فنساؤنا إما محظيات أو زوجات مؤقتات لرجالكم، في حين الرجل منا إذا تزوج شمالية فكأنه أتى بالعجب .
رددت عليه جادا: أنا لن أبرر لسلوكيات أراها مشينة. نعم هنالك حواجز نفسية كثيرة ترسبت وترسخت في دواخلنا، وطيلة الفترة الماضية لم يسهم التعليم أو الثقافة أو الإعلام في تحطيمها. ولكني أراها الآن قابلة للتكسر والتلاشي. لنأخذ مثالا: كيف تفسر خروج حشود «الحبوبات» و»الأجداد» متعلمين أو أميين من الشمال وعيونهم تتلألأ بدموع الفرح لإستقبال الراحل جون قرنق في الخرطوم؟ ألم يعني ذلك أن هنالك جديد يتخلق…وأن كل شيئ ممكن؟؟؟
الصديق: نعم…اقر بذلك. لكن نحن أيضا مجهولون في ذهنيتكم. الشمالي يعرف القليل جدا عن حيواتنا، حكاوينا، علاقاتنا، تراثنا….حتى تاريخ السودان مكتوب بذهنية شمالية لا ترى في الجنوب غير أحراش المستنقعات والجهل وقناة جونقلي! لفترة طويلة تم إختزال ثقافتنا في برنامج إذاعي إسمه «ركن الجنوب»، ثم إذاعة جوبا ذات الطابع المحلي…تصرون على أن نتقن العربية وأفراد معدودين منكم يتحثدثون لغاتنا حتى عربي جوبا.
قلت: المسائل لا تسير دائما في خطوط مستقيمة. هنالك تعرجات وصعود وهبوط. مثلا كان من الممكن استثمار الفترة بعد اتفاقية أديس أبابا لصالح حياة أكثر انسانية في الجنوب..ولكن إستمر نكص العهود. نرجع مرة أخرى لسوء إدارة النخب في الشمال والجنوب للأمور، بما في ذلك انعزالها عن الجماهير العادية في الشارع. أعتقد توافقني أن النخبة الجنوبية لم تؤسس لبناء أحزاب قوية ومنظمات جماهيرية تخاطب بها المواطن الجنوبي.
قاطعني متضجرا: بناء الدولة السودانية الحديثة الموحدة هي تيمتك المفضلة! ألا ترى ما أصابنا من يأس؟!
واصلت حديثي: أنا تسيطر علي المفارقات التي ستحدث بعيدا عنك وعني في حالة الإنفصال: الرعاة في رحلة الإجراءات لفيزا الدخول لهم ولأبقارهم في ترحالهم جنوبا… المسيرية والفونج المتنازعون بين الشمال والجنوب… شماليوا الجنوب وجنوبيوا الشمال ومسألة الإقامة والتجنس، أوالإرتحال إلى ديار لم يروها أو يألفوها..! المجرى الموضوعي لحركة التاريخ يشير إلى أن العالم في طريقه نحو التكتلات الأكبر، نحو التوحد. في أوروبا مثلا، أزيلت الحدود، حركة الأفراد بدون اجراءات، العملة موحدة… ونحن نتفكك! لكن، هل يمكن أن نضع هذا التفكك في خانة الرجوع قليلا إلى الخلف، خطوتين ثلاثة، استعدادا للإندفاع بقوة إلى الأمام؟ اعتقد ممكن.
قال: أرى الصحف تتحدث كثيرا عن الأطماع الدولية في السودان، وهو حديث يخيفني لكني ايضا استسخفه فيما يخص الاستفتاء…ماذا ترى أنت؟
أجبته: أعتقد ما يشاع عن رغبة دفينة لدى بعض دوائر المجتمع الدولي لتقسيم السودان إلى عدة دويلات، ليست مجرد فزاعة. فربما تعتقد هذه الدوائر أنه عبر تقسيم السودان يسهل حماية مناطق البترول سواء في الجزيرة العربية أوفي السودان أوالمنطقة الممتدة من تشاد والبحيرات حتى انجولا، يسهل التعامل مع معادلة اقتسام مياه النيل، يسهل تحقيق تجفيف منابع الإرهاب… لكن، كل هذه الرغبات والأطماع ما كانت ستعني الكثير لو وجدت قادة سياسيين يتصدون لها بكل قوة وندية…ولكنها للأسف لا تجد سوى فئات الطفيلية التي لا ترى غير مصالحها ولا تنظر أبعد من أرنبة أنفها. من زاوية أخرى، أعتقد أن هنالك تنافسا حادا بين الصين وأمريكا. فالأولى ترى أنها قدمت تضحيات جسام بالعمل لإستخراج البترول في مناطق غير آمنة، والثانية مزهوة بدورها في إبرام اتفاق السلام الذي أوقف الحرب! وكلاهما يسعى لإغتنام الحافز!
تساءل بقلق: أخذين في الإعتبار ما أثير حول الإنتخابات، ألا ترى أن احتمالات تزوير الإستفتاء كبيرة؟
أجبته: أعتقد أي محاولة للتزوير، بل إذا تبدت مجرد شكوك حول هذا الموضوع، النتيجة الماثلة أمامي هي عودة الحرب بدرجة أفظع مما كان. من سيتحمل مسئولية ذلك؟ وأصلا، هل يمكن تحمل حرب أخرى؟…لكن يا صديقي ماذا تقول لمن يردد أن الجنوب المستقل لن يستقر بسبب الحرب القبلية، وأن مجموعات الإستوائية مرعوبة من فكرة هيمنة الدينكا؟
أجاب مهموما: الحديث عن النعرة القبلية في هذا الوقت بالذات تعكس نوايا غير مطمئنة. لكن الهم الذي يجمعنا في الجنوب أكثر من الذي يفرقنا. بالطبع بناء دولة في الجنوب ليس نزهة ولا أحد يتوقعه أن يكون سهلا. وفي الحقيقة فإن النعرة القبلية الحادة موجودة حتى في الشمال بما في ذلك التساؤلات اليومية حول المحاباة القبلية في توزيع السلطة والثروة في المركز. لكن دعنا من كل هذا، ولنرجع إلى الإقتراح الوارد في مقالك الأخير، هل تعتقد فعلا أنه يمكن تجنب الإنفصال؟
أجبته: بالنسبة لي، مثلما الانفصال وارد فإن تجنبه وارد أيضا. في تقديري المسألة تكمن في الإرادة، وفي استجابة النخب لنبض الشارع العادي، في الشمال والجنوب، الذي ينضح بدقات الحفاظ على الوحدة. وعندما أقول الوحدة، فأنا متمسك بصيغة الوحدة على أسس جديدة. فلنقرأ معا ما قاله السيد سلفاكير في حفل تنصيبه كرئيس للجنوب تحت عنوان الوحدة: (إن النظام الذي استندت على دعائمه الدولة السودانية منذ فجر الاستقلال ظل يتآكل حتى وصل اليوم مرحلة الإنهيار الكامل، والدليل على هذا الانهيار الحروب المدمرة التي دارت في مختلف العهود بين المركز والأطراف في الجنوب والغرب والشرق. هذا الإنهيار لا يمكن وقفه وتجاوزه إلا بإصلاح الخطأ في أسس بناء الدولة السودانية حتى تستوعب تلك الحقائق الموضوعية. ومع بداية الفترة الانتقالية، كنا نطمع في عمليات جادة للإصلاح السياسي والإقتصادي والإجتماعي تزيل مظالم الماضي ونصلح الأضرار الخطيرة التي اصابت أعمدة هياكل الدولة السودانية. لكن شركاءنا في المؤتمر الوطني لم يكونوا في عجلة من أمرهم للقيام بخطوات محسوسة للحفاظ على وحدة السودان. وهكذا انقضت الفترة الانتقالية بأكملها دون أي عمل جاد وذي مغزى لتحقيق هدف الوحدة. لقد ظننا أن اتفاقية السلام الشامل وفرت آليات يمكن أن تبتدر حوارا قوميا لمراجعة الترتيبات السياسية الواردة في الاتفاقية حتى ندخل عليها التحسينات التي من شأنها الحفاظ على وحدة الوطن. وإن بروتوكول قسمة السلطة نص على إجراء مراجعة دستورية وطنية من شأنها أن توفر هذه الفرصة، ولكن ذلك تم تجاهله في يسر من جانب شركائناالذين كانوا مشغولين بأمور أخرى.). هذا بعض مما قاله السيد سلفاكير. وهو حديث، إرى أن الكثيرين سيرحبون به، مثلما أرحب به شخصيا، وأعتقد أنه يطرح أملا ما في نهاية النفق. نحن نقول للسيد سلفاكير أن اتفاقية السلام الشامل هي التي فرضت نظام الشراكة بينه وبين المؤتمر الوطني. وإذا كانت هذه الشراكة مفهومة ومقبولة، وفق ديناميكية الاتفاق، في إدارة البلاد في الشمال والجنوب، فإن مصير هذه البلاد، وحدة أم تمزق، لا يمكن أن يكون رهين هذه الشراكة. بمعنى آخر، كل القوى السياسية الآخرى مستعدة لأن تجلس مع الحركة الشعبية وتبتدر حوارا قوميا لمراجعة الترتيبات السياسية الواردة في الاتفاقية حتى ندخل عليها التحسينات التي من شأنها الحفاظ على وحدة الوطن. وأنها مستعدة تماما لإجراء مراجعة دستورية وطنية، وفق ما جاء في بروتوكولات الإتفاق، بهدف جعل خيار الوحدة جاذبا. وأنها متمسكة، مع الحركة الشعبية، على إجراء الاستفتاء في موعده. أقول ذلك يا صديقي وأنا أتساءل: ألم يكن هذا هو جوهر ومغزى تحالف جوبا، تحالف الاجماع الوطني؟ نحن مستعدون لهذا الحوار القومي الواسع، سنساهم فيه بكل صدق وشفافية حتى نعمل معا، لا لترميم هياكل النظام القديم للدولة السودانية، بل لإعادة بناء هذه الهياكل من جديد حفاظا على وحدة السودان. ونقطة البداية هي ما تم التوافق عليه في اتفاق السلام الشامل. ولعل من ضمن هذه الهياكل مسألة الدين والدولة، والتي أعيدها لك مرة أخرى يا صديقي، مشددا على أنها نتاج إجماع القوى السياسية السودانية بمشاركة الحركة الشعبية لتحرير السودان. فقد اتفقنا على أن تقوم علاقة السياسة بالدين وفق المبادئ التالية:
– المساواة في المواطنة وحرية العقيدة والضمير بصرف النظر عن المعتقد الديني.
– المساواة في الأديان.
– عدم إقحام الدين في الممارسة السياسية.
– الشعب مصدر السلطات والحكم يستمد شرعيته من الدستور.
– سيادة حكم القانون و استقلال القضاء ومساواة المواطنين أمام القانون صرف النظر عن المعتقد أو العنصر أو الجنس.
– ضمان الحقوق والحريات الأساسية السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وضمان حقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية.
– بالنسبة للتشريع: 1- تعتبر المواثيق والعهود الدولية المعنية بحقوق الإنسان جزءاً لا يتجزأ من القوانين السودانية ويبطل أي قانون يصدر مخالفاً لها ويعتبر غير دستوري. 2- يكفل القانون المساواة الكاملة بين المواطنين تأسيسا على حق المواطنة واحترام المعتقدات وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو الثقافة، ويبطل أي قانون يصدر مخالفا لذلك ويعتبر غير دستوري. ووفق هذه المبادئ يمكن أن تتسع الاجتهادات لكي تشمل مصادر التشريع الدين والعرف مع عطاء الفكر الإنساني وسوابق القضاء السوداني.
– كفالة حرية البحث العلمي والفلسفي وحق الاجتهاد الديني.
إستقرت عينا صديقي في عيني طويلا، مرسلا نظرة عميقة…ثم ابتسم ودعاني لتناول العشاء.
الميدان