نزهة صغيرة في أروقة مفكر بقامة د.حيدر أبراهيم علي

نزهة صغيرة في أروقة مفكر بقامة د.حيدر أبراهيم علي
جبير بولاد
[email][email protected][/email]
..العام 1997م في بيروت الغربية ..كانت بيروت وقتذاك تتعافي من حقبة أحترابها و صراعها الطائفي العنيف و المكُلف و الذي خلق ذاكرة جديدة ..كانت ما تزال جدران بناياتها و شوارعها و بيوتها و أنسانها يحمل بقايا من تلك الحقبة .
.. كنا في بدايات العشرينات من عمرنا ، فارين من غول فظيع ألمّ بالوطن علي خلفية حقبة ديمقراطية قصيرة النفس مجزوزة العنق بفعل عصبة أنتوت خلق مشروع حضاري حصد في أولي بشرياته للسودانيين تقتيل ثمانية و عشرون ضابطاً من القوات المسلحة و أعدام فلذات أكباد أسر بجرم أصبح فيما بعد مباح تمارسه جل العصبة و فلذات أكبادها (الأتجار بالعملة) ! مشروع جعل همه الأقصي تشريد عشرات الآلاف من المهنيين السودانيين من الخدمة العامة و أفقار رموز الرأسمالية المعروفة في البلد و عاث فسادا و تخريباً و أحلالاً و أبدالاً مزق أحشاء الوطن حتي أنكرنا السودان و لم نعد نعرفه الا من خلال أنسان محطم و فيما بعد خريطة شائهة مبتورة الساقين ، تقف مترنحة تنتظر مدية جزار يقف محتاراً اي الأجزاء يبتر من بعد الساقين .
..كنا كجيل تضحيات بأمتياز ، نتهادي دون دليل ، تجشمنا عناء بناء معرفتنا بالوطن و العالم و قضاياه و أفكاره دون تراث ، فلم تعد هناك خريطة توضح لنا الطريق ، الا من بعض شذرات هنا وهناك تتحصل عليها بصعوبة و تحمل في طياتها ما تحمل من جدال.
..في أحدي شوراع منطقة الحمراء الخلفية المحاذية للجامعة الأميركية كنا نمارس عادة التسكع في المكتبات و في ذلك الشارع الهادي طالعتنا في أحدي مكتباته عناوين لمواضيع سودانية ..جذبتنا اللهفة و نكهة البلد الضائع الذي ننتمي أليه ، دلفنا و سرعان ما تعرفنا علي صاحبة المكتبة و كانت سيدة لبنانية مثقفة ، كانت تعرف د.حيدر أبراهيم علي و تعرض أصدرات مركزه ” مركز الدراسات السودانية” و الذي لم نكن قد سمعنا به من قبل ..أشترينا بما معنا من نقود عدد أو عددين من مجلة كتابات سودانية و آفلنا راجعين ألي البيت نلتهم في ضرواة حصيلة صيدنا الثمين .
.. بعد أيام قليلة جمعنا كل حصيلتنا من النقود و رجعنا لصاحبة المكتبة لنشتري منها كل أصدرات المركز في ذلك الوقت في مجازفة مالية لكل ما ندخر ، تمتنت علاقتنا بصاحبة المكتبة و أصبحنا من صغار الزبائن المحترمين ، نأتي و نسأل عن الجديد و نجري حورات و نقاشات عديدة .
..من الأشياء التي لفتت نظرنا في ذاك الوقت قوة الطرح و موضوعيته في القضايا المتناولة في حشايا الأصدرات و كذا الأغلفة التي تحمل شعارات غير مسبوقة في فضاء الكتب السودانية و من ضمنها هزيمة المشافهة و قهر سلطة البياض و هي فيما تعني الحث علي الكتابة و التأليف و تحويل المناظرات و الحورات بين النخب الي فعل مكتوب يبقي قنديل ضوء لأجيال السودانيين في تبادل للخبرات و وصل لحلقات تاريخنا المتقطعة و هذا هو أثر المفكر أو ألق الفكر الذي يتتبع منابع و أصول الفكر السوداني و يسلط عليها الدراسات و النقاشات حتي يبين صدقية هذه المنابع أو أحقيتها في تثنم قمم الحضور المعرفي و الفكري و الثقافي .
..من هنا بدأت علاقتي الفعلية بدكتور حيدر أبراهيم قبل أن ألتقيه بعدها بسنين طويلة ..هنا لآبد ان أذكر شيء في تجربة صدقيته فيما طرح و هو كنت قد عزمت علي أختبار صدقية شعار هزيمة المشافهة و أرسلت نص لقصة قصيرة لقاص سوداني و صديق لا ينشر و لا يجد من ينشر له ..أرسلته مشفوعا بخطاب يوضح مكاني ببيروت و تفأجت بنشره من خلال ذات الصديق في السودان..أيضا تم من خلال مركزه نشر أول عمل روائي للأستاذ أبكر آدم أسماعيل ، غير المعروف حينها و هو ” المدن المستحيلة” ..علي أي حال هذه أشياء يمكن الرجوع لها في مظآنها و لكن ما يهمني هنا هو التحليق قليلا في مساهمات دكتور حيدر الفكرية و مواقفه الهامة جدا في لحظة من لحظات الرجوع بالوطن من مكتسباته التاريخية و التي أكتسبها بمشوار عناء كبير و كذا محاولة تفريغ متعمد لحوصلته و تشويه ماضيه و الأنقضاض علي حاضره و تطويع مستقبله ليطابق نسق القرون الوسطي في فكرة الدولة الثيوقراطية .
..في تلك الفترة كان د.حيدر و ثلة من مفكري و مثقفي السودان يحملون عبء الكتابة و الطباعة في ظروف أستثنائية ، و هذا سفر قمين بالكتابة عنه د.حيدر نفسه أو الذين رافقوه في تلك الفترة . علي أي حال لم نكن نعرف د.حيدر أبراهيم و هذا ليس لقصور منا و لكن كان السودان في رحلة أختطاف طويلة ، بدأت منذ ثمانينات القرن المنصرم و لصالح مشروع أسلاموي خطط منذ ذاك الوقت لعملية أختطاف طويلة و منظمة . فترة غيب فيه الفكر و المفكرين و كان حصادها الفداء الأعظم للفكر الأستاذ محمود محمد طه و مشروع هائل يفجر نواة الدين في مفهمومه التاريخي و تراثه الأختزالي الي باحات التفكر و تخليصه أيضا من حمولات أقعدت به من التحليق و التحاور و النهضة في مشهد عالمي يسابق الريح في الأفكار و المشاريع الحادبة علي تطوير أنسان هذا الكوكب و سحبه من تواريخ مثقلة بتراث مهره بالدم الي براحات يسودها الفكر و أحترام التنوع و تبادل المعرفة و أستنهاض المستضعفين في الأرض و بروز للقيم الفضيلة في حيز أو أن شئت في طور جديد من الأنسانية .
..كان د.حيدر أبراهيم العالم الأجتماعي و المفكر المشتغل علي عدة أنساق من الجهد المعرفي .أذ وظف كل جهد له في بناء موازي لذلك الذي يهدم الوطن و أنسانه بتوهمه بصياغته من جديد كما يخلق أنسان آلي في مختبر .
..حيدر أبراهيم تجشم عناء طرح أفكاره بصدقية عالية و نقد ذاتي و موضوعي و أستثمر كل السوح من الكتابات الي المشافهة في المؤتمرات و المناسبات و ورش العمل لدحض فرية و كذبة أن الدين من الممكن أن يسوق بهذا الشكل و هو القائل ” أن للدين معني كبير في حياتنا” و أيضا ” الدين مجاله الروح و الفلسفة العقل و الفن الوجدان ” .
..عندما كثرت مظالم هذا النظام و تجاوزت حدود المعقول و العرف ، لم يكتف د.حيدر بخلوة المثقف و لكنه جابه بلغة صميمة و فكرة صلدة لا تتواني عن المجابهة في كل لحظة و كل حين ، حتي وصفه قادة النظام المتهالك بأشرس المعارضين السياسيين أو المعارض الحاد جدا . كل ذلك يهضم بطبيعة الحال من نظام و عصبة هرقت كثيرا من لغة العوار طوال عقدين و نيف من الزمان في تجريح الناس و أذلالهم و الحض من قدرهم ، و لكن أن تصبح هذه المقولة تتردد علي الدوام حتي تجثم علي أذهان كثيرا من نخبة السودان فهذا _والله- عين مجانبة الحقيقة و فيه ما فيه من الوقوع الهش في براثن التأثير اللغوي و المعنوي لمنتوجات نظام أستطاع أن يخترق كثيرا من جهازنا المفاهيمي و أفكارنا للدرجة التي يصدّر بها مثل هذه الأقوال الجوفاء ..فكون نظام أشتهر بالسفه في القول و الممارسة يصدر مثل هذا التقييم فهو مقام شرف لمفكر بقامة د.حيدر أبراهيم ،لأنه يضعه في خانة المفكر الشاحذ لأفكاره و قدراته الكتابية في فضح منتوج نظام ?حتي لا نقل مشروع- هو في كل مراميه ضد الحياة في مختلف أنساقها و تراتبيتها .
..المأزق هو أن تصبح الحدية معزوفة للدرجة التي تحذف صفة المفكر و الألمعي ، المشتغل علي تحليل واقع منسوج من التناقض و المصاب بأدواء أقعدته عن مشروع بناء الدولة و الأمة الي مجرد صفة تبسيطية و مخلة و تجريدية لا تنتمي الي جودة التحليل و التقييم الحقيقي لرموز ظلت كل رسالتها و موضوعها هذا الوطن المدعو بالسودان .
..لذا يجب علينا الأنتباه دوما لتخليص عقلنا و قاموس مشافهتنا من تراث حقبة المشروع اللا حضاري و اللا أنساني ففيه كثيرا من الزيغ الذي المّ بحياتنا من طريقة لبسنا و حتي حياتنا و التعبير عنها .
..أكتب كلامي هذا بعد عكفي علي جل أنتاج د.حيدر أبراهيم الفكري و حتي مقالاته المتفرقة هنا و هناك . فهذا عقل جذوته التفكير و النقد و التحليل و الفحص الدقيق ، المتتبع لجذور أزمتنا و مكامن الداء فيها .. هذا العقل المفكر و المنتج بأستمرار لهو محمدة كبيرة في فضائنا السوداني اليوم و غدا ، و نحن قوم دوما ننصف الناس و نزنهم بمكاييل كبيرة و نجلهم و نحترم مجهوداتهم العظيمة و ما قدموه و نسمي المراكز بأسمهم و يظلون نجوم في سماء أرواحنا و معالم بارزة في تاريخنا السياسي و الأجتماعي و لكن ذلك للأسف بعد رحيلهم و كثُر منهم رحلوا من وطأة محبة هذا الشعب و الوطن و قلوبهم متحسرة عليه ..متعك الله بعافية البدن أبو مظفر و أنديرا و وقادة الذهن و صفاء القلب و الضمير .
((..أكتب كلامي هذا بعد عكفي علي جل أنتاج د.حيدر أبراهيم الفكري و حتي مقالاته المتفرقة هنا و هناك . فهذا عقل جذوته التفكير و النقد و التحليل و الفحص الدقيق ، المتتبع لجذور أزمتنا و مكامن الداء فيها .. هذا العقل المفكر و المنتج بأستمرار لهو محمدة كبيرة في فضائنا السوداني اليوم و غدا ، و نحن قوم دوما ننصف الناس و نزنهم بمكاييل كبيرة و نجلهم و نحترم مجهوداتهم العظيمة و ما قدموه و نسمي المراكز بأسمهم و يظلون نجوم في سماء أرواحنا و معالم بارزة في تاريخنا السياسي و الأجتماعي و لكن ذلك للأسف بعد رحيلهم و كثُر منهم رحلوا من وطأة محبة هذا الشعب و الوطن و قلوبهم متحسرة عليه ..متعك الله بعافية البدن أبو مظفر و أنديرا و وقادة الذهن و صفاء القلب و الضمير .))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أقولأنك أنصفت الرجل و قدرته حق قدره دون تذلف فهو كذلك في نظر الكثيرين ..
و هي عادتنا السيئة كأننا لا نعلم محاسن الناس إلا بعد موتهم ..
د/ حيدر رجل أمة .. و كفي ..
شكراً لك فقد أوفيت الرجل حقه
ليت معارضتنا السجمانة تستفيد من أمثاله ولكن……
المجتهد المسكون بحب الوطن والمعارف
الصديق العزيز الأستاذ جبير بولاد…
تحية الشوق الممدود ,,,,
أرجو أن تسمح لي بهذه المقدمة ذات الصلة من منظوري :
لو لم يكن لسنواتنا في بيروت إلا معرفتكم يا جبير لكفتنا !
من ضمن الملاحيظ الايجابية التي أكنها لـ لبنان أنه بلد ( متبرج المعارف ) فالمعرفة متوفرة ومكشوفة والرؤى فيه واضحة , بالرغم من المتاريس الموضوعة من قبل العقائديين وصراخ منابر الطائفية وأهل الارتزاق , وتوازنات القوة الخارجية المهيمنة على توزيع الأدوار وفق المصلحة والسيطرة والاستحواذ والاحتلال ـ السوري الإسرائيلي الإيراني ـ فيما مضى من وقت.. أقول رغم كل تلك المعضلات ظل لبنان بلد ينبض بالحرية مزدهر بالأفكار والمفكرين تطول فيه قاماتهم وتتعدد عنده مواهبهم ومؤلفاتهم , وهو بذلك عكس السودان الذي لم يستطع تجاوز المعضلات التي تواجهه , فالناظر للطريقة التي تدار بها الأزمة في السودان يجدها (منتجة) للأزمة وليست باسطة للحل!؟ وحصيلتها التفاقم والتدوير بدلا عن الذبول والتجاوز , وهذه المصيبة ليست ماركة مسجلة للشرذمة المعتوهة الحاكمة وحدها وإنما تشاركها بكل أسف قوة غير مستهان بها من أحزاب لم تتطور وجماعات معارضة غير فاعلة تتعامل وفق منطق ردة الفعل, ورؤساء تحرير صحف كأن وظيفتهم الأساس تغبيش الوعي وتزييف الحقائق وأقلام مأجورة , وفوق ذلك نمط تفكير ديني مغلق أنتشر وتمدد بمعدل سريان سرطاني في جسد منهك كاد أن يتجاوز الوقت المسموح له فيه بالعلاج ! فالبلد رغم ما آل إليه من تمزق وحروب طاحنة تقودها سلطة غاشمة على شعوب مستضعفة محرومة من التنمية والثروة والسلطة والرعاية منذ الأزل ,لم نسمع بمظاهرة واحدة ضد المذابح وحرق القرى والإبادات التي تعد بمئات الألوف سواء كان في دارفور أو جبال النوبة والنيل الأزرق وجنوب كردفان! ففي وقت الهلوكوست هذا إذا أوقعك حظك العاثر في سماع مدعي الفكر والخلاص من قادة الأحزاب المترهلة التقليدية تجده يتشدق كالسلطة الحاكمة تماما بما يسميه (الثوابت وقواطع الشريعة) ؟! كأنهم ما دروا أن الوطن والمواطن قطع إربا إربا بهذا الغباء السياسي والانسداد المفاهيمي … فصاحبك المحتفى به قلمك المنير اليوم ليس من هؤلاء , بل هو عكسهم تماما , وقد كانت بداية معرفتي له عام 1996 ببيروت أيضا من غير ان ألتقي به وذلك بواسطة صديقنا الفنان عمر دفع الله والأستاذة هويدا عبد الله التي كانت في تلك الفترة تعد في رسالة ماجستير عن فلسفة الإمام المهدي الاجتماعية . وكانت المناظرة السياسية التي جمعت بينه وحسين خوجلي في إحدى الفضائيات ( لا أذكر أسمها الآن ) أول مرة أستمع له فيها , وقد لفت انتباهي قوة حضوره ووضوح رؤيته وشجاعته في الطرح والأخيرة هي التي مكنته من طرح الأفكار التي يؤمن بها بوضوح وقوة كما هي صفة تميزه عن كثير من كتاب الرأي لدينا !
ولعل المدقق في كتابات وأطروحات الدكتور المفكر حيدر إبراهيم يصل إلى أن تلك الأفكار والرؤى هي نتاج العقل الموضوعي لا العقل الرغائبي الذي يفكر كما يتمنى ويرغب ! وهو موضع له فيه سبق ونكهة تخصه..
والخلاصة أن كتابات المفكر د. حيدر إبراهيم علي , مختلفة من ناحية الشكل والمضمون وهي إضافة ولبنة لمشروع فكري نهضوي حداثوي مرتكزه الأساس العقل ومكتسبات الإنسان التراكمية …
شكرا لك مرة أخرى أخي جبير لهذه النزهة الممتعة في حضرة رجل استثنائي ,
ونسأل الله ان يبارك له في أيامه , وأن يفيدنا والأمة من أطروحاته وأفكاره .
مع عظيم المحبة
أبوبكر
محترق القصيم
جميل ان نتغنى بامثال د.حيدر كما فعلت أنابة عنا
الصديق جبير لك التحيه