بريطانيا في أزمة منتصف العمر.. بقاء لا مفر منه في أوروبا

أسبوع واحد يفصلنا عن موعد الاستفتاء بشأن بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي أو خروجها منه، فيما يبدو أن حملة ?التخويف? من البقاء لاقت صدى حيث سجلّت استطلاعات رأي أن 53 بالمئة من البريطانيين يؤيدون الخروج من الاتحاد.
العرب أحمد أبو دوح
لندن ? كان أنيس انيل ادريس يرتدي بدلة كاملة وهو يركض خلف شباب يسيرون مسرعين في أحد شوارع حي تاور هامليتس في شرق لندن محاولا إقناعهم بالمشاركة في استفتاء خروح بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المقرر يوم 23 من الشهر الجاري.
وكان أنيس، المتطوع في صفوف منظمة ?أبرايزينغ? المعنية بالتوعية السياسية، يقول للشباب، الذين لم يبد الكثير منهم أي اهتمام، ?لا أحاول أن أبيعك شيئا، الأمر يتعلق بالتصويت في استفتاء الاتحاد الأوروبي?.
وتظل مهمة أنيس، وكثيرين مثله، صعبة للغاية، إذ يحاول استقطاب طبقة الشباب البريطاني الذين لا يعرفون الكثير عن أبعاد علاقة بلادهم بالاتحاد الأوروبي، التي باتت على المحك.
والكثير بين الشباب الآخرين الذين عقدوا العزم على التصويت لصالح البقاء في الاتحاد يتفقون مع محللين اقتصاديين يلخصون الصراع المحتدم بين السياسيين في الخروج من سوق تحظى بناتج محلي يصل إلى 18 تريليون دولار كل عام من أجل إعادة التفاوض على الاستفادة من هذه الثروة الهائلة.
وتقول حملة البقاء في الاتحاد، التي يتزعمها رئيس الوزراء ديفيد كاميرون ومعه وزير الخزانة جورج أوزبورن، إن هذا التوجه لا يحمل أي منطق يذكر.
ويستهدف كاميرون التصويت في الاستفتاء على بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي بنسبة تقترب من 60 بالمئة. ويعتقد مستشارون له أن هذه النسبة هي الحد الأدنى لدفن ?قضية أوروبا? وضمان قدرته على الاستمرار في منصبه حتى عام 2020.
وتشير استطلاعات الرأي إلى نتائج متقاربة للغاية، لكن هؤلاء المستشارين يعتقدون أن الفوز بهامش قليل لا يكفي، فدون الفوز بفارق واضح سيبقى كاميرون عرضة لخطر تمثله القضية التي أسقطت اثنين من أسلافه، هما مارغريت ثاتشر وجون ميجور، وأنهكت حزب المحافظين لعقود.
لكن أعضاء حملة الخروج من الاتحاد، بقيادة رئيس بلدية لندن السابق بوريس جونسون ووزير العدل مايكل غوف، يأملون في أن تحظى بلادهم بوضع جديد شبيه بالنرويج التي تحظى بالبقاء كجزء من السوق الأوروبية الأكبر في العالم، وفي نفس الوقت تبقى متحررة من التزاماته المتعلقة بالسيادة والتشريعات الملزمة.
وفي مكتبه المزدحم بالأوراق في شركة الإنتاج السينمائي ?إي وان? في وسط لندن، قال نيك رابر، البالغ من العمر 53 عاما، لـ?العرب? إن ?الخروج من الاتحاد سيعصف بالكثير من حقوق الموظفين والعمال مثلما يحدث في الولايات المتحدة، كالحد الأدنى للأجور والإجازات المدفوعة. أسعار الطعام سترتفع أيضا في اليوم التالي للخروج من الاتحاد?.
ووزعت ?إي وان?، التي تملك فروعا في أوروبا، أفلاما حصدت جوائز أوسكار، كان آخرها ?سبوت لايت? (دائرة الضوء) ومن قبله ?12 ييرز أسليف? (12 عاما من العبودية)، كما طرحت في الأسواق سلسلة أفلام ?توايلايت? الشهيرة. ومن المرجح أن يتأثر عمل الشركة، التي تعتمد على جمهور أوروبي عريض، وتتعاقد مع موظفين من جميع أنحاء القارة، إذا ما خرجت بريطانيا من الاتحاد، وقد تتكبد خسائر كبيرة.
وقال جيمس روبي، المحلل الاقتصادي، الذي عمل في السابق في بنك اتش اس بي سي لـ?العرب?، ?أنت تتحدث عن سوق يضم أكبر أربع دول من حيث الناتج المحلي. 95 بالمئة من قرارات أوروبا كانت في صالح بريطانيا، ومازلنا قادرين على استخدام الفيتو ضد أي قرارات ليست في صالحنا. يتمتع المواطنون البريطانيون بحق السفر والعمل والإقامة في الدول الأوروبية.. لماذا نقامر بكل هذا مقابل بعض التكهنات الضبابية، ومقابل الاحتفاظ بمبلغ 350 مليون جنيه إسترليني، كنا نسدده أسبوعيا للاتحاد، ولم نعد نفعل ذلك?. وأضاف ?على عكس ما يروج له بوريس، الهجرة تدعم معدلات النمو الاقتصادي، ولا تبطئها?.
الهجرة.. عقدة بلا حل
هجرة الأجانب لبريطانيا إحدى المعضلات المركزية في النقاش المحتدم بين معسكرين يزداد التنافر بينهما كل يوم. ويدفع اليمين الذي كان يتزعمه في السابق رئيس حزب الاستقلال نايجل فراج، وبات اليوم قادرا على استقطاب سياسيين يحظون باحترام واسع، باتجاه تقليص عدد الأجانب الوافدين على البلاد بقدر الإمكان.
ويقول قادة الخروج من الاتحاد إن الهجرة تسببت في استحواذ الأجانب على فرص العمل وأسهمت في تحويلات مالية ضخمة إلى خارج البلاد، كما تعمل على تغيير الطابع الثقافي المسيحي لبريطانيا.
ويقول كريس باتن، حاكم هونغ كونغ سابقا، الذي يعمل الآن مستشارا لجامعة أوكسفورد ?أكبر عدد من المهاجرين الذين يجذبهم نمو اقتصادنا المتسارع، يأتون من مناطق أخرى غير أوروبا، بينما نحاول الآن وقف الأوروبيين.. الأوروبيون من دون مواهب، هؤلاء الذين يأتون لترتيب الأرفف في السوبرماركت أو الذين يعملون في الحقول?.
وأضاف ?كم يأتي من هؤلاء؟ 5 آلاف؟ 10 آلاف؟ 20 ألفا؟ أكثر؟.. إذا فعلنا ذلك فسيضطر الكبار في السن والمحالون على المعاش النزول لجمع البطاطا?.
وتلقى مثل هذه الأفكار تجاوبا كبيرا في برامج تلفزيونية ليلية تجمع سياسيين وفنانين ومحللين اقتصاديين ورياضيين في مناظرات ساخنة كل يوم تقريبا.
ويسمح مقدم البرنامج عادة للجماهير التي تملأ المدرجات المقابلة بطرح أسئلة على نجوم المجتمع، الذين يدخلون أحيانا في مواجهات محتدمة، تثير حماس المشاهدين، الذين يكون بعضهم من المهاجرين.
ويقول نيك، الذي كان الإنزعاج باديا على ملامحه مما يطلق عليه دائما على صفحته على فيسبوك ?التضليل الممنهج? في إشارة إلى خطابات قادة الخروج، ?ستستمر الهجرة وحركة العمالة الوافدة سواء بقينا أو خرجنا. السوق هي من تقرر ما تحتاجه من عمالة. فقط المصابون بفوبيا الأجانب يستخدمون هذه اللهجة لتخويفنا من البقاء?.
ولاقت حملة ?التخويف? من البقاء في الاتحاد على ما يبدو صدى كبيرا قبل أسبوع فقط من الاستفتاء، إذ سجلت استطلاعات رأي أن 53 بالمئة من البريطانيين يؤيدون الخروج من الاتحاد. وكلما اقترب موعد الاستفتاء ازداد نشاط كاميرون، الذي يجوب البلاد طولا وعرضا ويركز على قطاعات التمويل وصناعة السيارات والصناعات العسكرية التي يعمل بها الآلاف من الموظفين. ونجح كاميرون في إقناع أكبر 10 نقابات في البلاد، طالما كانت خصما له، في إلقاء ثقلها خلف حملة البقاء في الاتحاد الأوروبي.
وقال مصدر مطلع على تحركات كاميرون في حزب المحافظين لـ?العرب? إن ?رئيس الوزراء يبدو متوترا?، على وقع استطلاعات الرأي.
وسبب توتر كاميرون هو قلقه على إرثه الذي عززته شجاعته السياسية في اتخاذ إجراءات صارمة ساهمت في عودة الاقتصاد البريطاني للوقوف على قدميه بعد أزمة عام 2008. لكن وسط جدل الحملة الصاخب، يرى كاميرون أمام عينيه تصدعات كبيرة تعصف بحزب المحافظين، ويدرك أن ترميمها ليس بالمهمة السهلة.
وقال المصدر لـ?العرب? إن ?كاميرون يعلم أن في صباح اليوم التالي للاستفتاء سيكون عليه النهوض بنفس المهمة الصعبة التي تعكف هيلاري كلينتون عليها الآن في أميركا.. لملمة شتات الحزب مرة أخرى?.
وقرابة نصف المحافظين أعضاء نشطون في حملة وطنية واسعة تروج لترك الاتحاد الأوروبي. وبين المعسكرين مازال كثيرون آخرون لم يحسموا أمرهم بعد، ومن بين هؤلاء تشارلوت ليزلي، النائبة المحافظة في مجلس العموم عن دائرة ?بريستول?، التي تحمل ريبة كبيرة إزاء قدرة دول أوروبا على إعادة بناء اتحاد تراه متراجعا.
وقالت ليزلي لـ?العرب? في رسالة بالبريد الإلكتروني ?حتى يصبح الاتحاد حقيقيا، وحتى يتخلص من مشروعه الفاشل والخطير لفرض التجانس بين دوله، ستظل بريطانيا في معضلة كبيرة سواء اخترنا أن نكون داخل الاتحاد أو خارجه?.
وأضافت ?السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو ما إذا كان الجدل حول البقاء أو الخروج سيكون كافيا لإيقاظ الاتحاد أمام مخاطر الأمن العالمي والداخلي التي يواجهها، والتي لعب دورا من قبل في خلقها.. لا أعتقد أن هناك إجابة واضحة?.
وتعززت مخاوف الأمن خصوصا بعد الهجوم الذي حدث قبل يومين على ناد للمثليين في مدينة أورلاندو في ولاية كاليفورنيا الأميركية الذي راح ضحيته قرابة 50 شخصا. ولم يتضح بعد ما إذا كان منفذ الهجوم يحمل دوافع إسلامية متشددة، لكن الحادث ترك في كل الأحوال بصمة عميقة في نفوس الرافضين للاتحاد والمشككين في الجدوى منه، الذين يعتقدون أنه المصدر الرئيسي للمهاجرين الحالمين بالعيش في بلادهم.
وحتى الكثير من العرب المقيمين في بريطانيا باتوا لا يترددون في التعبير عن مخاوفهم من المتشددين الإسلاميين وعناصر لها صلات بتنظيم الدولة الإسلامية، أكثر من قلقهم من صعود اليمين المتطرف في حال لم تعد بريطانيا عضوا في الاتحاد.
وقال عماد (45 عاما) الذي يدير مطعم مأكولات لبنانية في حي هامرسميث غربي لندن ?الأسلم لنا هو الخروج من هذا الاتحاد الذي يأتي منه المتشددون، ويؤثر على حياتنا ويتسبب في رفع تكاليف الدراسة الجامعية وزيادة الضرائب المفروضة على أشغالنا?.
وأضاف وهو يقلب أسياخ اللحم المشوي استعدادا لتقديمها لزبائن عرب كانوا ينتظرون على طاولة قريبة ?لو بقينا سنظل في هذه المأساة. لا أعتقد أن مغادرة الاتحاد ستزيد من سطوة اليمين?.
إغلاق العين عن الحقيقة
عندما انضمت بريطانيا إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية في سبعينات القرن الماضي، كان ينظر إليها على أنها ?رجل أوروبا المريض?. وكانت معدلات النمو البريطانية خلف فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
ويتذكر البريطانيون كيف عكس سلوك أوروبا أجندة فرنسا، خصوصا في سياسات الإنفاق والدفاع والهيمنة على باقي دول الرابطة الوليدة. وخلال أربعة عقود تمكنت بريطانيا من تحويل هذا السلوك لصالح دائرة أوسع من الأعضاء الجدد.
ويقول باتن ?بقيت بريطانيا خارج اتفاقية شينغن ودول اليورو، وحققت نموا أسرع من أغلب هذه الدول، وتستعد خلال العقدين القادمين كي تصبح الاقتصاد الأكبر والأكثر نجاحا في القارة?.
و?البراغماتية الاقتصادية? ستكون على الأرجح المحرك لملايين البريطانيين لتحديد موقفهم، ولنخبة يتصارع كل معسكر فيها لإثبات أنه أكثر براغماتية من المعسكر الآخر.
لكن في الأرياف والقرى الصغيرة، حيث تغلب الزراعة وتربية الخيول على سكان أغلبهم من البيض، قد تدخل عوامل أخرى على الخط. والرغبة في عقاب الطبقة السياسية المتهمة دائما بـ?الخداع? أحد هذه العوامل، إذ قد يتسبب الشعور بالتهميش المسيطر على هذه الفئات المنعزلة إلى حد كبير في تصويت واسع النطاق لصالح اليمين الداعم للخروج من الاتحاد الأوروبي.وتشكل هذه الفئات جمهور حزب المحافظين التقليدي، ويميل بعضها لحزب الاستقلال.
وعلى العكس، تكتظ المدن الكبرى، خاصة العاصمة لندن، بمهاجرين من جميع قارات العالم، وتصوت أغلب أحيائها، التي تحظى بتنوع ثقافي وإثني كبيرين، لصالح حزب العمال اليساري الداعم للبقاء في الاتحاد.
ويملك ويليام باري، الحاصل على دكتوراه في العلوم الاجتماعية، مكتبا استشاريا يعمل مع الحكومة على وضع برامج العدالة الاجتماعية. ويقع مكتبه في حي ?وايت تشابل? في شرق لندن، الذي تسكنه غالبية من المسلمين من أصول آسيوية.
وقال باري لـ?العرب? إن ?التصويت لصالح اليمين غالبا ما يكون تصويتا عقابيا، وهذا ما يحدث الآن إزاء حملة الخروج من الاتحاد. الناس يشعرون أن حياتهم صارت أصعب منذ الأزمة الاقتصادية عام 2008، ويعانون بسبب الإجراءات التقشفية التي تعتمدها الحكومة?.
وأكد باري أن ?معظم الناخبين ليست لديهم المعرفة التي تساعدهم على تحديد مواقفهم، فيصبحوا عرضة لترويج اليمين كي يصوتوا لصالح الخيار الآمن، وهو الخروج?.
والخيار الآمن، من وجهة نظر باري وشباب كثيرين غيره ممن حظوا بتعليم متقدم، هو البقاء حتما في الاتحاد الأوروبي ?الذي يتيح أمام بريطانيا فرصا اقتصادية هائلة، وتوفر قوانينه ضمانا للحقوق والحريات، ويبقي على تدفق المهاجرين الذين يساعدون اقتصاد البلاد على المضي قدما?.
وترحيب كاميرون بالمهاجرين يزعج اليمينيين كثيرا، لكنه يشعر جيرمي كوربين، زعيم حزب العمال، بالارتياح.
ورغم ذلك تردد كوربين، الذي يحظى بشعبية كبيرة وسط جمهور اليساريين، في دعم كاميرون، إذ وقفت تناقضاتهما السياسية عائقا في طريق توحيد أجندتهما.
وبقي حزب الديمقراطيين الأحرار، الذي كان حتى وقت قريب شريكا لكاميرون قبل أن تطيح به انتخابات يوليو 2015 من الحكومة، في الظل، ورفض الدخول في أي مواجهة مع اليمين، خصوصا حول الهجرة.
ويقول كريس باتن ?دمّر الاقتصاد وحينها سيمكنك فعلا إبطاء الهجرة التي ساعدتنا على النهوض ووفرت عددا غير مسبوق من الوظائف لرجال ونساء بريطانيين?.
وأضاف ?الصورة تتلخص في ما قاله فرديناند ماونت، الرئيس السابق لوحدة السياسات التابعة لثاتشر: سنجد الداعين إلى الخروج من الاتحاد في يوم يغنون ?لا أحد يحبنا، ولا نهتم?.. سيستمرون في ترديد هذه الأغنية كفريق كرة قدم على طول الطريق إلى دوري الدرجة الثالثة?.
كاتب مصري مقيم في لندن
أحمد أبو دوح