حوار مع نائب الرئيس

حوار مع نائب الرئيس

فايز السليك

كنت قد كتبت يوم الثلاثاء الماضي عن المؤتمر الصحفي الذي عقده نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه، ودعا فيه إلى الحوار مع القوى السياسية، وأكد فيه أن “النظام الذي يخشي الحريات لا بقاء له”، وتحدث فيه عن ملامح “الجمهورية الثانية”، وقلت ” نتفق مع نائب الرئيس ولكنا نريد تفسيراً”، وكان العمود مروراً سريعاً على حديث الأستاذ طه في نفس يوم المؤتمر، لكن في اليوم التالي استوقتني عدد من تعليقات كتاب المؤتمر الوطني، والمحسوبين عليه، والتي سار معظمها في اتجاه توزيع باقات الاعجاب بالمؤتمر، وبرسائل طه، وما ورد فيه من أفكار، ثم جاءتني رسالةً من الأستاذ كرم الله يعقب على ماكتبت بقوله “لا نتفق مع نائب الرئيس، ولكل ذلك قررت الدخول في حوار افتراضي مع نائب الرئيس حول قضية الحريات ، والحوار السياسي مع القوى المعارضة، بعد أن قرأت حيثيات المؤتمر الصحفي أكثر من مرة، وما رود فيه باعتبار أن الأستاذ طه “قليل الكلام، وليست له ميول في الظهور أمام كاميرات التلفزة، وعدسات المصورين، وأجهزة تسجيل الصحافيين، ويظل يقبض “خلف الكواليس” بكثير من خيوط القضايا بطريقته الخاصة، والتي يبدو أنها طريقة اكتسبها من بقائه في مؤسسات الدولة لأكثر من 30 عاماً، ليحقق الرقم القياسي بين القادة السياسيين السودانيين في “وظيفة الميري” على مستوى قيادي، والجلوس فوق قمة الهرم ، فقد صعد طه فوق هذه القمة بعد سنوات قليلة من تخرجه من كلية القانون بجامعة الخرطوم، وربما لهذا السبب يظهر تفكير “الحركة الاسلامية الطالبية” بمناهجها “البراغماتية، وطرائق تفكيرها في التعامل مع الآخر، وابتداع كثير من الوسائل لتحقيق غاياتها، بغض النظر عن نوع هذه الواسائل؛ تزوير انتخابات، أو ممارسة العنف اللفظي والجسدي مع الخصوم، أو “الأعداء”.وكذلك تفسير معنى الحرية، والمشاركة وفق ما يقتضي “الظرف”.
و طه لم يمارس العمل كموظف في مؤسسات الدولة، ودواوينها من الدرجات الدنيا، اذ أنه بعد سنوات قليلة من تخرجه دخل إلى مجلس الشعب بعد المصالحة بين نظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، والأخوان المسلمون، لينهي “تعاونه ” مع مايو كرائد لمجلس الشعب، وهو مؤسسة مايوية، احتكرت الرأي في داخلها، وتعمل على تجميل وجه السلطة العسكرية والديكتاتورية، بدعوى وجود حوار، أو انتخابات تفصل على قدر مقاس الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، ومن يود دخولهم إلى “مجالس التشريع” الصورية، لكن نجم الأستاذ طه كمعارض، ومنافح من أجل الحرية بزغ في الفترة من 1986 ? 1989، وهي فترة الديمقراطية الثالثة كزعيم للمعارضة، وبعد انقلاب يونيو عاد طه مع الانقلابيين خلف الكواليس، ثم وزيراً لأكبر وزارة أنشأتها الانقاذ بحجم طه، وحملت اسم التخطيط الاجتماعي، ليعمل بعد ذلك وزيراً للخارجية ثم نائباً أولاً بعد رحيل الفريق الزبير محمد صالح ؛ حتى توقيع اتفاقية السلام الشامل في عام 2005، وترك المنصب لزعيم الحركة الشعبية الراحل الدكتور جون قرنق، ثم سلفه الفريق أول سلفاكير ميارديت، ويكتفي الرجل بعد أن ساهم في صنع السلام بمنصب نائب الرئيس، ولا يزال.
ولست هنا بصدد تحليل لشخصية نائب الرئيس، بقدرما قصدت بهذه المقدمة ، وتحتوي على معلومات معروفة لدى معظم القراء؛ أن أضع الأستاذ طه في سياق تطوره السياسي، والملابسات التي ساهمت في طريقة تفكيره، بما في ذلك الممارسات التي ألقت بظلالها على منهج تفكيره، وروؤيته للأمور السياسية، وهو في الغالب ، منهج “براغماتي” ؛ وجاء في اليوكوبيديا أن البراغماتية تعارض الرأي القائل بأن المبادئ الإنسانية والفكر وحدهما يمثلان الحقيقة بدقة، معارضة مدرستي الشكلية والعقلانية من مدارس الفلسفة. ووفقا للبراغماتية فان النظريات والمعلومات لا يصبح لها أهمية إلا من خلال الصراع ما بين الكائنات الذكية مع البيئة المحيطة بها. و يعتبر مؤسسها هو تشارلز ساندر بيرس ” 1839 ـ 1914 ” م،(أول من ابتكر كلمة البراغماتية في الفلسفة المعاصرة) هوصاحب فكرة وضع (العمل) مبدأ مطلقًا ؛ في مثل قوله : “إن تصورنا لموضوع ماهو إلا تصورنا لما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا أكثر “.
ولذلك حين يدعو الأستاذ علي عثمان محمد طه إلى الحوار، فهو في الغالب يهدف إلى الوصول إلى ما يحافظ على بقاء “نظام الانقاذ”، بمثلما حصل بعد توقيع اتفاق السلام الشامل، والغرض من الاتفاق لم يكن هو بالطبع ” اقتناعاً” بحقوق السودانيين الجنوبيين في محاصصة السلطة، وقسمة الثروة، وتحقيق السلام الشامل، والعدل لكل السودانيين، وبسط الحريات، وتحقيق التحول الديمقراطي، ليتم بعد ذلك استفتاء تقرير المصير في مناخات تجعل من “الوحدة خياراً جاذباً”، وحتى التوقيع على الاتفاقية كان نتاج لموزانات سياسية داخلية، واقليمية ودولية، وضغوط من هنا وهناك، وخضوع لما يعرضه المجتمع الدولي، من “عصا أو جذرة”، وبعد التوصل لحقيقة أن الانقاذ لا بد لها من التوقيع على اتفاق السلام الشامل، ذهب الانقاذيون في ذات المنحى، مع ضرورة الحفاظ على الانقاذ” 53% من السلطة، وبقاء المؤسسات الأمنية، ومناهج الحكم القديمة ذاتها؛ مع قليل من “مرونة” أو “انحناء عند العواصف”.
وربما يعتبر البعض أن اسنتتاجتنا هذه ” هي ” استنتاجات تنطلق من مواقف سياسية معارضة” على طريقة وعين السخط تبدي المساوئا”؛ إلا أن قرائن الأحوال، وما تمخض ذلك بعد ست سنوات، بما في ذلك نتيجة “الانتخابات “الأخيرة، وما تبعها من ” قمع لمظاهرات، ” واعتقالات، وتعليق صدور صحف، يؤكد ما ذهبت إليه، وهو أن كل مشروع سياسي، أو موقف جديد لدى الانقاذ يهدف في نهاية المطاف إلى استمرار النظام بذات التركيبة، والعقلية، و”المشروع الحضاري”، وهو ما أطلقت عليه “النسخة الرابعة من الانقاذ”. وقد كتبت بعد الانتخابات مباشرةً “للملك الفرنسي لويس السادس عشر مقولة محفوظة، وهي (أنا الدولة ، والدولة أنا)، أما الروائي غابريال غارسيا ماركيز فقد لخص الأمر في رواية خريف البطريرك التي يقول فيها (؛ ديكتاتور كلّي الوجود، يعلن حالة حرب على كل منافسيه، من الأطفال إلى الكرسي البابوي في روما… حيث يقول في ذروة خريفه، عاش أنا… يموت ضحاياه: أطفال و معارضون، رجال دين و متمرّدون، هنود و هندوسيون، عرب و مضطهدون آخرون. عاش أنا).
ويبدو أن الحالة البطريركية الكاريبية تنطبق علينا فها هي الأرواح المستنسخة، تنشطر فوق مسرحنا العبثي ؛ كنتاج طبيعي للقبضة القوية على مقاليد السلطة لأكثر من عشرين عاماً.
وها هي النسخة الجديدة للمؤتمر الوطني تقترب من الظهور بعد بضعة أيام، و لم يتبق للمؤتمر الوطني سوى أن يعلن نتيجة الانتخابات بفوز مرشحه عمر البشير، بنسبة أكثر من 70% ومن ثم تشكيل حكومته ، وهي ذات الحكومة، مع تغيير نسبي في بعض الوجوه”.
وفي هذا السياق يمكن الاشارة إلى ما ذكره الأستاذ علي عثمان محمد طه خلال مؤتمره الصحفي الأخير، وهو موضوع حوارنا؛ حيث قال ” بلا شك لدينا ثوابت من خلال تراكم التجربة السياسية في البلاد يمكن ان يبنى عليها كثير من القواسم المشتركة التي تعين على تنظيم الحياة السياسية، وقيادة الحوار السياسي الذي أطلقه البشير ونؤكده الآن”. وطالب بضرورة التفكير وفق هذا الأفق الجديد، ، وذكر طه “أن الحوار السياسي الذي أعلنه البشير وتعد الدولة لإنطلاق آلياته سواء على المستوى الحزبي، أو الرسمي في الدولة؛ ليس مناورات سياسية لكسب الوقت، أو تسجيل نقاط سياسية تكتيكية؛ وإنما حوار سياسي نريده مسؤولاً وجاداً، وذا أفق وبصر استراتيجي يتجاوز القضايا الصغيرة هنا وهناك لينظر في كيفية حماية السودان وبنائه وحمله الى مصاف الرقي. وقال إن هذا الحوار لن يكون نشاطاً تهويمياً نظرياً بل لابد له من مرتكزات ونقاط ينطلق منها.
لقد دعا طه لإدارة حوار وطني واسع حول كيفية شكل الدولة من حيث الدستور الانتقالي، وأضاف “نحن ملتزمون بالنظام الرئاسي والحكم الفيدرالي، ولكن هذا لا يعني عدم الاستماع لوجهات النظر التي يمكن ان تعين على تطوير التجربة وتقديم البدائل … وهنا مربط الفرس؛ تطوير التجربة، لا التفكير في تجربة جديدة، وهناك من التجارب النظام البرلماني، ومن جوهر حديث طه فإن مثل هذه التجربة ليست من المطلوبات في الحوار السياسي، كما أن طه شدد على ما يعرف في فقه الانقاذ “بالثوابت”، وكلمة “ثوابت تنسف كل تحرك نحو الحوار، لأن هدف الحوار هو “التغيير”، وليس ” الثبات”، وثوابت الانقاذ معروفة، وهي “المشروع الحضاري بشريعته الاسلامية وفق مفهوم “الانقاذ”، والنظام الرئاسي، وقد شدد طه كذلك على بقاء المؤسسات التي تمخضت عنها الانتخابات، وهي الرئاسة، والبرلمان، قائلاً ” إن الغرض من الحكومة ذات القاعدة العريضة توسيع المشاركة”، وأكد عدم الاتجاه لقيام إنتخابات جديدة، أو تفكيك المؤسسات القائمة حالياً، وأشار الى أن هذا الأمر حسمه الدستور، وأكد ان الحوار السياسي حول( كيفية توسيع المشاركة)، وتحديد مستوياتها سيكون مطروحاً سواء في مجلس الوزراء أو غيره.
وهو ما يجعل من مشاركة الآخرين في الحوار؛ نوعاً من “العلاقات العامة”، والمشاركة في المؤسسات نوعاً من “التوظيف”، ولو بدرجة وزير!. وبالطبع فإن “الانقاذ” مستعدة تماماً لتعيين عشرات الوزراء، وقدرهم من المستشارين، والمساعدين، بلا أعباء، مقابل أن يتحولوا إلى ” ديكورات” داخل بهو القصر المنيف!. فكم من الوزراء مروا من هنا؟. وكم من جيوش المستشارين عبرت بباب القصر؟؟!. و”الانقاذ ” باقية”، والأزمة تراوح مكانها..!.
فإذا كان هدف الحوار هو تطوير التجربة، فهذا يعني أن الهدف النهائي من رفع شعار الحوار مع الآخر، هو إعادة انتاج الأزمة من جديد؛ باجراء تغييرات شكلية، تبقي على جوهر مشروع “الانقاذ”، وهو الاستبداد، وما يتخمض عنه ، أو ربما تكون الدعوة في حد ذاتها نوعاً من التكتيك، والمناورة، و”الانحناء للعواصف التي فعلت فعلها في جوهر الأنظمة العربية القريبة، من تونس إلى مصر، والبقية في الطريق.

[COLOR=blue]حوار مع نائب الرئيس حول “الجمهورية الثانية” (2- 2)[/COLOR]

في الجزء الأول من هذا المقال خلصت إلى أنه اذا كان الغرض من الحكومة ذات القاعدة العريضة، هو توسيع المشاركة”، وعدم الاتجاه لقيام إنتخابات جديدة، أو تفكيك المؤسسات القائمة حالياً، مثلما جاء في حديث نائب رئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان محمد طه فإن مثل هذا الرأي، هو ما يجعل من مشاركة الآخرين في الحوار؛ نوعاً من “العلاقات العامة”، والمشاركة في المؤسسات نوعاً من “التوظيف”، ولو بدرجة وزير!. وبالطبع فإن “الانقاذ” مستعدة تماماً لتعيين عشرات الوزراء، وقدرهم من المستشارين، والمساعدين، بلا أعباء، مقابل أن يتحولوا إلى ” ديكورات” داخل بهو القصر المنيف!. فكم من الوزراء مروا من هنا؟. وكم من جيوش المستشارين عبرت بباب القصر؟؟!. و”الانقاذ” “باقية”، والأزمة تراوح مكانها..!. وكم من الاتفاقات وقعت؟. الخرطوم للسلام.. نداء الوطن.. مبادرة الهندي.. اسمرا.. القاهرة.. نيفاشا.. أبوجا!!
فإذا كان هدف الحوار هو تطوير التجربة، فهذا يعني أن الهدف النهائي من رفع شعار الحوار مع الآخر، هو إعادة انتاج الأزمة من جديد؛ باجراء تغييرات شكلية، تبقى على جوهر مشروع “الانقاذ”، وهو الاستبداد، وما يتمخض عنه، أو ربما تكون الدعوة في حد ذاتها نوعاً من التكتيك، والمناورة، والانحناء للعواصف التي فعلت فعلها في جوهر الأنظمة العربية القريبة، من تونس إلى مصر، والبقية في الطريق. ومثل هذه الاشارات ترسل رسائل تؤكد أن الغرض من الحوار لم يكن هو “التغيير”؛ مع أن التغيير، هو سنة الحياة، وسمة الأشياء، والنهر ذاته عند بعض الفلاسفة ليس هو النهر الذي رأيته يوم أمس، لأن الماء يجري، ولا يقف سوى ذلك الراكد، إلأ أن الانقاذ تدمن تعشق “الثوابت”، أو ربط مصيرها بمصير عناصرها، فالوطن سيتعرض للمخاطر، ما لم يحكمه المؤتمر الوطني، وكأنه وطن ظهر في حيز الوجود في عام 1989، وهي مقولة لدى كثير من أنصار الأنظمة الشمولية، ومن سدنة الاستبداد، فتسمع في كثير من البلدان مقولة أن ذهاب هذا “الزعيم” يعني انهيار الحزب، أو الوطن كله، وخسارة هذا “الحزب للانتخابات” تعني خسارة للمواطنين، دون أن ينظروا إلى الكون من حولنا، وتلك الدول التي تتداول السلطة، وتلك الأيام نداولها بين الناس، ولا تحتكر الثروة، فما نالت سوى التقدم، والنماء، والرفاهية، فكم من رئيس حكم الولايات المتحدة الأميركية خلال عشرين عاماً؟. وبريطانيا؟. وفرنسا؟. وكم مرة فقد الحزب الديمقراطي أو الجمهوري أو الاشتراكي، أو حزب العمال؟. فهل تعطلت عجلة التقدم في هذه البلدان لذهاب ريغان، أو كلينتون، أو تاتشر، أو ميجور، أو ميتران؟.
إن التغيير الديمقراطي في مثل هذه البلدان غير شك هو تغيير محكوم برأي الشعب، وبمراقبة الأجهزة التشريعية، وبسلطة الصحافة، وبأضواء الاعلام؛ على عكس الأنظمة الشمولية، والتي ترفض فتح نوافذ لدخول الضوء عبر أضابيرها، وكواليسها، فتدب علامات الشيخوخة في أوصال الجسد الضعيف رويداً رويدا، فيصاب بالضمور والعجز، وعدم القدرة على الخلق والابتكار، ثم يصل مرحلة الشلل وتحلل الجسد، والموت الاكلنيكي، ولو ظل مثل “فزاعة، أو هيكل سليمان”، ولو استمر الأمر كذلك عشرات السنين، لكن لا بد من تحرير شهادة الوفاة يوماً ما! ودليلنا على ذلك موجات الغضب من حولنا، ورياح “التغيير” التي تهب في داخل الاقليم، وبوادر الاصلاح السياسي والديمقراطي والاقتصادي التي تبدو في الأفق، مثل تلك الدولة التي تعلن اعتزامها الغاء حالة الطوارئ بعد 19 عاماً، أو ذلك “الزعيم” الذي يعلن عدم ترشحه، أو اغلاق باب توريث الحكم، بعد أن أصبح “موضةً” في العالم العربي.
ونعيد هنا اتفاقنا مع قول الأستاذ طه في مؤتمره الصحفي “النظام الذي يخشى الحرية لا مستقبل له، كذلك الذي يضيِّق على مواطنيه سيدفعهم نحو الانفجار”، وحين يقول طه مثل هذا الحديث كنا نفترض منه لابداء الجدية في الحوار، أو ابداء حسن النوايا أن يبادر باطلاق سراح عشرات المعتقلين، وبينهم صحافيون، ونساء، وهم معروفون وعلى رأسهم الأمين العام للمؤتمر الشعبي حسن الترابي، وأكثر من 10 من أنصاره، وصحافيي صحيفة الميدان، وعضوات في الحركة الشعبية مثل سعدية عيسى، واحسان عبد العزيز، والآخرون تم القبض عليهم في تظاهرات، وبعضهم من مواقع العمل برغم أن الدستور يمنح الحق في التعبير، والتنظيم، والتجمع، والتظاهر، وأن قانون الأمن الوطني والمخابرات “على علاته” يحظر الاعتقال للنشاط السياسي، على حد زعم منظري الانقاذ حين كان للناس رأي في سلطات جهاز الأمن، وذلك الجدل الكثيف حول القانون، واجازته، والذي تمت مقايضته بقانون الاستفتاء على حق تقرير المصير!. وحتى التظاهر “المقيد” عند الانقاذ” يظل حقاً حصرياً على المؤيدين للحكومة، وحظراً مستمراً على المعارضين لها، ولذلك ليس غريباً في الخرطوم؛ أن نشاهد عشرات التظاهرات والمسيرات لمشجعي الهلال والمريخ، أو لمسيرات “النصرة”، ولو “لفلسطين، أو حتى “نمور التاميل”، أو رفض قرارات من المؤسسات الدولية، لكن ذات الحق يحتاج إلى اذن، مثلما أكد ذلك الأستاذ طه بقوله “ليست هناك حرية بلا قيود وبلا حدود، ومن يريد تسيير تظاهرة عليه إتباع الإجراءات القانونية”، لكن من يمنح التصديق.؟. ومن يسمح للناس بالتظاهر؟. وكم مجموعة ذهبت لتصديق، فنالت هذا الحق؟؟؟. أهي مسيرات “لا لقهر النساء”، أم “مسيرات المعارضة” في دسيمبر 2009؟. وهي تظاهرات حملت ذكرى سيئة للنظام، وذلك باعتقال رئيس الكتلة البرلمانية للحركة الشعبية وأمينها العام، وبعض من الدستوريين؟؟. أم هي المسيرات التي تضرب ضرب غرائب الإبل؟. ولو كانت من خمسة أشخاص؟. وقبلهم تم اعتقال 67 صحافياً من أمام “البرلمان” يطالبون برفع الرقابة القبلية على الصحف، واجازة قانون جديد للصحافة، ثم كان اعتقال عشرات الناشطات أثناء تظاهرة تضامنية مع الصحافية لبنى أحمد حسين في قضية “البنطلون” الشهيرة، لتعيد الحكومة ذات الكرة، على خلفية حادثة “فتاة الفيديو” لتعتقل مجموعة “لا لقهر النساء”، والتي ظلت تعاني من “القهر”، والعسف”، و”العنف اللفظي”، والرسمي، وما كان الأستاذ علي عثمان محمد طه في حاجة للتطرق لمثل هذه النقطة، فهي مردودة عليه “والبيان بالعمل”!، لا سيما وأنه يتحدث عن “الحوار ليس تكتيكا”، ومن يخشى الحرية لا بقاء له، ومن المفارقات أن اليوم الذي كان يتحدث فيه خلال المؤتمر الصحفي، كانت الأجهزة الأمنية تحرم صحيفتين؛ هما “الصحافة”، و”أجراس الحرية” من التوزيع، ومعاقبتهما “بخسائر مالية” عن سابق اصرار وترصد!!. أما الحصول على تصديق للمسيرات في ظل الحكومة التي “لا تخشى الحريات” هو أقرب إلى حال من ألقي به في اليم، وهو مربوط اليدين والرجلين” وقالوا له ” حذار أن تبتل ثيابك”!.
إن الحوار بالنسبة للانقاذ في محصلته النهائية؛ يعني المحافظة على السلطة، ولو ذهب الوطن كله مثلما ذهب الجنوب، ويعني كذلك استمرار عناصر المؤتمر الوطني في الحكم، ولو بقي كل السودانيين داخل سجن “صغير”، أو “كبير”، وتعني مسألة الحوار كذلك الابقاء على امتيازات اقتصادية، وثروات كبيرة لم يرثها معظمهم، بل حصلوا عليها عن طريق السياسات المفصلة من أجل “التمكين”، وعن طريق الخصخصة والقروض والمضاربات والمرابحات على حساب الفقراء والمهمشين، و”الاحتكار ” ولو كره الكارهون.
إن أهل السودان بالنسبة للانقاذيين؛ لا يعرفون مصالحهم أكثر مما تعرف “الانقاذ”، ولا يفهمون أمورهم مثلما تفهم “الانقاذ”، لدرجة أنها يمكن أن تحدد لهم نوع ثيابهم، أو لونها، على طريقة قوانين النظام العام!.
وخلاصة القول؛ إن الانقاذ لو كانت جادةً في الحوار، كان لزاماً عليها أن تبتدر هي الحوار، ودون شروط مسبقة، بل عليها أن تزيل كل معوقات الحوار من على الطريق، لتهيئة المناخ لذلك باتخاذ حزمة من الاجراءات التصحيحية؛ يمكن أن تعيد ولو قليلاً من الثقة المفقودة، وأن تبتدئ باطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين والصحافيين، والسماح بحرية التعبير، وتجميد القوانين المقيدة للحريات، وتشكيل حكومة انتقالية قومية تكون مهمتها حل الأزمة في دارفور عبر تسوية سلمية شاملة، وعادلة، والعمل على انتهاج سياسة اقتصادية جديدة تفك الضائقة المعيشية الحالية، وعقد مؤتمر دستوري؛ يحدد الدستور الدائم للسودان، بمشاركة كل السودانيين.
لكن!؛ ورغم تسونامي التغيير؛ يحاول “الانقاذيون” الالتفاف على العواصف، وعلى الحقيقة، مثل استبعاد حصول ثورات مشابهة لتلك التي اندلعت في المنطقة، بل أن أحد القيادات المتنفذة، وهو قطبي المهدي يرى أن السودان استبق تونس ومصر في الثورات، وكنا نظنه يريد أن يشير إلى ثورة أكتوبر 1964، أو أبريل 1985، لكنه يعلن أن الثورة كانت في عام 1989 في مغالطة كبيرة للحقائق وللتاريخ، وهي مغالطة لا تستحق الوقوف عندها كثيراً؛ برغم أنها تؤكد أن أهل الانقاذ لا يسمعون إلا أنفسهم، وهو ما يؤكده كذلك وزير الخارجية علي كرتي حيث؛ استبعد حُدوث ثورة شعبية ضد النظام في الخرطوم أُسوةً بما حدث في تونس ومصر، وقال إنّ السودان بلد عكس تونس تماماً. وأوضح في برنامج (مؤتمر إذاعي) أن تونس يحكمها منذ أكثر من عشرين عاماً حزبٌ واحد ودون إنتخابات، ويُمارس فيها الكبت على الشعب، وتفتقر للديمقراطية حتى على مستوى التعبير والصحافة. وقال كرتي إن السودان بلد تُجرى فيه الإنتخابات ويتميز بالتعددية والتوافق بينها، وحرية الرأي والتعبير والصحافة، وأضاف: (ليست هناك أية مُقارنة بين السودان وتونس وليس فيها ما نستفيد منه)، وتابع: تونس درس يستفيد منه آخرون غير السودان”. “انتهى حديث كرتي”، ولسنا هنا في حاجة لتكرار ما كتبناه في صدر هذا المقال عن الاعتقالات، أو حتى الانتخابات التي “خالفت المعايير الدولية، لكنني أشير إلى تصريح للمفارقة وللمقاربة، وهو لوزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط قبيل ثورة 25 يناير، فقد ” أكد أحمد أبو الغيط وزير الخارجية أن مخاوف البعض من امتداد ما يجري على الأرض في تونس إلي دول عربية أخرى بأنه “كلام فارغ، والتصريح بصحيفة “الأسبوع المصرية” وفي السابع عشر من ذات الشهر، أي قبل العاصفة بأسبوع واحد!. وما أشبه الليلة بالبارحة!. لكن ما لا يحب أن يسمعه قادة “الانقاذ”، هو بروز متغيرات كثيرة، مثل تدفق المعلومات عبر الانترنيت، في ظل وجود شباب طموح، يتوق للحرية، وللخبز، وللوظيفة، وللحياة الكريمة، ولا تستطيع “الشعارات القديمة أن تقنعه لأنها “لا تسمن، ولا تغني من جوع”، ولا تمنح “وظيفة”، وفي هذا السياق يرى محللون أن دولاً عربية كثيرة مرشحة لما أصبح يعرف بالسيناريو التونسي، إذ أنها “تعاني المشكلات ذاتها من البطالة، وارتفاع في الأسعار والخدمات، وكلفة المعيشة، إلى جانب ضيق المساحة الممنوحة للحريات المدنية وحقوق الإنسان”.
ووفقاً لتقرير التنمية البشرية لعام 2011، والذي يصدر عن الأمم المتحدة، تتذيل دول مثل مصر، والسودان، واليمن، والأردن، وليبيا، وسوريا، وغيرها، قوائم الترتيب من حيث نسب البطالة أو الإنفاق على التعليم، أو حتى حرية الصحافة وحقوق الإنسان، وغيرها من الحقوق المدنية. ويرى المحلل والإعلامي الاقتصادي محمد عايش أن هناك “على الأقل سبع إلى 10 دول عربية، تعيش أوضاعاً أسوأ من تلك التي في تونس”، قائلا: “في مصر هناك ملايين العاطلين عن العمل، وهناك أرقام مرعبة في دول مثل اليمن وموريتانيا”.
وأضاف في اتصال هاتفي مع CNN بالعربية من العاصمة البريطانية لندن: “الانفجار الاجتماعي متوقع ومرتقب في دول عربية أخرى، وسيكون أعنف بكل تأكيد، ذلك أن تلك الدول تعيش حالة أسوأ من تونس بكثير”. واعتبر عايش أن المشكلات في العالم العربي واحدة تقريبًا، وقال: إن “الاستبداد السياسي دفع الدول العربية إلى ذيل قوائم التنمية البشرية،” متسائلا: “لماذا ترتفع الأسعار ونسب التضخم والبطالة في أوروبا، ولا نرى انفجارًا شعبيًّا هناك؟ السبب هو أن الناس تشعر في الغرب بالعدالة وانعدام الفساد”.
ونصح المحلل الاقتصادي الدول العربية التي تعاني أوضاعاً على وشك الانفجار “بمحاربة الفساد، وتعزيز الحريات المدنية، والسعي نحو مزيد من الانفتاح”، معتبراً أن ذلك “هو الضمانة الوحيدة” لاستمرار تلك الأنظمة.
إن طه حين يدعو إلى قيام جمهورية ثانية، على أنقاض الأولى؛ بعد انفصال الجنوب، نتوقع من شخص في بذكائه، وخبرته، وما يوصف به من عقلانية يدرك؛ أن انفصال الجنوب كان بسبب سياسات القمع، والتهميش، والاصرار على “ثوابت المشروع الحضاري”، وهي أسباب كافية أيضاً لنسف جمهوريته الثانية، لأن القضايا هي ذات القضايا، والتنوع هو ذات التنوع، والمطالب هي ذات المطالب، ولو ذهب ثلث السودان فإنه لم يأخذ معه هذه المطالب، بل أنه ترك خلفه ما يسمى بالجنوب الجديد، وهو جنوب جغرافي يرفع ذات الشعارات التي رفعها الجنوب القديم، وجنوب سياسي ظل “مهمشاً” داخل دولة الحزب الواحد، وهي دولة محكومة بالحديد والنار، وطابعها الفشل، ويستشري فيها الفساد، ويجب أن يدرك الجنوب أن معالم أية جمهورية جديدة، تتلخص في قيام مؤسسات جديدة، ونظم حكم حديثة، ومشاريع تعبر عن طموحات الشعوب في “التغيير” نحو الأفضل، لا العودة إلى “السيرة الأولى”،
لذلك نسأل أي حوار؟. وعلى أية أسس؟. وفي أي اتجاه؟؟.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..