أخبار السودان

لا مناص من النقد الموضوعي،.السر بابو وتجربة الخاتم عدلان مثالاً،

صديق عبد الهادي

كتب رفيقنا في الحزب الشيوعي السوداني وعضو لجنته المركزية الاستاذ تاج السر عثمان بابو مقالاً صحفياً بعنوان “تجربة إنقسام الخاتم”. تمَّ نشره في يوم 8 يونيو 2016 على صفحات عدد من المواقع الاليكترونية السودانية المقروءة، وفي طليعتها موقع “الراكوبة”، “سودانيز اون لاين” و”سودانايل”. إنه ومن المفيد جداً فكرياً كان او سياسياً بالنسبة للحزب الشيوعي بشكلٍ خاص، او بالنسبة للحياة الفكرية والسياسية بشكلٍ عام في السودان الوقوف عند تجارب الصراعات الفكرية في احزابنا السياسية ، واعادة النظر فيها او حتى اعادة تقييمها لاجل استخلاص الدروس منها. ولا اعتقد ان هناك من حزب درج على فعل ذلك مثل الحزب الشيوعي السوداني، إذا كان ذلك على مستوى التنظيم او مستوى المبادرات الفردية للكتَّاب من اعضائه، كما هو حال المقال الذي نحن بصدده الآن.
استوقفتني جملة قضايا في مقال رفيقنا تاج السر، ولكني اجملها في ثلاث، القضية الاولى هي، عدم العناية الواضح الذي ابداه الكاتب فيما يخص المقال، واقل مظهر يمكن الإشارة اليه كدليل على عدم عنايته، هو الخطأ في كتابته لعنوان الوثيقة، التي كان نقده لها هو القوام والغرض الاساس لمقاله. إن العنوان الصحيح للوثيقة التي كتبها المفكر الراحل الخاتم عدلان هو “آن اوان التغيير”، وليس كما ذكر الاستاذ تاج السر، “لقد حانت لحظة التغيير”!. وهي مساهمة كما هو معلوم قام بنشرها الحزب الشيوعي في دوريته المعروفة “مجلة الشيوعي” العدد رقم 157.

يبدو لي ان الصديق تاج السر كان يكتب من الذاكرة، بالرغم من محاولته ذكر المصادر في ذيل المقال. على اية حال ذلك لا ينتقص من قيمة ما طرحة من أفكار، وهي المقصودة من ضمن ما هو مقصودٌ الوقوف عنده بكتابة هذا المقال.
القضية الثانية، والتي اسميها “مأساة المرحوم عوض عبد الرازق”، عطفاً على “مأساة الحلاج” او إن شئنا “مأساة ابليس” على حد قول دكتور صادق جلال العظم. فقد اصبح، ولاجل إضفاء “المسحة” الفكرية الجادة على اي كتابة عن الاختلافات الفكرية او عن اي حالٍ للخروج على الحزب، اصبح من الضروري ربط تلك الإختلافات وذلك الخروج ومن ثم تاكيد نسبتهما التاريخية بتجربة عوض عبد الرازق “التصفوية”، وبرغم انف الوقائع ولو كانت تقول بغير ذلك. مثلاً كتب الاستاذ تاج السر وبإطمئنان ويقين شديدين قائلاً، “لم يكن هناك شيئاً جديداً في وثيقة الخاتم إذ انها لم تخرج عن وثيقة :عوض عبد الازق التي قدمها عام 1952م…الخ”
اعتقد انه لابد من استعدال التوثيق التاريخي، سيما ان هناك اجيال من اعضاء الحزب، ومن ابناء الشعب السوداني عامةً، قد لا يكون ان اطلعوا على هذه الوثائق التي تتم الكتابة عنها الآن، وبهذا الشكل القاطع والحازم!. إن وثيقة المرحوم عوض عبد الرازق التي اصبحت تُضاها بها اي وثيقة فكرية مخالفة في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، هي في الاصل تقرير يقع في خمسة صفحات فقط، وقد جاءت تحت عنوان : “تقرير السكرتير التنظيمي للحركة السودانية للتحرر الوطني عن الفترة من يوليو 1947 ? اكتوبر 1952”. واشتملت على اربعة نقاط فقط.

ففي هذا الربط “المحكم”، الذي يؤسس له تاج السر، ظلمٌ عريض في حق الرجلين. اولاً، حين تقدم المرحوم عوض عبد الرازق بافكاره التي ضمنها تقريره لم يكن هناك الحزب الشيوعي الذي نعرفه، وانما كانت هناك “الحركة السودانية للتحرر الوطني”، وكان الناس بصدد تحويلها الى حزب شيوعي، في حين ان المرحوم الخاتم عدلان كان ان قدم مساهمته المعنية من داخل الحزب الشيوعي، بل ومن داخل احدى هيئاته القيادية والتنظيمية العليا. فهناك فرق كبير بين هذين الواقعين التاريخيين المختلفيين، ليس من الجانب التاريخي لوحده وانما من جانب القضايا الفكرية والمعرفية والتنظيمية المتعلقة بتنظيمين مختلفين، والتي تصدى لها كل منهما. ثانياً، لم يرفع المرحوم عوض عبد الرازق، في وثيقته تلك، يده عن الماركسية بالرغم من تحفظه حول تطور الطبقة العاملة وفاعليتها بان يكون لها حزب شيوعي، في حين ان المرحوم الخاتم عدلان رفع يده عن الماركسية و”طلقها طلاقاً بائناً” على حسب تعبيره. وموقف المرحوم عوض عبد الرازق المشار اليه هنا كان ان اكده الاستاذ السر من قبل في مقالٍ آخر، حيث كتب، “وخلاصة ما جاء في تقرير عوض عبد الرازق لم يخرج عن دراسة النظرية اولا ثم التوجه لبناء الحزب وسط العمال والمزارعين، وان يعكف الحزب علي التبشير بالماركسية وترجمتها بدلا من الاستعجال في قيام حزب شيوعي لم تتهيأ ظروف البلاد الموضوعية لقيامه، (من تاريخ الحزب الشيوعي: الصراع الفكري: 1951-1952، موقع الراكوبة 29/9/2015).

إذا كان هذا هو ما كتبه من قبل، إذن ما السبب الذي يضطر الاستاذ تاج السر القول بانه “لم يكن هناك شيئاً جديداً في وثيقة الخاتم إذ انها لم تخرج عن وثيقة :عوض عبد الازق التي قدمها عام 1952م…الخ”؟!.
الإجابة هي انه ما من سببٍ سوى سلك اقصر الطرق للتقليل من شأن “الخاتم”، شان كل من خرج من قبل، والتصغير من شأن مساهمته وذلك بإحكام ربطه بمحمول التاريخ الذي تم تشييده حول المرحوم عوض عبد الرازق والذي بُنِيَتْ مداميكه من “خلط مونة” قد يكون قوامها الحقائق وانصاف الحقائق بل وغير الحقائق، وإن كان ذلك عن قصدٍ او غير قصد!.

أما القضية الثالثة التي إستوقفتني فهي ليس فقط الإلحاق القسري وبشكل عام لاي صراع فكري، ومهما كان مستواه ومحتواه، بموقف وبتجربة المرحوم عوض عبد الرازق، وإنما مسألة الإصرار على ممارسة ذلك الإلحاق ولفترة فاقت النصف قرن من الزمن. وهو إصرار لا معنى له، ما نجح من قبل ،ولن ينجح قط في إقامة اي علاقة، مثلاً، بين وثيقتي المرحوم عوض عبد الرازق والمرحوم الخاتم عدلان. هذا، بالطبع، دعك من مثل القول بان الاخيرة خرجت من الاولى كما زعم الاستاذ تاج السر. إن القضايا التي تطرق لها المرحوم الخاتم بالمعالجة، ورغم إختلافنا معه حول بعضها، لم تكن متوفرة بالنسبة للراحل عوض عبد الرازق ولم يتطرق لها اصلاً، بل وان التجارب التي درج الناس على نسبتها له او تشبيهها بتجربتة قد تكون اكثر خطورة واكبر تأثيراً من تجربته!.

إن المرحوم عوض عبد الرازق وقف، وفي لحظة تاريخية محددة، ضد ان تصبح الحركة السودانية للتحرر الوطني حزباً شيوعياً، لا غير. ولكن، وبرغمه اصبحت تجربة صراعه ومن ثم خروجه على الحزب بالنسبة للكُتَّاب الشيوعيين مثل “سرير بروكرستيان” في الاساطير اليونانية!. وهنا يكمن ايضاً الاصرار على إستمرار “ماساته”!.

إن التقليل او التضخيم من شأن اي مساهمة فكرية، ومهما كان إختلافنا او اتفاقنا معها، لا يعطى لنقدنا لها قيمة ولا يضفي عليه وجاهة، بل وقد يكون خصماً عليه، لان النقد الموضوعي لا يمشي على ساقٍ واحدة، وإنما على ساقين، من وقوفٍ على الثمين اولاً ومن إبرازٍ للغث ثانياً.

عليه، فإنطلاقاً من الايمان العميق بهذه القيمة النقدية الراسخة رايت ان اقوم بنشر رؤية نقدية حول مساهمة المفكر الراحل الخاتم عدلان، والمعروفة بـ “آن اوان التغيير”، وذلك بالرغم من مرور اكثر من عقد من السنوات على كتابة تلك الرؤية.
واقوم بهذه المهمة وفي بالي حقيقتان، هما، الحضور المتواتر للكتابات المبتورة، من وقتٍ إلى آخر، عن مساهمة “آن اوان التغيير”، كمقال الاستاذ تاج السر مثالاً، هذا من ناحية، واما من الناحية الثانية فتجيئ حقيقة ظهور أجيال عديدة لم تحظ لا بالإطلاع عليها ولا على اي تناولٍ نقدي موضوعي لها.

ساقوم بنشر تلك الرؤية النقدية في حلقات كما جاءت في اصلها. كما واود ان اذكِّر بانها لم تنشر من قبل إلا في كتاب “ولقد مر الخاتم عدلان من هنا”، والذي تمَّ نشره في عام 2014.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. اتفق معك في الكثير وأاعتقد أن تريخ الننقسااماات في الحزب االشيوعي السودااني يجب اان تعاد كتاابته بعيداا عنن التقاارير الجاافة االبائسة لتاج السر بابو والتي تشبه مقالاات الممجلات االشيوعية في حقبة ستالين وحوتشوف

  2. “حين تقدم المرحوم عوض عبد الرازق بافكاره التي ضمنها تقريره لم يكن هناك الحزب الشيوعي الذي نعرفه، وانما كانت هناك “الحركة السودانية للتحرر الوطني”
    و
    إن المرحوم عوض عبد الرازق وقف، وفي لحظة تاريخية محددة، ضد ان تصبح الحركة السودانية للتحرر الوطني حزباً شيوعياً، لا غير. ولكن، وبرغمه اصبحت تجربة صراعه ومن ثم خروجه على الحزب بالنسبة للكُتَّاب الشيوعيين مثل “سرير بروكرستيان”
    ===================================
    كيف هذا !! كانت هناك الحركة السودانيه للتحرر الوطنى ولم يك هناك حزب شيوعى وبرغم ذلك يقول الأخ صديق: ومن ثم خروجه على الحزب الخ .. خروجه من حركة التحرر ام من الحزب الذى لم يك موجودا أصلا كما تقول!!
    ارجو من الأخ صديق الانارة وشكرا .

  3. ن آوان التغيير

    1- مدخل :

    مالذي حدث للشيوعيــة ؟ للأحزاب الشيوعية ، والشيوعيين الأفراد ؟ ماذا حدث لعالم بكامِله ، كان ، حتى الأمس، ملء السمع والبصر ، وأضحى أثراً بعد عين ؟ . إنهارَ انهياراً مأساوياً يُذَكِّر المرء بالقَـصص التوراتي والقرآني، حيث تختفي أقوام بكاملها من على وجه البسيطة وفي لمحِ البصر !؟ ..

    عندما بدأ شبح الشيوعية يُطارد أوربا العجـوز، ويُقلِق نومها، ويُفزِع أباطرتها وطغاتها ويُجبرَهم على الإنخراط في حِلفٍ مُقدّس. كانت قد وُلِدتْ بالفعل، واحتلّت مكانها على مسرح التاريخ ، قوّة لم يسبق لها مثيل في عُنفوانها ونُبلِها ومشروعها الإنسانيِّ الأخّاذ . ذلك المشروع الذي أراد أن يُحوِّل العالم ويجعله مكاناً جديراً بإنسانٍ جديد متعدد المواهب والمَلَكات . ينمو في جميع الإتِّجاهات، ويكون شرطاً لِـنُموِّه هذا، النُّموّ الحرّ لكل إخوته في الإنسانية .

    عندما بدأ ” ماركس” و ” إنجلز ” يرسمان معالم المشروع الجديد، تخدُمهما العبقرية والموهبة والذكاء ، فقد إنجذبت إليه بالفعل ، وعلى طول أوروبا وعرضها، أكثر العقول استنارة ، وأكثر المناضلين شرفاً وحماسة ؛ وقد تفجَّرت في صدور الرجال والنساء أحلامٌ وآمالٌ ، وامتلأت آفاقِهم باحتمالات نبيلة وخَـيـِّرة كفيلةٌ باجتياج السـماء . وقد نشأت لتحقيق تلك الآمال والأحلام والطموحات والإحتمالات، أخَـــــويَّات بشرية، لم تكن أقلّ من تلك الأخويات التى حقّـقها الأنبياء وسط أتباعهم . وقد كانت صداقة ماركس وإنجِلز نفسَيهما ، مثالاً ساطعاً على ذلك، قلّ أن يجود الزمان بمثلِه . وقد انخرطت هذه القوى في تغيير العالم ، وتحقيق المشروع الإشتراكي، ثمّ الشروع بعده في بناء المجتمع الشيوعي ، باعتبار ذلك تجسيداً لأنبل القِيَــم التى عرفتها الإنسانية ، وباعتباره حلآ لأعقد الألغاز التى أنشأها التاريخ ، وتجاوزاً لأصعب التناقضات التى عرفتها البشرية . وقد اتـَّسـَم نضال هذه القوى بالبطولة وبالشجاعة الفائقة وبنكران الذّات والإزدراء بالمنفعة الشخصية والإستهانة بالمصاعب والأخطار .

    ورغم الهزائم والإنكسارات، التى واجهتها في بداية مسيرتها، فقد تمكّنت هذه القوى في عام 1917، في روسيا القيصرية، من الإستيلاء على السُلطة ، والشروع في بناء المجتمع الجديد . وقد تجلـَّتْ في عملية الإستيلاء على السُلطلة وفي مواجهة التدخل الخارجي والحرب الأهلية ، بطولاتٌ خارقة ، إعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء . وقد ظهرت إثر انتصار الثورة في روسيا ، بوادرٌ باهرة لإجتياح العالم بأكملِـه ، ولم يكن الإعتقاد بإمكانية وواقعية ذلك الإجتياح وِفقاً على الشيوعيين وحدهم ، بل شاركتهم فيه شعوب بكامِلها ، وارتعدت له فرائص البرجوازيين ووجَفتْ قلوبهم . ولكن! بعد الشروع في معارك الإستيلاء على السُلطة في بعض البلدان، إتّضح أنّ تحقيق الحُلم لم يكن بالسهولة التى تَـخَـيَّله بها الشيوعيون وقادتهم . وبدأ واضحاً أنّ قوى أوروبا العجوز لم تكن تنقصها الشجاعة، ولا الحَمـِيَّة والمكـر ، ولا العنفوان المُـسلّح ، وإنّ وصفَـها بأنّها قوى عجوز ، كان يحتوي على جُرعة زائدة من البلاغة الكلامية .
    عندما بدأت وقائع هزيمة الثورة في هنغاريا ، وتأجيلها في ألمــانيا، وإجهاضها في بلدانٍ أخرى، تفعلُ فعلها وتُشكِّل وعياً جديداً ؛ إضطرّ البلاشفة الى توقيع صُلح ” برست ليتوفسك ” ،و قبول اقتطاع مساحات هائلة من أراضيهم لصالح المعتدين الألمان . ومن شيوعية الحرب وطموح التنفيذ الفوري للبرنامج الشيوعي، تراجعوا الى السياسة الإقتصادية الجديدة التى يُمكن أن تؤدي الى بروز فئات برجوازية صغيرة جديدة في المستقبل ، تنافس البروليتاريا . وشيئاً فشيئاً ، حلّت الوقائع الصّارمة محلِّ الأحلام المُجـَـنَّـحة ! ..

    أثناء حرب التدخل والحرب الأهلية، فَنِيَ آلاف الشيوعيين ، وهلكت أقسام كاملة من البروليتاريا الصناعية . وحلَّ محلَّهم فلآحون أمِّيون وأجلاف ، لا يستوعبون المشاريع النظرية ولا يؤمنون بها . وأمسكت بمقاليد السُلطة، بيروقراطية ضخمة من قُساة القلوب ، ظلّت الهُـوَّة بينها وبين الشعب تتَســع كل يوم .وقد أدّى ذلك الى نتائج ،ليس من أهدافنا حالياً الخوض في تفاصيلها، ولا تَـقَصـِّي أسبابها، تاركين ذلك لمناسبة ، ربما تحينُ قريبا ؛ مِن هذه النتائـــج :

    *- تركّزت الثروات في يدِ الدولة فأصبحت مالكة لكلِّ شيئ ، ومتصرِّفة مُطلَقة الصلاحية في كلّ خيرات المجتمع . وكان مطلوباً منها ،مع ذلك، أن تشرع في الإضمحلال ! .. ووجدت البيروقراطية أن باستطاعتها أن تتصرّف بخيراتِ المجتمع ومصائر الناس بِحُريّة أوسع من تلك التى كانت لدى القياصرة ! فانفصلتْ عن الشعب، وامتصـَّت رحيق حياته ونكَّلتْ به .

    *_ مِن خلال عمليات تصفية نشطة إستُخدمت فيها المؤتمرات الحقيقية والمفتعلة ، تمّ القضاءُ على جميع الأحزاب الأخرى ، وسُحـِق استقلال المنظمات الإجتماعية والأهلية، وصار الحزبُ حِزباً واحداً ، الرأيُّ رأياً واحداً ، والتصـوُّر للماضي والحاضر والمستقبل تصـوُّراً ضحلاً وبائساً ! يُمثـِّلُه ويُجَـسِّده حاكمٌ مُعتل العقل كان اسمه ” جوزيف ستالين ” ..

    *- حَـلَّتْ سياسة الهيمنة والضمِّ والإلحاق وفَرض النماذج السياسية والإقتصادية ، بل النّهب الواضح الفظ !، في بعض الحالات، محلِّ السياسات القائمة على أخويـَّة الشعوب وحرِّيتها وحقـَّــها في تقرير المصير .

    إنّ ذلك كلّه وغيره، لم يحدُث مرّة واحدة ، ولم يحدُث دون مقاومة ؛ فَعَلى المستوى الأعلى للقيادات الحِزبية، فقدَ الكثيرون أرواحهم دفاعاً عن المشروع الأصلي . وعلى مستوى الشَّعبْ ووسط جماهير الفلآحين بصفة خاصّة، ســالَتْ دماء الملايين الذين كانوا يدافعون عن اسلوب في الحياة ، كانوا يرَونَـه طبيعيّاً وعادلاً ، خاصّةً بعد تمليكهم الأرض بعد الثورة، ولم يعبأ أحد بإقناعهم أن هناك مـا هوَ أفضل منــه .

    هذه اللمحات العابرة ، ليست محاولة لتفسير ما حدث في الإتحاد السوفييتي وغيره من البلدان الإشتراكية ، بل هي محاولة لتوضيح حقيقة ، في غاية البساطة، وهيَ أنّ أيِّ حزب يُمكن ان ينحدر من ذُرى البطولة الى سِـــفوح الإنحطاط ، ويمكن ان يتحوَّل قادته من مناضلين يقتحمــون السماء ، الى حِفنةٍ من القَــتَـلة الأشرار .

    ولكنَّ الإنحطاط الذي أصاب الحزب البلشفي تحت قيادة ” ستالين” لم يكن شاملاً لكل الحركة الإشتراكية والشيوعية . فأثناء الحرب الأسبانية، وطوال الحرب العالمية الثانية، إنقدحت شرارة البطولة من جديد ولعبَ الشيوعيون ، على طول أوروبا وعرضها، أدواراً في مقاومة الفاشية والنازية ، لايمكن أن تنساها الشعوب . ولعبَ الجيش الأحمر السوفييتى دوراً في دحرِ النازية لايمكن ان تنساه الإنسانية . وقد حقَّق معجزة سحق النازية رغم أنّ قائده المعتوه! كان يُلحِق به من الخسائر والأضرار ما عجـِزَ عنه ” الفيرماخت” أي، هيئة قيادة الجيش النـّازي . وقد نشأت في حماية الجيش السوفييتي ، في شرق أوروبا ووسطها، دولٌ إشتراكية على منوال المثال السوفييتي ، والذي كان قد لحِقتـه تشويهات لا تغيبُ عن العين . ومن المؤكّد ، أنّ تلك التشويهات كانت واضحة وجليـّة لقادة البلدان الإشتراكية الجديدة ، ولكنّ إمكانية نقدها وفضحها ، دع عنكَ إمكانية الخروج عليها!، كانت مُغلَقة ، حيث كان ” قانون البقاء ” يتكفَّل بإخراس الألسـنة . ولا يُمكن لأحدٍ أن ينكر أنّ هذه النُّظُم قد حقَّقتْ إنجازات باهرة وكبيرة بكلِّ المقاييس ، في بُلدانٍ كان أغلبها يتّسمُ بالتخلف ،ولكنّهم كانو يحققون هذه الإنجازات والنَّيْرُ الروسيُّ الفادح يثقِلُ أكتافهم !. وكنتيجة ، لامفَـرَّ منها لعملية طويلة من التدجين والإخضاع والإرهاب والإفساد والتشويــه، عبرتْ هذه الأحزاب مرحلتها البطولية الى مرحلة الإنحطاط والإذعان والمناقضة . وهل نحتاجُ لأمثلةٍ على مـا نقول؟ .. إنّ القليل منها يكفينا :
    **- في أوائل نوفمبر 1989 عاد ” إيريش هونيكر ” من زيارة الى الإتحاد السوفيتي ، حاول فيها ” غورباتشوف ” أن يقنعه بإجراء إصلاحات على غِرار البيريسترويكا . وقد رفض هونيكر هذا الأمر بازدراء ! قائلاً : إنّ نظامه لا يحتاج الى إصلاح ! وعندما سُـئِل عن ” سور برلين ” قال: إنّه سيظلُّ قائماً خلال السنوات المائة القادمة !! ولكن ، بعد أقلّ من عشرة أيّام، أي في 9نوفمبر 1989 إنهــار سور برلين الذي كان أوّل سورٍ في التاريخ يُقام، ليس لحماية الشعب من الغزاة، كما كان يحدُث في الصين وإسبرطة مثلاً ، بل لمنع سُـكّان الجنَّة الإشتراكية الألمانية من الهروب الى سـعير الإستغلال الرأسمالي!! ولانظنُّ أنّ ” ماركس” كان من الممكن ان يحتمل مثل هذه السـُّخرية القاسية .

    **- وفي تشيكوسولوفاكيا ، سـَـيـَّرَ أبناء العُمّال والفلآحين والعُلماء ، مظاهراتٍ في 17نوفمبر يطالبون فيها بالإصلاحات الديمقراطية السياسية والأكاديمية . وقد حاولتْ الفتيات في المظاهرة أن يستَمِـلنَ رجال البوليس برشقهم بالأزهار ، ولكنّ القادة الشيوعيون ، الذين تحوَّلوا الى تروسٍ في ماكينة البيروقراطية المعزولة عن الشعب، أجابوهم بالرصاص الحي !.

    **- في ديسمبر 1989 ألقى ” نيكولاي شاوشيسكو ” خطاباً استمرّ ستَّ ساعات في مؤتمر الحزب الشيوعي الروماني، وقُـوطِع بالتصفيق المتواصل، والوقوف أكثر من عشرِ مرّات وأُجِيــز بالإجماع ! فَمـَنْ يجــرؤ ان يقول أنّه لا يرى الشمس في رائعة النّهار !؟. وانتُخِبَ شاوشيسكو رئيساً مدى الحياة ، وأبدى القادة السوفييت ، وعلى رأسهم غورباتشوف، إعجابهم بالشديد بالخطاب وبصاحب الخطاب، وأرسلوا له رسالة مطَـوَّلة بذلك، كانوا قبـلها بعامين، قد أنعموا عليه بِوسام ” لينين ” للسلام . وقد كان الشعب الروماني يشهدُ المهزلة بغضبٍ يُحرّق الأجفان ويُفَـجِّرُ البابي ؛ فقد تحوَّل قادة الحزب الشيوعي في نظرهم الى طُفيليّات جديرة بالسـحق . وعندما انفجرت المظاهرات إحتجاجاً على نفي راهب كاثوليكي، إندفعتْ السيكيوريتات، وبأوامر الطاغية ، تحصدُ جماهير الشعب بالمئات ، ولكن السيكيوريتات، وبكلِّ قوّتها وجبروتها، لم تستطع ان تحمي الطَّـاغية ! وعشيـّة أعياد الميلاد، أُعدِمَ تشاوشيسكو وزوجته ، ولم تُذرَف عليهما دمعةٌ واحدة ..

    وفي هـنغــاريا وبُـلغاريا وألمــانيا، كان الشيوعيُّون من الحِكمة بحيث استطاعوا ان ينضمـُّوا بسهولة نسبية الى الشعب، ويشتركوا معه في هدم البناء الذي أقاموه طِوال سنوات حُكمِــهم . وقبل ذلك ، في بولندا، وقفتْ الطبقة العاملة كلّها ضد السُلطة وضد الحزب ونظّمت نفسها في نقابة ” تضامن ” ؛ ومع ذلك لم يرَ الحزبُ أنّه كفَّ عن أن يكون حزباً للطبقة العاملة! واستعان قادته بالجيش، الذي يبدو أنّه تقمَّــصته روحٌ هيجليـّة حوَّلته الى نقيضٍ ! فصارَ هو الطبقة العاملة ، بينما أصبحتْ الطبقة العاملة نقيضاً لِذاتِــها ! . وقد كان بعض الشيوعيّون يصرخ ويقول: لن نتنازل عن شبرٍ واحد من رِقعة الإشتراكية حتى ولو كان ذلك التنازل من أجل الطبقة العاملة نفســها !! . ولم يكن استخدام الجيش ضد الطبقة العاملة وقفاً على بولندا وحدها ، فقد اسـتُـخْــدِم ضدها في ألمــانيا عام 1953، وفي المجر 1956 وفي تشيكوسلوفاكيا عام 1968 .

    هذا العبور من عصر البطولة الى عهد الإنحطاط، هل يخُـصّنا نحن في الحزب الشيوعي السوداني ؟ هل يُمكن ان يكون مصيرنا كمصيرِ الآخرين ؟ وهل سنشترك يوماً في قمع شعبنا وقهره بالسلاح ؟ وهل في مآسي الأحزاب الشيوعية الأخرى ومصائرها، شيئـاً نتعلـَّمه منها ؟ وهل في استطاعتنا أن نُديرَ ظهورنا لما حدث ونتعامل كأنّ شيئاً لم يكُنْ ؟..

    هذه هيَ بالضبط ، الأسئلة التي كتبتُ هذه الورقة للإجابة عليها ، بل إنّها كُتِبَـتْ لِتفادي مثل ذلك المصير الذي حلَّ بغيرِنا . فَثمَّة نغمة بدأت تتـّــسع الآن بأنّــنا حزبٌ من نوعٍ خاص ، لم يعرف عِبادة الفرد، ولا حَجْب الرأي الآخر ، ولا نَفي المخالفين في الرأي ؛ دع عنكَ إعدامهم . وما دامت المقدِّمات المختلفة تقود الى نتائج مختلفة ، فلا يُمكن لأحدٍ أن يتّهمنا بشيئ أو يُحاسبنا بأخطاء غيرنا . وربما يتساءل البعض : كيف يُمكن لحزب عبدالخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ ، أن يصبح كحزب شاوشيسكو ؟ .

    وليس في نيّة كاتب هذه السطور ان يكتفي بالإجابات العاطفية، أو الجُمل الطنّانة المُفجِّرة للحماس والعواطف النبيلة . صحيحٌ أنّنا حزب سودانيٌّ شديد الإعتزاز بسودانيـَّتِه ، ولكن الأحزاب الشيوعية الأخرى، كانت أحزاباً وطنية هيَ الأخرى ، شديدة الإعتزاز بانتماءها القومي من دون شك . وقد كانت لها مآثرها وتضحياتها وأبطالها وقد حاولتْ ، كما حاولنا ، أن تُخضِع الماركسية لمُقتضيات واقعها، ربما أقلّ قليلاً أو أكثر قليلاً . ولكـنّــنا ، كحزب شيوعي، لو وُضِعــنا في نفس الظروف التى وجدتْ هذه الأحزاب نفسها في خِضَـمِّها ، لفعلنا مثلما فَعلوا ، مع أنّ البصمات السودانية لن تكون معدومة .

    إنّنــا كشيوعييين ، وإذ نستندُ على الوقائع المُتـَّفق عليها ، حتى مِن قِبَل الأعداء، لَـيَــحِقُّ لنا أن نفخر بالمأثرة التى جسـَّدها على السودان، حزبُـنا الشيوعي السوداني . ولكنـَّها مأثرة قد آذنت بالإنطواء ! ويعتقد كاتب هذه السطور، أنّ سـاعة التغيير قد أزِفَتْ ، وإنّــنا إذا فَـشـَـلنا في النهوض بأعباء التغيير، فإنّ نُـبْلَ التاريخ سيتحوّل الى لؤمٍ لايُصـَدَّق . وعندما ينظرُ المرء الآن ويُجيلُ النّظر داخل الحزب الشيوعي الســوداني، فإنّه يرى مظاهر الشيخوخة قد دبَّت في كلِّ شيئ وتخلـّلت جميع الخلايا . ولكنـَّه يرى ،مع ذلك، إمكانية هائلة للنهوض بالإستناد الى جديدٍ ينبتُ بين الأنقاض، وحياةٍ تتمخَّضُ من كوم الرّماد . هناك إمكانيات حقيقية لبناء مشروع جديد، عادل وخَـيـِّر ، ولكنـَّه أكثر تواضعاً ممّا كنّا نحلم ونتمنّى ، وأكثر واقعية وراهنية ، وأكثر التصاقاً بالأرض، وأكثر اهتماماً بإنسان اليوم، وقضاياه الحقيقية ومشاكله الطاحنة وآماله القريبة، منــه بإنسان خيالي لايعدو أن يكون مقولة ذِهنية ، لاننكر جمالها ومقدرتها الهائلة على الجذب، كما لاننكر أنّها يُمكن ان تتحقّق في يومٍ قادم من أيـّام الإنسانية . ولكنـّــنا فقط، في لحظتنا هذه من الزمان ، في بُقعتنا هذي من الأرض، في مرحلتـنا هذه من تطوُّر المجتمع، نتركها للأجيال القادمة . فهيَ ، وياللأسف الشديد، ليست في متناول أيدينا ، ليست في مُستطاعنا . كما أنّ الأجيال القادمة لن تتمكّن من الوصول إليها إلآ على أساس من هذا البناء المتواضع الذي نحاول أن نُـقِــيمَـه لأنفســنا . وفي هذا مصدرٌ عميقٌ للعزاء .

    إنّني أرمي في الصفحات التالية، أن أُقَــيِّمَ إنجازات الحزب الشيوعي الســـوداني، وأُثبتُ بعض ما أضافه للحياة السياسية والفكرية والثقافية الســودانية . كما أنوي أن أُحاكِمَ بالآمال التى فجـَّرها في جوانح الناس، والمشاريع الكُبرى التى ألزمَ نفسه بتحقيقها ، وفشـَـل في تحقيقيها لمُـختـَلف الأسباب . كما أنوي أن أقول أنَّ السـَّيرَ بالطريقة القديمة ، لم يَعـُد ممكناً . فالآيديولوجية القديمة لم تَعـُد مُلهِمة للأجيال الجديدة، ولا مُفِـجِّرة لطاقاتها ، لا جامعة لِقوى التغيير . والنُّظُم الداخلية، عفا عليها الزمن، والديمقراطية يجب أن تدخل من جميع النوافذ والأبواب ، كما أنّ الوجوه يجب أن تتجـدّد .

    أنوي أن أقول : أنّ ســــاعة التغيير قد أزِفَتْ ، وأرجـــو ألآ يفـــــوت الأوان ..

  4. هل من الممكن أن يكون الإنسان شيوعياً مُقتنعاً بالنظرية الماركسية، ولكنه في ذات الوقت يرى أن الظروف الموضوعية في السودان لا تسمح بقيام حزب شيوعي فاعل؟؟

    أثبتت الأحداث أن رؤية عوض عبدالرازق (الشيوعي القُح) كانت صائبة، وأكدت تجربة حل الحزب الشيوعي مدى سهولة ضربه تحت الحزام (أي هشاشته، رغم أنف الدستور والقانون والقضاء).

    ورقة الخاتم عدلان (من حيث المحتوى) تصُب في ذات مجرى رؤية عوض عبدالرازق، ولاحقاً الحاج وراق والشفيع وكثير من اليساريين والديمقراطيين (الواقفين على الرصيف والذين استقالوا أو جمدوا عضويتهم في الحزب) ، أي ضرورة العمل من خلال الجبهة الوطنية الديمقراطية (مع تفادي الهيمنة والتسلط كما حدث في تجربة الجبهة الديمقراطية بالجامعات والمعاهد العُليا).

    هذه فُرصة حقيقية لتصحيح المسار، بعيداً عن شخصنة القضايا وتأليه الأفراد مهما عظُم دورهم وتأسطرت تضحياتهم.

    مهدي إسماعيل

  5. تاج السر عثمان هواحد سدنة الهيكل الماركسي او هو يمثل لأصولية الماركسيةالتي لا تزال تتغني بنشيد “استالين لم يمت ” يكفي انه لايميز بين الحركة السودانية للتحرر الوطني والحزب الشيوعي الذي لم يكن موجودا اصلا ايام المرحوم عوض عبدالرزاق

  6. ورقة الخاتم عدلان لإصلاح الحزب الشيوعي .. آن أوان التغيير (3)(انقل هذا الجزء لاهميته ولكن هناك بقية لهذه المساهمة الثرة)

    2- تحويل الحزب الشــيوعي إلى قوة إجتماعية كُبرى وإلى حزب على النِّطاق الوطني

    للراحل الخاتم عدلان

    إنّ أهمّ الوثائق التى أصدرها الحزب الشيوعي الســـوداني، توضِّح أنّ مُؤسـِّسيــه لم يدُر بخلدهم أن يكون الحزب حَـلَـقة صغيرة منطوية على ذاتها ، أو تـيـّاراً ثانوياً على هامش الحياة السياسية في البلاد . فقد شرعَ أؤلــئك المؤسـِّـسون في تكوين الحزب، وأمامهم أكبر المعارك وأعظمها شـأناً، معركة الإســتقلال الوطني . وكانت قضيـة توحيد القوى السياسية الوطنية ، هيَ القضيــة الأولى التى كانت تشغل أذهانهم وقتها . كان أولــئك المُؤسـِّسون يفكِّرون في حِزبهم كأداة هامّة في تحقيق الإستقلال، أي كانو يُفكـِّرون فيه كمنظّمة وطنية ، ســياسيـَّاً وتنظيمــيَّاً . وقد طُرِحت في دورة اللَّجنة المركزية في مارس 1953 قضيـّة بناء الحزب على النطاق الوطني ، لِـيَـصبح حزباً شعبيـَّـاً . وأُنشـِـئتْ في العام نفسـه ” الجبهة المعادية للإستعمار ” بإعتبارها شكلاً من أشــكال الوجود الوطني للحزب . وقد نجحتْ بالفعل في الوصول إلى مواقع إجتماعية ، وأماكن جغرافية ، ما كان من الميسور للحزب أن يصـلها بصفـته حزباً شـــيوعيـَّاً . فضَـمَّت شخصيات وقوى وطنية مؤثـِّرة ، وتكوَّنت لِجانها في قُرى وأقاليم بعيــدة . ولكن تجربـتها ، مع ذلك، تعثَّرت وانطوت لأسبابٍ سنتعرّضُ لها لاحقاً. لكنـّـنا نكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ وُجود الحزب على النطاق الوطني العام، كان همـَّاً باكراً و مُلـِــحَّاً من هموم قيادته . وفي المؤتمر الثالث في فبراير 1956 كان الشـِّعار الأساسي الذي خرج به الشيــوعيـون هو ” تحويل الحزب الى قوة إجتماعية كُبرى ” قــوّة تؤثِّر ثأثيراً بارزاً على منحَى تطوُّر الســودان ، وتُساهم في تعزيز الديمقراطية ، وتعطي الاستقلال أبعاده الإجتماعية والإقتصادية . وتابعت اللجنة المركزية نفس القضية في دورتها في يناير 1963، إذ نادت بوضع الترتيبات اللاّزمة لتأهيل الحزب لاستقبال التطوُّرات المرتقبة في الحياة السياسية بعد نشوب المعارك الجماهيرية ضد النظام الدكتاتوري العسكري ، وظهور بوادر إنهيار ذلك النظام . وقد شهِدتْ هذه الفترة عُدّة خطوات ؛ منها : مشروع تكوين الحزب الإشتراكي، لتوحيد قُوى اليسار والتقدُّم، وهو ما عُرِفَ في تاريخ الحزب بالإتجاه اليميني ، وتمّ التراجع عنه بإعتباره تذويباً عمليّـاً للحزب الشيوعي . وكان من المهام الأساسية التى ركَّـز عليها المؤتمر الرابع للحزب ، هيَ: ” تحويل الحزب إلى قوّة جماهيرية تتصدّى لمَـهام التغيير والتقدُّم ” . وعَبـَّرت وثيقة المؤتمر ” الماركسية وقضايا الثورة الســـودانية ” عن أهميـّة هذه القضيــة في نضال الحزب بالعبارات التالية :-

    [ وعبرَ هذه الســنوات وخلال ظروفها المختلفة، صعوداً وهبوطاً في حركة الجماهير الثورية ، ظلَّ الحزب يســتكشف الوسائل والطُّرق المختلفة لِـيُحَـقِّـق شــعار المؤتمر الثالث لتحويل ذاتـه إلى قــوَّة إجتماعية كُبرى . وإنّ كافّة مشاريع العمل بين الجماهير ، والصراع ضد الإتِّجاهات المنعزلة والجامدة ، كانت تســتوحي ذلك الهدف ] .

    واضح إذن من كلِّ مـَــا ســَبَق ، أنّ قضية تحويل الحزب إلى قوّة إجتماعية كُبرى، وإلى حزب جماهيري فاعل على النطاق الوطني، إحتلـَّت مكانة جوهرية في أدبـِه وفي نشــاطِه ، وهذا أمرٌ مفهـوم، لأنّ الحزب كان يضع نَصْبَ عينيه ، ومنذ البداية ، قضية الوصول على السـُّــلطة ، وتغيير المجتمع وِفق برنامج متكامل يبدأ بمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية وينتهي ببناء المجتمع الشــيوعي .

    إنّ الملامح العامة للصيغة التى وضعها الحزب ليتحوَّل عن طريقها إلى قوة إجتماعية كُبرى، وإلى حزب جماهيري على النطاق الوطني، يُمكن رسمها على النحو التالي :-

    */ تأهيل الحزب لنفسـِه بترقية إلمـامـه بالماركسية اللينينية والتعامل معها كمُرشد للعمل ، وليس كنصوص جامدة أو أقوال مُـقدّسة ، والاهتــداء بها في دراسة المجتمع الســـوداني ، واكتشــاف الصيغة المحددة والخاصة لقوانين تطــوُّرِه . ولا يتمُّ ذلك إلاّ بجذب خبرة المُثـَقَّفين إلى صفوف الحزب ، وإغناء حياته الداخلية واتِّســـاعها للصراع الفكري الخَـلاّق .

    */ تدعيم مواقع الحزب وسط الطبقة العاملة ، وجعله الحزب الأوّل في صفوفها ، من حيث النفوذ السياسي والوجود التنظيمي . والبدء بجذبِ الطّلائع العمّالية إلى صفوف الحزب، وتدريبها ، ورفع مقدرتها النضالية والقيادية ، وتأهيل الطبقة العاملة نفســها خطوة إثرَ خطوة ، لتحتلُّ الدور القيادي في المجتمع. ليس عن طريق الفرضِ والإملاء ، بل عن طريق الوعي والإقتناع بالضرورة التاريخية التى تؤهـِّلها وحدها لذلك الدّور .

    */ تمديد تنظيمات الحزب لتُغطـِّي كل أنحاء الوطن . وذلك بإعتماد أشكال تنظيمية مرِنة ، تستجيب لمقتضيات التطور غير المتوازن للمجتمع الســوداني ؛ وخلق الكوادر الشيوعية المحلية التى لا تشعر نحوها الجماهير بالتعالي ، كما يحدُث غالباً في حالة الكوادر المجلوبة من الحواضر والمُدُن .

    */ بناء الجبهة الوطنية الديمُـقراطية ، كحركةٍ جامعة ، متعددة الأشكال والصُّوَر ، لِتُعبِّـــرَ عن تحالف العمّال والمزارعين والمثقفين والرأسمالية الوطنية . ولِتُــنجِز مهام الثورة الوطنية الديمُقراطية . وتفتح الآفاق للتطوُّر الإشتراكي ، وتحتلُّ الطبقة العاملة المكان القيادي في الجبهة الوطنية الديمُقراطية (قيادة هذه القُوى، تكمُن بين جماهير الطبقة العاملة ) كما جاء في وثيقة الماركسية وقضايا الثورة الســـودانية . ويحتلّ الحزب الشــيوعي المكان القيادي وسط الطبقة العاملة . ويصبح دور الحزب ، بالتالي، في قيادة الدولة والمجتمع واضحاً . فما دامت قيادة الطبقة العاملة للتحالف تتخطـَّى مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ، لِتشمل المرحلة الإشتراكية ، بل المراحل الأولى لبناء المجتمع الشــيوعي، فإنّ المشروع المتكامل للحزب الشــيوعي بأبعاده السـياسية ، الإجتماعية ، والثقافية ، يكون واضحاً هوَ الآخر .

    ويُمكِننا عند هذه النقطة أن نتســـاءل :

    هل حقَّـق الحزب الشــيوعي شــعاره الأساسي في التحوُّل إلى قوة إجتماعية كُبرى ، وإلى حزبٍ جماهيري مــؤثـِّر وفعـَّال على النطاق الوطني ؟؟

    ولا نتردّد في الإجابة بالنَّــفي .

    لقد فشلَ الحزب في تحقيق ذلك الشـعار بالصورة التى تصـوَّرها مـؤسـِّــسوه ، وبالكيفية التى تؤهـِّله ليطمح طموحاً عقلانيـّاً في الإستــيلاء على الســُــلطة وتنفـيذ البرنامج المُـشــار إليه . لقد ذكرتْ وثائق الحزب في تقييم الأداء الحِزبي ، عند التحضير لثورة أكتوبر ، أنّ عدد أعضائه لم يكن يتعدّى بضع مئات وهوَ يواجـه الأحزاب السياسية . وهذا نفســه يُمكن أن يُقال عن الحزب بعد إحدى وعشرين سـنة ، وهو يواجه إنتفاضة أبريل ؛ كما يُمكن أن يُقال عنه حالياً ، وهو يُصارع الدكتاتورية العسكرية الثالثة . وقد حكى لي أحد قادة الحزب ، أنّـه مرّت عليهم لحظات أثناء دكتاتورية نميري ، كانوا يشعرون فيها أنّ وجود الحزب يتمثـّل فقط في وجود الأعضاء الخمسة لسكرتارية اللجنة المركزية ! ليست في حالة نشاط مشترك، بل كلٍّ على حِدة !! وإذا كان ذلك يُعبِّر عن الصلابة وقوة الإرادة والإستماتة في التمسـُّك والدفاع عن وجود الحزب ، فهو يُعبـِّر في نفس الوقت عن انكماش الحزب وتحوُّله في ذهن ذلك الشخص القيادي إلى قبضــة يد واحدة . ويُعبـِّر بعض القادة حالياً عن إســتهانة ظاهرة بأنّ عشرات الآلاف من أعضاء الحزب قد تركوا صفوفه أو جمـَّدوا نشاطهم أو خَفـَّضــــوه . ولا نحتاج إلى القول أنّ حزباً بهذا الحجم ، لايُمكن أن تُســاوره الآمال بتغطية السـّاحة الوطنية ؛ خاصـّة إذا كانت مُتَّســِـعة ومتنوِّعة ، إتِّـســاع وتـنـوُّع الســـــودان .

    إنّ أهمّ الأسباب التى أعاقت نمو الحزب وحالتْ بينه وبين صيرورته قــوّة إجتماعية كُبرى، وحِـزباً جماهيريا على النطاق الوطني ? في اعتقــادنا – هي التـالية :-

    **/ القمع الشـّرس الذي وُوجـِــه به الحزب منذ تأسيسه وحتى اليوم . فَطِوال سبعة وأربعين عاماً ، لم ينعم الحزب بوجود قانوني إلاّ لخمســــة أعوام تقريباً . ولم تكتَفِ الحكومات العسكرية طوال سبعة وعشرين عاما بالقمع القانوني، بل استخدمت ضدّه العنف دون تردُّد ، وباستمرار . وإذا كانت الأحزاب الأخرى قد تعرَّضت أثناء الدكتاتورية العسكرية للقمع القانوني ، والعنف أحياناً ، فإنّ نصيبها من ذلك لا يُمكن أن يُقارَن بما وقَعَ على الحزب الشـــيوعي ، ســواء بالإعتبارات النسبيَّة أو المُطلقة . أمـّا في فترة الإستعمار، وفي سـنينــه العشر الأخيرة ، وفترات الحُكم الديمقراطي، فقد تَوجـَّه القمع بأشكاله القانونية المختلفة أســاساً ، إلى الحزب الشـــيوعي. وإزاء هذا القمع الشـرس والمتواصل، إضـطـرَّ الحزب الشــيوعي إلى الحياة السـِّــرِّية المُطلقة وما يُصاحبها من أمراض الحَـلَـقية والإنكماش والإحجام ، ومن الإنفـلاق أمام الجديد وأمام الجماهير . وقد وَجَدتْ عناصر مؤثـِّرة ، كثيرة ، أنّ الحياة السـِّــرِّية لا تُناسبها ولا تتَّســع لها . كما وجدت عناصر أخرى، أنّ الأبواب أمامها مُغلـَـقة .

    **/ واقع تطوُّر بــلادنا المُـتـَّسِم بكون القطاع الحديث الذي يمـور بالنشاط والحيوية ، قِـطاعاً ضعيفاً نسبيـَّاً ، مع اتـِّـســاع القطاع التقليدي الذي يضمُّ الأغلبية السـاحقة للسـكان ، ويمـثـِّل قوة جذب هائلة إلى الوراء . وفي مثل هذا الواقع، يكون من العســير بناء تنظيم وطني حديث يتخطـَّى الإنتماءات القَبَـلية والطائفية والعِرقيــة والنِّــزاعات الإقليمية .

    **/ قيام الحزب على أساس الماركسية اللِّينينية ، يتطلـَّب من المرء ليـكون عضــواً من أعضائه ، أن يتوصـَّل لِـتَبـَـنِّي موقف فلسفي متكامل من الوجود . موقف يصف نفسه بأنّه استــوعب أعظم مــا توصلت إليه البشرية في مجالات و حقول العلم و الفلسفة و الاقتصاد و الاجتماع و الثقافة، و تخطاها تخطيا جدليا. إن مثل ذلك الانتماء لم يكن في متناول الأغلبية الساحقة من شعبنا، لا تاريخيا و لا معرفيا. و هو ليس في متناولها الآن أو في المستقبل المنظور. و أنه لطموح غير عقلاني أن نحاول بناء حزب من الفلاسفة في مجتمع أمي.

    **/ الموقف الفلسفي المادي للماركسية، و الذي لا يمكن التوفيق بينه و بين التصورات الدينية حول الكون و الخلق إلا بمعجزة، قد سهل مهمة أعدائه في إنشاء حائط أصم بينه و بين أغلبية الشعب. إن تركيز القوى التقليدية و الرجعية، بمكر و خبث على هذا الجانب، قد وضع عقبات كئود بين الحزب و الجماهير، و ذلك في وسط اجتماعي يمثل الدين نسيجه المعرفي، و القيمي و الأخلاقي، و قد تعرض الحزب لحملات بالغة العنف و الفظاظة، اعتمدت على الترويج الخبيث لمواقف عملية مزعومة، يقفها ضد الدين، و قد تصدى الحزب بفعالية لا تنكر في التصدي لتلك الحملات، و لكن المأساة التي صاغها التاريخ، و طوق بها الحزب، هي أن الأغلبية الساحقة من الجماهير كانت تقف خارج دائرة البث الفعال التي يغطيها الحزب بأقواله و أفعاله، سواء بفعل الأمية السياسية و الثقافية، أو العزلة الجغرافية، أو محدودية أداة البث ذاتها. هذا في الوقت الذي كان خطاب القوى الرجعية و اصلا لكل أقسام الجماهير، ولكل أنحاء القطر. و تستطيع أن تقول أن جيل المؤسسين و على رأسهم عبد الخالق محجوب، كان واعيا تماما بهذا الضعف الخطير في صلة الحزب بوطنه، و بشعبه، و بواقعه. و قد أشار عبد الخالق محجوب في حسرة، إلى أن الحزب ما يزال غريبا فكريا عن المجتمع، إذا كان في استطاعة القوى الرجعية أن تحاصره و تحله بالاستناد إلى حادثة مشبوهة، كحادثة معهد المعلمين العالي عام 1965، و التي فجرها طالب صغير، باع نفسه و ضميره، و استغلتها قوى لم تتعامل مع الدين إلا كذريعة لتحقيق مرام سياسية و معادية للديمقراطية و التقدم.

    **/ تضاف إلى شمولية الانتماء الفلسفي، شمولية الموقف و البرنامج السياسي، و قد تمثل ذلك في برنامج الحزب الذي يغطي ثلاث مراحل، ويطرحها جميعا للتنفيذ، و هي مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، ثم الاشتراكية، فالشيوعية. و قد جاء ذلك في برنامج الحزب حيث قال ” إن الحزب الشيوعي بطبيعته هذه، يهدف إلى تغيير المجتمع السوداني بإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية، و السير بالبلاد نحو الاشتراكية فالشيوعية”.

    و لا ينظر الحزب إلى مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية و المطروحة للإنجاز تلك، إلا كمرحلة إعداد للاشتراكية، وهي بالتالي مرتبطة بتلك المرحلة و مفضية إليها. بل إن كثيرا من المهام الأساسية لهذه المرحلة لا يمكن فهمها إلا في إطار الانتقال اللاحق على الاشتراكية. فقيادة الطبقة العاملة لمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية تمليها ضرورة الانتقال الحاسم إلى الاشتراكية, كما أن الاشتراكية نفسها ليست سوى تحضير طويل للمجتمع الشيوعي، الذي تمثل هي مرحلته الدنيا.

    برنامج الحزب ? إذا- وثيقة مترابطة، متكاملة إنه حلقات يمسك بعضها برقاب بعض. و لذلك فإن الشخص الراغب في نيل عضوية الحزب مطالب بتبني مشروع سياسي متكامل، يغطي الحاضر، و كل المستقبل، و يسعى نحو إقامة نظام اجتماعي، ليس لهذا الجيل وحده، و لا للجيل الذي يليه، بل للمجتمع الإنساني ككل، منذ اللحظة الحاضرة، و إلى الأبد. و إذا وضعنا في الاعتبار طبيعة قانون التطور الاجتماعي، فان مثل هذا المشروع لا يمكن أن يوصف بأنه مشروع علمي، و هذا ما ناقشناه في الورقة الأولى. و لكن الذي يهمنا هنا على وجه التحديد هو أن ترابط حلقات برنامج الحزب الشيوعي، يجعل من العسير جدا على المرء، أن يختار حلقة دون الحلقتين الأخريين، فإذا كان مقتنعا مثلا ببرنامج الحزب في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، أو ببعض القضايا الأساسية في ذلك البرنامج، أي أنه يلتقي مع الحزب في مرحلة تاريخية متكاملة، فانه سيحجم عن التقدم لعضوية الحزب لأنه لا يستطيع أن يعرّف نفسه تعريفا شيوعيا يقتضي منه أكثر من ذلك بكثير. و قد رأينا كيف كان الحزب في غير متناول جماهير القطاع التقليدي، و ها نحن نرى كيف صار الحزب بطبيعة برنامجه هذا في غير متناول أقسام واسعة من جماهير القطاع الحديث نفسه، و باستطاعة الحزب أن يكون في متناول هذه الجماهير لو اقتصر في خطابه على مرحلة تاريخية واحدة، يراها و يدركها، و تراها و تدركها مع الجماهير الواسعة، و تنخرط على هذا الأساس في النضال من أجل تحقيقها، و ما دامت هذه المرحلة في اتجاه التطور التاريخي العام، فإن الأجيال القادمة، و التي تصاغ المشاريع الشمولية من أجلها، لن تخسر شيئا، بل ستتسلم الراية من نقطة متقدمة، و لن يخسر المستقبل الإنساني شيئا، بل سيكف عن الضغط بثقله على الحضر، مفتتا بعده قوى التقدم الماثلة، التي تؤدي اختلافاتها حوله على حجب اتفاقها حول واجبات الحاضر، و عرقلة وحدتها لإنجاز هذه الواجبات. و من الواضح أن خدمة المستقبل الإنساني ككل لا تتم إلا بالتعامل معه في نسبيته، و ليس في إطلاقه، و رسم أهداف قريبة، مرئية بوضوح، و قابلة للتحقيق، و عندما يتم تحقيقها فإنها تتحول إلى نقطة انطلاق جديدة لأهداف أبعد، تحققها أجيال لاحقة.

    طرح الحزب الشيوعي نفسه للمجتمع السوداني باعتباره حزب الطبقة العاملة. يعبر عن مصالحها أولا و قبل كل شيء، و يجعل تلك المصالح البعيدة و القريبة، معيارا لصحة المواقف و سداد السياسات، و يتوجه إليها بكل جهده و اهتمامه لتوعيتها برسالتها التاريخية، و إعدادها لقيادة المجتمع. و هذا لم يمنعه بالطبع من التوجه إلى الطبقات و الفئات الأخرى من مثقفين و مزارعين و برجوازية صغيرة ووطنية. و لكنه كان يطلب من أبناء تلك الطبقات، الذين يلجون صفوفه، أن يتخلوا عن التعبير عن مصالح طبقاتهم، و الانحياز بالكامل لمصالح الطبقة العاملة. و هم بالتالي لا يلجون أبواب إلا بمقدار إيمانهم بعدم مشروعية مصالح الطبقات التي ينتمون إليها. أو على الأقل على قدر إيمانهم بأن مصالح طبقاتهم تلك، ليست سوى مصالح عابرة سيتخطاها التاريخ في نهاية المطاف، و بالطبع فإن تخلي المرء عن مصالحه الخاصة أو الطبقية، حتى و لو على نطاق المستوى النظري الخالص، أمر ينطوي على الكثير من النبل، و لكنه في الحقيقة لا يجذب سوى أقلية ضئيلة من أبناء تلك الطبقات. و يصدق هذا خاصة في ظل أوضاع لا “تنحاز ” فيها الطبقة العاملة نفسها إلى “فكرها و مصالحها”! و ربما كانت مقولة الانحياز إلى فكر و مصالح الطبقة العاملة ستكتسب أبعادا هامة لو أن التاريخ صدق النبوءة الماركسية الأساسية حول الاستقطاب الاجتماعي الشامل بين البروليتاريا من جانب، و البرجوازية من الجانب الآخر. ذلك الاستقطاب، الذي لا تجد إزاءه الطبقات الوسيطة سوى الانحياز إلى هذا الجانب أو ذاك، مع غلبة تيار المنحازين على البروليتاريا، لان خلاص المجتمع سيتم على يديها، و لأن البرجوازية تعاني حينها سكرات الموت. و للأسف الشديد فإن التطور الاجتماعي لم يسر في تلك الوجهة. بل حدث العكس تقريبا. فقد تنامت الطبقات الوسطى على حساب البروليتاريا أساسا، و على حساب البرجوازية كذلك، و أصبحت تشكل الأغلبية الساحقة في كل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. و بانتصار الثورة العلمية التكنولوجية في تلك المجتمعات حدثت تطورات عاصفة حولت البروليتاريا -أي الطبقة العاملة الصناعية- إلى قوة هامشية تتراوح بين 10 و 15% من مجموع السكان. و تحول إنتاج الثروة القومية بصورة حاسمة من اليد إلى الدماغ. و أصبحت المعرفة و المعلومة و الفكرة، و التصميمات الذهنية، هي أداة الإنتاج الأساسية. و هذه تمتلكها الطبقات الجديدة، والفئات الجديدة، التي ولدتها الثورة العلمية التكنولوجية. و قد أصبحت هذه الفئات و الطبقات هي المنتجة الأساسية للثروة، و أصبحت هي الوحيدة القادرة على قيادة المجتمع. لقد تضاءل دور البروليتاريا و جاء عهد “الكومنتاريا” كما سماها ألفن توفلر في كتابه (power shift)، التي تمتلك وسائل إنتاجها بامتلاكها للمعرفة، و هي أدوات إنتاج لا تستطيع البرجوازية نفسها أن تجردها منها، و هذه ظاهرة جديدة لم يعرف ماركس و لم ينظّر لها.

    إن كل الدلائل تشير إلـى أن وجهـة التطـور التاريخي ستحكم على البروليتاريا بالاضمحلال المستمر. ومن الناحية الأخرى فإن العملية الإنتاجية في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، وبفضل نضال المنتجين، وبفضل المساومة التاريخية التي ارتضتها البرجوازية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت أكثر ديمقراطية لاشتراك العاملين أنفسهم في رسم أهدافها بهذا القدر أو ذاك، وباستقلال الإدارة النسبي عن ملكية وسائل الإنتاج، وباشتراك أعداد متزايدة في ملكية وسائل الإنتاج نفسها، وإن بأقدار متفاوتة. وقد كان هذا جزء من عملية شاملة توسعت فيها الديمقراطية لتشمل جل خلايا المجتمع. وقد ترسخت الحقوق والضمانات الاجتماعية. وبالرغم من أن ملكية وسائل الإنتاج ظلت مطلقة من الناحية القانونية، إلا أنها قد أحيطت بقيود اجتماعية كثيرة من الناحية الفعلية. وقد تم كل ذلك على حساب البرجوازية. على حساب سيادتها المطلقة على المجتمع، وتحديدها القاطع التام لأهداف العملية الإنتاجية.

    هذه الظواهر كلها محصورة الآن في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. وربما تغري هذا الحقيقة البعض ليزعموا أنها لا تخصنا في مجتمعات العالم الثالث المتخلفة. ولكن مثل هذا الزعم سيكون خاطئا. فالذي حكم باضمحلال البروليتاريا في المجتمعات الصناعية المتقدمة سيحكم باضمحلالها أيضا في بلداننا ومجتمعاتنا، عندما تأخذ بأسباب التقدم على أساس منجزات الثورة العلمية التكنولوجية المعاصرة، وليس على أساس معطيات الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، وهي معطيات عفى عليها الزمن. وليس مكتوبا على مجتمعاتنا أن تترسم خطى المجتمعات المتقدمة، وقع الحافر على الحافر، بل يمكنها، ويتوجب عليها، أن تحول الفارق الزمني والحضاري إلى صالحها، فتقطع بالطائرة المسافات التي قطعتها تلك المجتمعات بالقطار. وهذا لا يتأتى إلا بتخطي مرحلة الصناعية التقليدية التي ربطت إنتاج القيمة الزائدة بالإنتاج اليدوي أساسا، والاتجاه إلى التغليب التدريجي للإنتاج الفكري المستند على المعرفة والمعلومة والوسائل التكنولوجية الحديثة.

    إن مآلات ومصائر الطبقة العاملة هامة جدا بالنسبة لحزب كحزبنا. فمشروع حزبنا قائم بجوهره على صيرورة الطبقة العاملة، القوة الأساسية القائدة في المجتمع. وهذا الموقع لن يتحقق لها إلا إذا صارت المنتج الأساسي لثروة المجتمع، وتحققت لها الغلبة العددية. ولكن هذه الأهداف التي هي أهدافنا لم تعد أهدافا للتاريخ. فقد كف التأريخ عن السير في هذا الاتجاه.

    إن كل هذه المعطيات تجبرنا على النزول على أرض الواقع، وتحملنا على الكف عن التعامل مع الطبقة العاملة كمقولة ذهنية خيالية، وكمستودع خيالي لكل ما هو خير ونبيل، والتعامل معها كما هي في الواقع، دون مديح كاذب أو هجاء مغرض، دون أنوار باهرة أو طلال قاتمة، وتحدد مكانها ومكانتها، وفق معطيات موضوعية، ومقدمات حقيقية، فالطبقة العاملة جزء من المنتجين، ولكنه ليس الجزء الأساسي. ومع أخذ المجتمعات بمنجزات الثورة العلمية التكنولوجية ستتأكد هذه الحقيقة اكثر فأكثر والطبقة العاملة في بلادنا ضئيلة الوزن بالقياس إلى مجموع السكان وهي محصورة في قطاع حديث محدود وهي غير نقية في تكوينها الطبقي، لأن عددا كبيرا من أبنائها يجمع في الانخراط بين العمل المأجور والاحتفاظ بالملكية الصغيرة، كما أن جزءا كبيرا من العمال ينضم إليها في هذا الموسم ويهجرها في الموسم الذي يليه. ومعنى ذلك أن موقعها في الإنتاج ليس المحدد الوحيد لأيديولوجيتها، هذا إذا كان الموقع في الإنتاج محددا وحيدا لأيديولوجية الطبقات، وهو قول بعيد جدا عن الحقيقة. ومن هنا يصعب الحديث عن أيديولوجية للطبقة العاملة السودانية إلا إذا تعاطينا مع التلفيق، وحددنا بصورة مسبقة وتحكمية، أن الماركسية اللينينية هي تلك الأيديولوجية وعلى الطبقة العاملة أن تتبناها رغم أنفها وفي هذا الحالة لا يكون هناك أي فرق بين أن تتبنى هذا الأيديولوجية أو ترفضها، لأننا لم نضع أي اعتبار لهذا القبول أو الرفض، في وصف الماركسية بأنها أيديولوجية الطبقة العاملة. ونحن قد فعلنا ذلك وما زلنا نفعله، ولكن الوصاية المبثوثة في هذا القول لم تعد محتملة اليوم. فالوعي الديمقراطي قد تنامى بصورة تجعل مثل هذه الادعاءات فادحة الثمن على المروجين لها.

    يضاف إلى ذلك التناقض الأساسي في بلادنا وفي بلدان العالم الثالث على وجه العموم ( والذي أصبح اليوم عالما ثانيا) ليس هو التناقض بين الطبقة العاملة والبرجوازية، بل هو التناقض بين المجتمع ككل والشرائح الطفيلية السائدة والحاكمة ؛ بين المجتمع ككل والتخلف؛ بين المجتمع ككل ودوائر الاستغلال الإمبريالي. وستشترك مختلف الفئات والطبقات بأدوار متفاوتة في المعركة الطويلة والشرسة ضد الفئات الطفيلية الحاكمة والسائدة، أو تلك التي يولدها باستمرار تطور المجتمع، وضد التخلف، وضد الاستغلال الإمبريالي. وستلعب الطبقة العاملة دورها في تلك المعركة، ولكن ذك الدور لن يكون الأساسي في الغالب، وذلك بحكم وزنها السياسي والاقتصادي والثقافي والبشري. وغالبا ما يذهب الدور الأساسي بصورة تدريجية، ولكنها مؤكدة ووطيدة، إلى الفئات المرتبطة بالثورة العلمية التكنولوجية من المثقفين والفنيين والتقنيين والطلاب. وسيكون محتوى هذه العملية كلها محتوى ديمقراطيا عميقا، على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وسيكون أعداؤها الأساسيون هم دعاة الدكتاتورية بكل صورة وأشكالها، بما في ذلك دعاة “دكتاتورية البروليتاريا”. إن أحدا لا يمكن أن ينكر الدور الهام الذي ستلعبه الطبقة العاملة في تطور المجتمع وترسيخ الديمقراطية، وهي لها إرث مجيد في ذلك. ولكن الزعم بأنها وحدها تملك المفاتيح السحرية للأبواب المفضية إلى التحرر الإنساني الشامل، زعم لم يؤكده الواقع، ولم يشهد له التأريخ.

    إن أزمة المشروع الماركسي تتمثل في هذه النقطة بالذات. فقد راهن هذا المشروع على حصان بدأ جامحا ولكنه أصيب بالوهن في منتصف الطريق. ولعله سيكون من المفيد أن نتذكر أن تعلق ماركس بالبروليتاريا كان في أساسه تعلقا رومانسيا، لفتى لم يتعد العشرين إلا قليلا عندما كان يبحث عن العدالة المطلقة، فاستعار دون أن يعي مفهوم المسيح المخلص، وأصبغه على طبقة أثارت شفقته، واستفز شفاؤها حسه العميق بالعدالة. وقد ظل ماركس في سن نضجه وشيخوخته، أمينا أمانة مدهشة، لمشروع كان قد صاغه في صباه. إن الذي يقرأ نصوصه حول العمال الفرنسيين، والعمال المهاجرين الألمان “الذين يشع النبل من أجسادهم” سيدرك بسهولة ما يرمي إليه. وإن المطلع على أعمال ماركس لن يجد في ترشيحه للبروليتاريا لقيادة التأريخ الإنساني سوى أسباب واهية.

    إن الحزب الشيوعي السوداني قد بذل جهدا كبيرا ومتصلا لتأكيد هويته “البروليتارية”، “وترقية” تكوينه البروليتاري، وقد ذلك، في نظرنا، إلى سيادة اهتمامات ضيقة، وغذى روح الانتظار الحالم لتلك اللحظة التي تنمو وتنضج وتسود فيها الطبقة العاملة. وقد ذلك إلى غربة الشيوعيين عن واقعهم غير البروليتاري أساسا، فأعرضوا عن الانخراط اليومي الحميم في معركة الواقع وتوجيهه وفق منطقه الخاص وليس وفق تصورات ذهنية غير واقعية. وقد أدى البحث عن “الهوية البروليتارية” إلى نشوء عدم الحساسية تجاه الفئات والطبقات الأخرى، وأنشأ جدارا من الاستعلاء والغربة بين الحزب وبين العناصر الراغبة في الانضمام إليه من تلك الفئات والطبقات. وقد تأثر المثقفون خاصة بهذه الاتجاهات. كما أن النقاء البروليتاري قد تطابق في كثير من الأحيان مع التعصب والحمو، واحتقار الرأي الآخر، وقمعه، باعتباره يمثل “فكرا غريبا” عن أيديولوجية الطبقة العاملة. لقد كانت هذه التهمة فادحة بالفعل، فالتعبير عن “أفكار غريبة” يعني الوكالة الفكرية عن طبقات أخرى، وتمثيل مصالحها، غير المشروعة، داخل الحزب، وهو عمل يمكن أن يوصم بالخيانة. وفي حالة براءة الشخص من تهمة الخيانة فإنه في هذه الحالة لن يكون بريئا من الجهل، ولا من عدم نضوج الانتماء البروليتاري. وتكون مجهوداته السابقة كلها في “التثقيف الماركسي” قد ضاعت هباء.

    إن الجو الفكري الخانق في الحزب الشيوعي، والخوف الشديد من أي خلاف في الرأي، والإحجام عن التعبير عن أية أفكار غير مألوفة، وغير مقبولة للقيادة، والإحجام حتى عن استخدام مفردات لغوية جديدة، ومحاربة بروز خطاب خاص لأي عضو من أعضاء الحزب، إذ يشجع الجميع على التحدث بنفس اللغة، ترجع أسبابه إلى هذا الخطر الماثل المتعلق بالخروج من ملة البروليتاريا. وهذا الخوف يشمل البروليتاريين أنفسهم داخل الحزب. فالخيانة الطبقية تشمل أيضا خيانة الذات.

    وللتحلل من هذا العبء الفادح، والخوف المقيم، تُركت مسألة التعبير عن أيديولوجية البروليتاريا لقساوسة أيديولوجيين، لمفوضين من طراز سوسلوف. وقد أدى هذا إلى خنق الفكر داخل الأحزاب الشيوعية، وتفريخ روبوتات بدلا من أفراد. وربما لا يكون هذا قد تحقق بكامله في جميع الأحزاب. ولكنه اتجاه قوي لا يستطيع أن ينكره أحد.

    4.المركزية “الديمقراطية”… داء الحزب العضال:

    العوامل التي عددناها، والتي أعاقت نمو الحزب، ذات طابع خارجي، براني، أي أنها تختص أساسا بعلاقة الحزب بالمجتمع، أو الطبقات أو الفئات المختلفة. ولكن ثمة عقبة ذاتية، داخل الحزب ذاته، تعيق نموه وتحبط تطوره. وهي تتمثل في المبدأ التنظيمي الذي يحكم حياته الداخلية والمسمى المركزية “الديمقراطية”. فسيادة هذا المبدأ هي المسؤولة عن عقم حياة الحزب الداخلية، وضيقه بالخلاف في الرأي، وتبرمه باستقلال الفرد ونمو شخصيته المستقلة، وتوخيه للطاعة المطلقة في كوادره واعتبارها شرطا أساسيا للترقي الحزبي. وهي المسؤولة عن ظهور الشيخوخة المبكرة في هيئات الحزب القيادية.

    وعلى كثرة ما قيل في هذا المبدأ من مدائح، وما دبج في الدفاع عنه من مقالات وكتب، فإن الحجج التي تسنده لا تخرج عن اثنين:

    ضمان وحدة الحزب والوقوف في وجه أية محاولات تكتلية أو انقسامية، وسحقها في مهدها.

    إقامة نظام طاعة حديدي يزعم أنه يرتفع بفعالية الحزب إلى الدرجة القصوى.

    وإذا افترضنا أن مبدأ “المركزية الديمقراطية” يؤدي بالفعل إلى تحقيق هذين الهدفين، فإنه يحققهما، في رأينا، بثمن فادح يملي علينا الإقلاع عن تبني هذا المبدأ، ونبدأ بتمييز أساسي، ربما لا يوافق عليه البعض، وهو أن هذا المبدأ لينيني وليس ماركسيا، فقد أملاه في رأينا واقع القمع القيصري الفظيع، وواقع الإمبراطورية الروسية المترامية الأطراف، ومستوى الثقافة التنظيمية التي كانت سائدة في تلك السنوات الباكرة من القرن العـشرين. في تلك الظروف كان واجبا على الحزب الثوري، لكي يكون موجودا، ولكي يكون فعالا، أن يقوم على المركزية الصارمة، وربما المطلقة. وأن يستند على حكمة ورجاحة عقل القيادة، بل عبقريتها إذا شئت، في رسم كل سياساته وتحديد كل خطواته. وربما يجد البعض تبريرا كافيا للقول بأن الحزب البلشفي، لو لم يكن قائما على هذه المركزية الصارمة لما نجح في استلام السلطة. وذلك من واقع التأريخ الرسمي للحزب. ولكن الباحث المدقق سيعثر على حقيقة مدهشة، وهي أن الحزب البلشفي لم ينتصر إلا بتكسيره الحـازم لمبدأ المركزية المطلقة. وهذا أمر سنعالجه في موضع آخر.

    المهم أننا لو سلمنا جدلا بأن المركزية المطلقة كان لها ما يبررها في بداية القرن، في بلاد مثل روسيا، فإنها حاليا قد فقدت أي مبرر تأريخي. ويبدو لنا أن الذي فكر في الجمع بين المركزية والديمقراطية قد اتخذ الأول كنقطة انطلاق وأضاف إليها الثانية كمسوغ لقبولها ليس غير. وذلك لسبب بسيط وهو أن الديمقراطية تحتوي على مركزيتها الخاصة. فخضوع الأقلية لرأي الأغلبية مبدأ ديمقراطي معروف، يضمن وحدة المنظمة المعنية، ويجسد إرادتها. يضاف إليه مبدأ التمثيل “Representation” الذي يؤدي نفس المهمة على المستويات الأعلى فالأعلى. وتكمل البناء الديمقراطي، وترتقي بالفعالية الحزبية، مبادئ أخرى صاغها الفكر السياسـي الديمقراطي عبر القرون. مثل التوزيع الأفقي للسلطة الحزبية، التخصـص، الاعتبارات الفئوية والجغرافية، العرقية والقومية، المؤتمرات المنتظمة للصحافة الحزبية… الخ.

    وبما تشيعه الديمقراطية الحزبية من رضـى عام وسط الحزب وهيئاته، فإنها ترفع فعاليته إلى الحد الأقصـى. وهكذا فإن وحدة الحزب وفعاليته يمكن ضمانها باعتماد الديموقراطية وحدها كمبدأ تنظيمي. ولكن هذه الديمقراطية المكتفية بذاتها عندما تلحق كرديف ثانوي لمركب “المركزية الديمقراطية” وتستخدم كمسوغ لقبول المركزية المطلقة، وكطلاء سكري لجرعتها المريرة، فإن نهايتها تكون قد حلت. وبالفعل فإن ممارسة الأحزاب الشيوعية تشهد أن الديمقراطية قد تمت التضحية بها على الدوام، لصالح مخدومتها المبجلة: المركزية المطلقة. فعلى مستوى الحزب، صارت القيادات الحزبية العليا تفرض هيمنتها على كل عضويتها، وتحتفظ لنفسها بسلطات تظل تتسع باستمرار، وتتطور في أثناء ذلك آليات تنظيمية تسحق كل نزعة مستقلة.

    وعلى مستوى الطبقة العاملة، وبفضل نفس المبدأ، تحولت المؤسسات التي أنشأتها لخدمتها إلى مؤسسات سيدة، ومتعالية عليها. وعلى مستوى المجتمع ككل، صارت السياسات البيروقراطية المتنزلة من سماوات السلطة أوامر إلهية لا تقبل الأخذ والرد.

    إن النغمة السائدة حاليا هي إرجاع كل الشرور العظيمة، والجرائم المرعبة التي ارتكبت أثناء عقود التجربة الاشتراكية التي سقطت، إرجاعها إلى الظاهرة الستالينية دون توضيح حقيقة أن الظاهرة الستالينينة نفسها هي الابنة الشرعية للمركزية الديمقراطية. فعن طريق مبدأ الطغيان القيادي، صعد جوزيف ستالين، إلى السكرتارية المركزية للحزب الشيوعي، ولم يكن في مقدور مؤسس الحزب نفسه، فلاديمير ايليتش أن يزيحه من موقعه ذاك رغم محاولاته المستميتة، و “تآمره” مع مجموعة تروتسكي، وتحضيره لقضية شيوعي جورجيا الذين اضطهدهم ستالين، لتفجيرها داخل المؤتمر. لم يفلح في ذلك لأنه كان بفعل المرض قد فقد السلطة الحزبية. وعندما حدث ذلك فإن العبقرية السياسية، والنفوذ المعنوي الهائل، لم تعد تجدي فتيلا. وهذا هو أسطع مثال على أن المركزية “الديمقراطية” هي مبدأ الحماية المطلقة للقيادة في مواجهة قاعدتها بالذات. فعندما تصل القيادة إلى مراكزها السماوية عن طريق آليات المركزية “الديمقراطية”، فغن شيئا أقل من زلزال لن يزيحها من أماكنها. هذا مع الاعتبار الكافي لكون ممثليها كأفراد يمكن أن يزاحوا عن طريق الموت أو العجز الكلي، أو التـآمر!

    وحتى لا نتهم بالتحامل على المركزية “الديمقراطية” دعونا نأخذها في صورتها المثالية، ونفرض أن التنظيم القائم على أساسها قد طبقها تطبيقا كاملا. فهيئاته من القاعدة إلى القمة هيئات منتخبة، ويسود فيها مبدأ خضوع الأقلية لرأي الأغلبية، وتخضع الهيئات الدنيا للعليا، وتعقد مؤتمرات الحزب بصورة منتظمة، وتقرر برامجه ولوائحه في هذه المؤتمرات، وتصدر مجلاته الداخلية تحمل الآراء المختلفة والمتصارعة لأعضائه، وتصدر مجلاته وصحفه الجماهيرية لتحمل تصوراته الموحدة إلى الشعب، هل ينتفي حينها طغيان القيادة واستئثارها بصلاحيات شبه مطلقة؟

    أعتقد أن الإجابة بالنفي. وذلك لسبب محدد هو أن إجراءات انتخاب اللجنة المركزية، وكل الهيئات القيادية التابعة لها هي إجراءات غير ديمقراطية. فاللجنة المركزية السابقة، أو مكتبها السياسي بالأحرى، هي التي تقدم قائمة الترشيحات للجنة المركزية الجديدة. وما دامت هي القائمة الوحيدة فإنها ستفوز في جميع الحالات، وفي ضوء القانون اللائحي بمنع التكتل والاتصالات الجانبية، فإنه يستحيل عمليا تبلور أية مجموعة، بمعزل عن المجموعة القائدة، تستطيع أن تقدم قائمة بديلة، ويبقى من حق الأفراد، إذا احتملوا الهمهمات الساخرة والنظرات القاسية، أن يتقدموا بترشيحات فردية، وحظها من النجاح يكاد يكون صفرا.

    ولكن حتى إذا فازت فإنها لا تؤثر على تركيبة القيادة، ولا يبقى أمام المعارضين للترشيحات الجديدة سوى الامتناع عن التصويت، وهو حق العاجز، الذي لا يقدم ولا يؤخر و بمجرد انتخاب اللجنة المركزية فإن هيئات الحزب القيادية كلها يكون أمرها قد حسم. واللجنة المركزية، والمكتب السياسي، والهيئات المحيطة بهما، هي التي تحدد سياسات الحزب، ومواقفه العملية، وهي التي تحكمه حكما صارما.

    ويتم التركيز دائما على أن إجازة البرنامج السياسي هي الأمر الأهم. وأن العضوية عندما تجيز ذلك البرنامج فإنما ترسم للقيادة اتجاهها، وتحدد لها دورها. وهذا صحيح نظريا. ولكن عمومية البرنامج نفسه، تسمح بسياسات وتفسيرات متعددة، وربما متناقضة. ولذلك لا يمكن الاحتجاج به. وما يقال عن الوحدة حول البرنامج، يقال بصحة أكثر حول الأيديولوجية.

    إن المركزية الديمقراطية تنادي بحق الأقلية في الاحتفاظ برأيها والدعوة إليه من داخل المنابر الحزبية، ولكنها في واقع الأمر تجعل وجود أقلية داخل الحزب أمرا مستحيلا، فتكوين أقلية حزبية يقع مباشرة تحت طائلة المبدأ اللائحي القائل بتحريم التكتل والاتصالات الجانبية، ولا توجد الأقلية بالتالي إلا كأفراد منعزلين، لا يلتقون إلا كمتآمرين. وذلك هو السر في أن الأقليات لا تتكون داخل الحزب الشيوعي إلا عشية الانقسام، وتشهد على ذلك ظاهرة المناشفة والبلاشفة في روسيا، والمجموعات التي ظلت تنسلخ على الدوام من الأحزاب الشيوعية على طول الدنيا وعرضها. إن الحديث عن إمكانية وجود أقلية داخل إطار المركزية “الديمقراطية” ليست سوى واحدة من إستهبالات الفكر السياسي والتنظيمي الأكثر مرارة والأكثر إثارة للهزء. وإذا كانت الأقلية لا توجد داخل الحزب، فإن الرأي الآخر لا يوجد بالتالي، بالنسبة للمجتمع، حيث يفترض أن يعبر عضو الحزب عن رأي الحزب بصرف النظر عن وجهة نظره الشخصية.

    وعندما تستند القيادة إلى مبدأ خضوع الهيئات الدنيا للهيئات العليا فإنها ستتمكن من فرض رأيها على مجموع الحزب حتى إذا كانت كل الهيئات الدنيا تعارض هذا الرأي. وإذا كان هذا المبدأ هاما لفعالية أي تنظيم سياسي فإن الضمانات الكفيلة بعدم طغيان القيادة لم توضح مطلقا.

    ها نحن قد افترضنا هنا حالة مثالية لتطبيق المركزية “الديمقراطية” وأوضحنا أنها مركزية وحسب، وليست ديمقراطية على الإطلاق. ولكن الواقع غالبا ما يكون بعيدا جدا عن المثال. فمؤتمرات الحزب لا تعقد بنفس الانتظام الذي تنص عليه اللائحة. فالحزب الشيوعي السوفيتي لم يعقد مؤتمرا خلال ثلاثة عشرة سنة، مـن 1939 إلى 1952. وقد كان هذا الحزب ? وقتها ? في السلطة، وكان يحكم شعبا خاض لست سنوات حربا عالمية. والحزب الشيوعي السوداني لم يعقد مؤتمرا طوال ربع قرن. إن هذا يوضح أن المركزية يمكن أن تستغني عن خدمات الديمقراطية، في أي وقت، ودون أن تخشى الحساب. وحتى عندما تعقد المؤتمرات فإنها غالبا ما تتحول إلى ساحة لتمجيد القيادة، وإظهار الإجماع أمام المجتمع والعالم، وليس منابرا لحوار المثمر البناء واختـلاف الآراء. إن مؤتمر الحزب الشيوعي الروماني قد انتخـب نيكولاي شاوشيسكو أمينا عاما للحزب بالإجماع، وذلك قبل أيام فقط من محاكمته وإعدامه!!

    وغالبا ما لا تخضع الوثائق التي يخرج بها المؤتمر لحوار جدي قبل المؤتمر أو أثناء انعقاده. فوثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية على سبيل المثال، تمت قراءتها على الأعـضاء أثنـاء المؤتـمر الرابع، وهي كتاب. وتمت تعبئة الحزب حولها بعد انفضاض المؤتمر واستمرت التعبئة لأكثر من عام.

    نخلص إلى أن الحـزب القـائم على المركزيـة “الديمقراطية” كما أثبتت تجارب الأحـزاب الشيوعية دون استثناء، هو حـزب غير ديمقراطي. وإذا كانت ثمة ديمقراطية داخله، فهي من نصيب القيادة وحدها، في حين تتجه المركزية إلى إخضاع القاعدة وتأديب المارقين.

    إن المبادرة في مثل هذا الحزب تأتي دوما من القيادة وحدها. ويصبح التلقي والتنفيذ هو القدر الذي لا مفـر منه بالنسبة للقاعدة. فالمركزية المطلقة هي الأداة الفعالـة لخلق قاعدة حزبيـة سـلبية، عديمة الإرادة، مغتربة داخل حزبها الذي جاء ليجتث الاغتراب مـن كل المجتمع، وممزقة لا تدري ما تفعل. ولا نعدو الحق إذا قلنا أن العلاقة بين القيادة والقاعدة مأزومة دائما ومريضة. فالقيادة تنزل رؤيتها دائما في شكل توجيهات، وتتوقع من القاعدة أن ترفع لها الشواهد والبراهين التي تؤكد لها صحة تلك التوجيهات وتقمع وتحجب ما عداها. وإن القاعدة تنتظر رأي “الحزب” في كل صغيرة وكبيرة، معتقدة أن الحزب هو هيئاته القيادية، وبين هذه وتلك، يوجد الجهاز الحزبي المتخصص في تنزيل التوجيهات ورفع التأكيدات.

    وبالتدريج، وبفعل هذه الآلية، وبفعل الدوافع والنوازع الإنسانية، البالغة التعقيد، وبفعل تأثيرات السلطة الحزبية، أو السلطة السياسية إذا وجدت، يتحول رأي الحزب وتوجيهاته إلى أوامر أوتوقراطية غير قابلة للمراجعة. وتتحول تأكيدات القاعدة إلى مديح وثناء وعبادة. فعبادة الفرد ليست سوى عبادة القيادة. وليست سوى الثمرة السامة للمركزية “الديمقراطية” وإذا كانت تخلق، على مستوى القيادة، طغاة، قساة القلوب، مثل ستالين وشاوشيسكو، أو تسمح لهم بالصعود، فإنها على مستوى القاعدة تخلق جيشا كاملا من المداحين، والكذابين، وماسحي الجوخ المزيفين والمزيفين والمزيفين. هؤلاء هم الذين سيحتلون تدريجيا أهم الوظائف الحزبية، ويفرضون سيطرتهم الكاملة على جهاز الحزب، ويسخرونه في عمليات القمع القاسية، وعمليات الافتراء الخبيثة والتي يوجهونها ضد أشرف وأنظف العناصر الحزبية، هذه العناصر التي تستفزهم استفزازا لا يحتمل بمحض نبلها واستقامتها وصدقها، واستماتتها في الدفاع عن القضية النبيلة التي أنشئ الحزب أساسا من أجلها. وهنا يصبح الحزب مريضا مرضا لا شفاء منه، مغتربا عن ذاته، وعن رسالته، وعن مجتمعه. وبدلا من أن يكون منقذا للمجتمع يتحول إلى خطر ماحق يتهدده. إنه يغرق بالكامل في مرحلة انحطاطه ولن يشفى إلا باستئصال تام لأورامه الخبيثة.

    ويمكن للحزب أن يقاوم هذه الاتجاهات التي أشرنا غليها، من التعبير عن نفسها بالكامل، ما دام في صفوف المعارضة. ولكنه لايستطيع مقاومتها مطلقا إذا استولى على السلطة. وتجربة الأحزاب الشيوعية في ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي خير شاهد على ذلك. فالظاهرة الستالينية هي القاعدة وليس الاستثناء في جميع هذه التجارب. وبانتقال الحزب إلى السلطة ينتقل مبدأ المركزية “الديمقراطية” ليشمل المجتمع ككل. وتنتقل ظواهرها السالبة من حيزها الحزبي المحدود إلى الحيز الوطني العام. كما أنها تصبح أكثر تفاقما وعمقا وعقما أيضا.

    إن منع تكوين الديمقراطية، ومسايسة الرأي الآخر، ومصادرة الديمقراطية، وإنشاء بنية سيكولوجية متينة لدي عضو الحزب، تخشى الاختلاف، والاستقلال والتميز خشيتها للمرض، هي ظواهر كفيلة بإحباط وسحق تطور أي حزب أو منظمة. ولا غرو، فذلك يمثل الإلغاء العملي لفعالية قانون التناقض الماركسي والذي هو القوة الدافعة لكل تطور. فهذا القانون القائم على وحدة وصراع الأضداد قد أبطل فعله داخل الحزب بالتركيز الوحيد الجانب ? المرضي أحيانا- على الوحدة، وعلى حساب الصراع. وأنه لمن المفارقات الأليمة في تأريخ الفكر السياسي والتنظيمي أن يبادر الداعون إلى نظرية ما، والمؤمنون بصحتها وصوابها، إلى إلغاء جوهرها حينما يشرعون في تطبيقها. خاصة وأن تلك النظرية تصر على وحدة الفكر والتطبيق، وتعتقد أن حقيقتها لا تتكشف إلا في وحدتهما. وللأسف الشديد فإن هذا هو بالضبط ما حدث، بل أن أكثر ما يثير القيادات الحزبية ويفجر غضبها هو القدح في مبدأ المركزية الديمقراطية الذي أدى إلى كل هذه النتائج السالبة. ولا يحدث هذا إلا لأن هذا المبدأ يتعلق بالسلطة الحزبية وبحماية المواقع القيادية.

    ويمكن للبعض أن يقول أن تجربة الحزب الشيوعي السوداني تثبت أن المركزية الديمقراطية لا تؤدي بالضرورة إلى الظواهر التي أشرنا إليها. ولكننا لا نرى أي أساس لهذا القول، ولهذا الاستثناء. وفي حقيقة الأمر فإن الأدب الحزبي يفيض بالحديث عن المركزية “الديمقراطية” وقد تحولت إلى مركزية بيروقراطية، وأفسدت حياة الحزب الداخلية، وأعاقت نموه وتطوره. فقد جاء في وثيقة إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير ما يلي:

    ” إن بعض الرفاق يدوسون على هذا المبدأ؛ أي المركزية الديمقراطية، الذي لن يستقيم الحزب الشيوعي بدون تطبيقه. إنهم يضعون السلطة التنظيمية محل الصراع الفكري والإقناع، أنهم لا يحترمون رأي الأقلية، إنهم لا يناقشون سياسة الحزب، بقدر ما يصدرون الأوامر العسكرية. ساعد على نمو هذا الاتجاه انعدام الديمقراطية في بلادنا وظروف الضغط والاضطهاد التي يعيشها الحزب”

    وتتحدث وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية عن أن العجز في استقبال الطلائع وتحويل الحزب الشيوعي إلى قوة جماهيرية بعد ثورة أكتوبر 1964 ، لا ترجع أسبابه إلى عجز في النشاط الجماهيري، لآن الحزب قد جذب الآلاف من خيرة ممثلي الشعب نحوه، ولكن العجز يرجع إلى “عقم الحياة الداخلية، وإلى الخلل الناتج عن ضعف مبادئ المركزية الديمقراطية”

    وتتحدث وثائق الحزب الأساسية عن ظواهر الوصاية المفروضة على فرع الحزب، وعدم إشراك العضوية إشراكا نشطا في حياة الحزب الداخلية، وعن روح الحلقية الضيقة، وسيادة البيروقراطية والانغلاق الذي يصعب كسره لاستقبال الجديد، وما يصاحب ذلك من انصراف العضوية الجديدة عن الحزب وانكماشه وتقلصه في الوقت الذي تتوفر فيه كل الشروط الموضوعية لنموه. وتنعى وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية ضعف الديمقراطية في الحزب بالكلمات التالية:

    “إن هذا الأساس لتنمية الديمقراطية في حزبنا ضعيف، ومهزوز جدا. فما زال فرع الحزب الشيوعي يتلقى التوجيهات المفصلة، ويجري تدخل في حياته بحجة أن الفروع لا تستطيع العمل وحدها”.

    هذه نصوص واضحة جدا في دلالتها على أن الممارسة الديمقراطية معدومة على مستوى قاعدة الحزب، وقد أوضحنا أنها معدومة ? خاصة- على مستوى قيادته. ولا يمكن تجاهل الأسباب المعقدة التي تجعل تطبيق الديمقراطية في مجتمع مثل مجتمعنا أمرا صعبا جدا. ولا شك أن الفكر الديمقراطي مطالب بترسيخ أسسه في كل المؤسسات الاج

  7. الاستاذ صديق قد اصاب كبد الحقيقة وكل هذه المقالات والمقارنات كان الهدف الاساسي التقليل من شأن الاستاذ الخاتم عدلان او ان اوضح ان المفكر الراحل الاستاذ المستنير الخاتم عدلان قد اسس حركة حق هو و نفر كريم من الشيوعيين السابقين وغير الشيوعيين وهاهى الان حركة حق واقع موجود فى السياسة السودانية ولا احد يستطيع ان يقول ان الكم الهائل من عضويتها هم عبارة عن شيوعيين منشقين نحن الان فى هذا الظرف التاريخى نسخر من امرين الامر الاول المشروع الحضارى واعادة صياغة الانسان السوداني والامر الثاني هو نضال الحزب الشيوعي السوداني من اجل انجاز مرحلة الثورة الوطنية و الديمقراطية

  8. هذه الوساخة من فعل نقد والتجاني الطيب ،،، افهمو هولاء العجايز ورثو الوساخة من بعضهم البعض يعتقدو اننا لا زلنا في ذمن التيه تقدم يا شفيع فانت ليس الخاتم عدلان ليس للمكان متسع للقول فقط تقدم

  9. السر بابو يمثل
    سدنة الهيكل الستاليني في الحزب الشيوعي
    في ظروف حزبية عادية كان امثال السر بابو
    يتلقون الاوامر كالمراسلات لكنه في زمن انهيار
    الحزب الشيوعي الفكري الحالي اصبح مفكرا محوريا
    للحزب… زي ربيع عبد العاطي الخبير الوطني لحزب البشير

    قرأت العديد من مقالات السر بابو
    لكنني توقفت بعد أن توصلت انه ليس بها
    اي عمق فكري أو محمول ثقافي

    لقد شحذ الستالينيون سكاكينهم و ذبحوا
    بها الدكتور الشفيع خضر آخر أمل للحزب
    الشيوعي بأن يصير حزب انساني عادي

    فعلا هذا الحزب لن ينصلح حاله أبدا
    فكل ما يتعلق باتخاذ قرار فيه
    تتخذه الكوادر السرية في غرف مغلقة
    و للاسف لن يصبح الحزب الشيوعي حزبا
    جماهيريا مطلقا

    شكرا عزيزي الحزب الشيوعي
    فقد صحيتنا من غفوتنا و احلامنا

  10. مساهمة صديق عبد الهادي
    نواصل تفنيد دعاوي الصديق صديق عبد الهادي الذي أشار بعدم الدقة والكتابة من الذاكرة ، بعد الإشارة إلي انني استندت علي طبعة الداخل من عدد الشيوعي (157) بعنوان ” لقد حانت لحظة التغيير”. فلماذا التسرع في الحكم؟ ، وتبعته التعليقات الممجوجة عير اللائقة في الصراع الفكري مثل: الستاليتية وسدنة الهيكل …الخ التي كررها كل المعادين للحزب الشيوعي منذ تأسيسه وبقي الحزب وذهبت ريحهم..
    بداية صديق لم تكن موفقة وركيكة حتي في اللغة إذا اردنا الدقة والعناية باللغة والتي مهمة للكتاب الجادين، فمثلا جاء في المساهمة أخطاء لغوية علي سبيل المثال لا الحصر:
    ” خمسة صفحات” والصواب ” خمس صفحات” ،
    وجاء أيضا ” اربعة نقاط ” ، والصواب ” أربع نقاط”….الخ.
    هذه ملاحظات شكلية ، اما الموضوع الأساسي ، فإن وثيقة عوض عبد الرازق عارضت تكوين حزب شيوعي ، تحت شعار دراسة الماركسية..الخ، وبعد إنقسام مجموعة عوض عبد الرازق لم يتم الاهتمام بالماركسية وترجمتها كما زعم، وذابت حركتة التي كونها في زوايا النسيان. وما الفرق بين معارضة الحزب الشيوعي قبل تكوينه او بعد تكوينه؟!! فالجوهر واحد ، وعلما بأن الحركة السودانية منذ تأسيسها تبنت الماركسية كمنهج لدراسة واقع وخصائص شعبنا وفهمه والعمل علي تغييره، أي أن عوض عبد الرازق عارض تغيير الإسم للحزب الشيوعي. .
    كل مهتم بتاريخ الإنقسامات في الحزب الشيوعي يري ان الخيط الناظم واحد: هو حل الحزب الشيوعي ” عوض عبد الرازق ، معاوية ابراهيم ، الخاتم عدلان..الخ”، وتذويب الحزب في كيان آخر.. بهذا المعني الخاتم لم يضف جديدا .
    الخاتم أشار إلي زوال الطبقة العاملة وبالتالي لاداعي للماركسية تحت دعاوي المجتمع مابعد الصناعي استنادا إلي مااورده الفن توفلر وهي ليست أفكار جديدة، طرحها منذ الستنيات في مؤلفاته ” وعود المستقبل ” ، ” وصدمة المستقبل”، وتم الرد عليها بحدوث متغيرات في الطبقة العاملة ، ولكن مازال الاستغلال العضلي والذهني قائما، ولم يشر في الوثيقة للمصدر
    عوض عبد الرازق اشار الي أنه لاتوجد طيقة عاملة ولا داعي لتكوين حزب شيوعي ، الجوهر واحد.
    خلاصة القول لم يوفق الكاتب الذي دعي الي الموضوعية ، وجاءت مقدمة المقال ضعيفة وركيكة في الشكل والمحتوي.

  11. اتفق معك في الكثير وأاعتقد أن تريخ الننقسااماات في الحزب االشيوعي السودااني يجب اان تعاد كتاابته بعيداا عنن التقاارير الجاافة االبائسة لتاج السر بابو والتي تشبه مقالاات الممجلات االشيوعية في حقبة ستالين وحوتشوف

  12. “حين تقدم المرحوم عوض عبد الرازق بافكاره التي ضمنها تقريره لم يكن هناك الحزب الشيوعي الذي نعرفه، وانما كانت هناك “الحركة السودانية للتحرر الوطني”
    و
    إن المرحوم عوض عبد الرازق وقف، وفي لحظة تاريخية محددة، ضد ان تصبح الحركة السودانية للتحرر الوطني حزباً شيوعياً، لا غير. ولكن، وبرغمه اصبحت تجربة صراعه ومن ثم خروجه على الحزب بالنسبة للكُتَّاب الشيوعيين مثل “سرير بروكرستيان”
    ===================================
    كيف هذا !! كانت هناك الحركة السودانيه للتحرر الوطنى ولم يك هناك حزب شيوعى وبرغم ذلك يقول الأخ صديق: ومن ثم خروجه على الحزب الخ .. خروجه من حركة التحرر ام من الحزب الذى لم يك موجودا أصلا كما تقول!!
    ارجو من الأخ صديق الانارة وشكرا .

  13. ن آوان التغيير

    1- مدخل :

    مالذي حدث للشيوعيــة ؟ للأحزاب الشيوعية ، والشيوعيين الأفراد ؟ ماذا حدث لعالم بكامِله ، كان ، حتى الأمس، ملء السمع والبصر ، وأضحى أثراً بعد عين ؟ . إنهارَ انهياراً مأساوياً يُذَكِّر المرء بالقَـصص التوراتي والقرآني، حيث تختفي أقوام بكاملها من على وجه البسيطة وفي لمحِ البصر !؟ ..

    عندما بدأ شبح الشيوعية يُطارد أوربا العجـوز، ويُقلِق نومها، ويُفزِع أباطرتها وطغاتها ويُجبرَهم على الإنخراط في حِلفٍ مُقدّس. كانت قد وُلِدتْ بالفعل، واحتلّت مكانها على مسرح التاريخ ، قوّة لم يسبق لها مثيل في عُنفوانها ونُبلِها ومشروعها الإنسانيِّ الأخّاذ . ذلك المشروع الذي أراد أن يُحوِّل العالم ويجعله مكاناً جديراً بإنسانٍ جديد متعدد المواهب والمَلَكات . ينمو في جميع الإتِّجاهات، ويكون شرطاً لِـنُموِّه هذا، النُّموّ الحرّ لكل إخوته في الإنسانية .

    عندما بدأ ” ماركس” و ” إنجلز ” يرسمان معالم المشروع الجديد، تخدُمهما العبقرية والموهبة والذكاء ، فقد إنجذبت إليه بالفعل ، وعلى طول أوروبا وعرضها، أكثر العقول استنارة ، وأكثر المناضلين شرفاً وحماسة ؛ وقد تفجَّرت في صدور الرجال والنساء أحلامٌ وآمالٌ ، وامتلأت آفاقِهم باحتمالات نبيلة وخَـيـِّرة كفيلةٌ باجتياج السـماء . وقد نشأت لتحقيق تلك الآمال والأحلام والطموحات والإحتمالات، أخَـــــويَّات بشرية، لم تكن أقلّ من تلك الأخويات التى حقّـقها الأنبياء وسط أتباعهم . وقد كانت صداقة ماركس وإنجِلز نفسَيهما ، مثالاً ساطعاً على ذلك، قلّ أن يجود الزمان بمثلِه . وقد انخرطت هذه القوى في تغيير العالم ، وتحقيق المشروع الإشتراكي، ثمّ الشروع بعده في بناء المجتمع الشيوعي ، باعتبار ذلك تجسيداً لأنبل القِيَــم التى عرفتها الإنسانية ، وباعتباره حلآ لأعقد الألغاز التى أنشأها التاريخ ، وتجاوزاً لأصعب التناقضات التى عرفتها البشرية . وقد اتـَّسـَم نضال هذه القوى بالبطولة وبالشجاعة الفائقة وبنكران الذّات والإزدراء بالمنفعة الشخصية والإستهانة بالمصاعب والأخطار .

    ورغم الهزائم والإنكسارات، التى واجهتها في بداية مسيرتها، فقد تمكّنت هذه القوى في عام 1917، في روسيا القيصرية، من الإستيلاء على السُلطة ، والشروع في بناء المجتمع الجديد . وقد تجلـَّتْ في عملية الإستيلاء على السُلطلة وفي مواجهة التدخل الخارجي والحرب الأهلية ، بطولاتٌ خارقة ، إعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء . وقد ظهرت إثر انتصار الثورة في روسيا ، بوادرٌ باهرة لإجتياح العالم بأكملِـه ، ولم يكن الإعتقاد بإمكانية وواقعية ذلك الإجتياح وِفقاً على الشيوعيين وحدهم ، بل شاركتهم فيه شعوب بكامِلها ، وارتعدت له فرائص البرجوازيين ووجَفتْ قلوبهم . ولكن! بعد الشروع في معارك الإستيلاء على السُلطة في بعض البلدان، إتّضح أنّ تحقيق الحُلم لم يكن بالسهولة التى تَـخَـيَّله بها الشيوعيون وقادتهم . وبدأ واضحاً أنّ قوى أوروبا العجوز لم تكن تنقصها الشجاعة، ولا الحَمـِيَّة والمكـر ، ولا العنفوان المُـسلّح ، وإنّ وصفَـها بأنّها قوى عجوز ، كان يحتوي على جُرعة زائدة من البلاغة الكلامية .
    عندما بدأت وقائع هزيمة الثورة في هنغاريا ، وتأجيلها في ألمــانيا، وإجهاضها في بلدانٍ أخرى، تفعلُ فعلها وتُشكِّل وعياً جديداً ؛ إضطرّ البلاشفة الى توقيع صُلح ” برست ليتوفسك ” ،و قبول اقتطاع مساحات هائلة من أراضيهم لصالح المعتدين الألمان . ومن شيوعية الحرب وطموح التنفيذ الفوري للبرنامج الشيوعي، تراجعوا الى السياسة الإقتصادية الجديدة التى يُمكن أن تؤدي الى بروز فئات برجوازية صغيرة جديدة في المستقبل ، تنافس البروليتاريا . وشيئاً فشيئاً ، حلّت الوقائع الصّارمة محلِّ الأحلام المُجـَـنَّـحة ! ..

    أثناء حرب التدخل والحرب الأهلية، فَنِيَ آلاف الشيوعيين ، وهلكت أقسام كاملة من البروليتاريا الصناعية . وحلَّ محلَّهم فلآحون أمِّيون وأجلاف ، لا يستوعبون المشاريع النظرية ولا يؤمنون بها . وأمسكت بمقاليد السُلطة، بيروقراطية ضخمة من قُساة القلوب ، ظلّت الهُـوَّة بينها وبين الشعب تتَســع كل يوم .وقد أدّى ذلك الى نتائج ،ليس من أهدافنا حالياً الخوض في تفاصيلها، ولا تَـقَصـِّي أسبابها، تاركين ذلك لمناسبة ، ربما تحينُ قريبا ؛ مِن هذه النتائـــج :

    *- تركّزت الثروات في يدِ الدولة فأصبحت مالكة لكلِّ شيئ ، ومتصرِّفة مُطلَقة الصلاحية في كلّ خيرات المجتمع . وكان مطلوباً منها ،مع ذلك، أن تشرع في الإضمحلال ! .. ووجدت البيروقراطية أن باستطاعتها أن تتصرّف بخيراتِ المجتمع ومصائر الناس بِحُريّة أوسع من تلك التى كانت لدى القياصرة ! فانفصلتْ عن الشعب، وامتصـَّت رحيق حياته ونكَّلتْ به .

    *_ مِن خلال عمليات تصفية نشطة إستُخدمت فيها المؤتمرات الحقيقية والمفتعلة ، تمّ القضاءُ على جميع الأحزاب الأخرى ، وسُحـِق استقلال المنظمات الإجتماعية والأهلية، وصار الحزبُ حِزباً واحداً ، الرأيُّ رأياً واحداً ، والتصـوُّر للماضي والحاضر والمستقبل تصـوُّراً ضحلاً وبائساً ! يُمثـِّلُه ويُجَـسِّده حاكمٌ مُعتل العقل كان اسمه ” جوزيف ستالين ” ..

    *- حَـلَّتْ سياسة الهيمنة والضمِّ والإلحاق وفَرض النماذج السياسية والإقتصادية ، بل النّهب الواضح الفظ !، في بعض الحالات، محلِّ السياسات القائمة على أخويـَّة الشعوب وحرِّيتها وحقـَّــها في تقرير المصير .

    إنّ ذلك كلّه وغيره، لم يحدُث مرّة واحدة ، ولم يحدُث دون مقاومة ؛ فَعَلى المستوى الأعلى للقيادات الحِزبية، فقدَ الكثيرون أرواحهم دفاعاً عن المشروع الأصلي . وعلى مستوى الشَّعبْ ووسط جماهير الفلآحين بصفة خاصّة، ســالَتْ دماء الملايين الذين كانوا يدافعون عن اسلوب في الحياة ، كانوا يرَونَـه طبيعيّاً وعادلاً ، خاصّةً بعد تمليكهم الأرض بعد الثورة، ولم يعبأ أحد بإقناعهم أن هناك مـا هوَ أفضل منــه .

    هذه اللمحات العابرة ، ليست محاولة لتفسير ما حدث في الإتحاد السوفييتي وغيره من البلدان الإشتراكية ، بل هي محاولة لتوضيح حقيقة ، في غاية البساطة، وهيَ أنّ أيِّ حزب يُمكن ان ينحدر من ذُرى البطولة الى سِـــفوح الإنحطاط ، ويمكن ان يتحوَّل قادته من مناضلين يقتحمــون السماء ، الى حِفنةٍ من القَــتَـلة الأشرار .

    ولكنَّ الإنحطاط الذي أصاب الحزب البلشفي تحت قيادة ” ستالين” لم يكن شاملاً لكل الحركة الإشتراكية والشيوعية . فأثناء الحرب الأسبانية، وطوال الحرب العالمية الثانية، إنقدحت شرارة البطولة من جديد ولعبَ الشيوعيون ، على طول أوروبا وعرضها، أدواراً في مقاومة الفاشية والنازية ، لايمكن أن تنساها الشعوب . ولعبَ الجيش الأحمر السوفييتى دوراً في دحرِ النازية لايمكن ان تنساه الإنسانية . وقد حقَّق معجزة سحق النازية رغم أنّ قائده المعتوه! كان يُلحِق به من الخسائر والأضرار ما عجـِزَ عنه ” الفيرماخت” أي، هيئة قيادة الجيش النـّازي . وقد نشأت في حماية الجيش السوفييتي ، في شرق أوروبا ووسطها، دولٌ إشتراكية على منوال المثال السوفييتي ، والذي كان قد لحِقتـه تشويهات لا تغيبُ عن العين . ومن المؤكّد ، أنّ تلك التشويهات كانت واضحة وجليـّة لقادة البلدان الإشتراكية الجديدة ، ولكنّ إمكانية نقدها وفضحها ، دع عنكَ إمكانية الخروج عليها!، كانت مُغلَقة ، حيث كان ” قانون البقاء ” يتكفَّل بإخراس الألسـنة . ولا يُمكن لأحدٍ أن ينكر أنّ هذه النُّظُم قد حقَّقتْ إنجازات باهرة وكبيرة بكلِّ المقاييس ، في بُلدانٍ كان أغلبها يتّسمُ بالتخلف ،ولكنّهم كانو يحققون هذه الإنجازات والنَّيْرُ الروسيُّ الفادح يثقِلُ أكتافهم !. وكنتيجة ، لامفَـرَّ منها لعملية طويلة من التدجين والإخضاع والإرهاب والإفساد والتشويــه، عبرتْ هذه الأحزاب مرحلتها البطولية الى مرحلة الإنحطاط والإذعان والمناقضة . وهل نحتاجُ لأمثلةٍ على مـا نقول؟ .. إنّ القليل منها يكفينا :
    **- في أوائل نوفمبر 1989 عاد ” إيريش هونيكر ” من زيارة الى الإتحاد السوفيتي ، حاول فيها ” غورباتشوف ” أن يقنعه بإجراء إصلاحات على غِرار البيريسترويكا . وقد رفض هونيكر هذا الأمر بازدراء ! قائلاً : إنّ نظامه لا يحتاج الى إصلاح ! وعندما سُـئِل عن ” سور برلين ” قال: إنّه سيظلُّ قائماً خلال السنوات المائة القادمة !! ولكن ، بعد أقلّ من عشرة أيّام، أي في 9نوفمبر 1989 إنهــار سور برلين الذي كان أوّل سورٍ في التاريخ يُقام، ليس لحماية الشعب من الغزاة، كما كان يحدُث في الصين وإسبرطة مثلاً ، بل لمنع سُـكّان الجنَّة الإشتراكية الألمانية من الهروب الى سـعير الإستغلال الرأسمالي!! ولانظنُّ أنّ ” ماركس” كان من الممكن ان يحتمل مثل هذه السـُّخرية القاسية .

    **- وفي تشيكوسولوفاكيا ، سـَـيـَّرَ أبناء العُمّال والفلآحين والعُلماء ، مظاهراتٍ في 17نوفمبر يطالبون فيها بالإصلاحات الديمقراطية السياسية والأكاديمية . وقد حاولتْ الفتيات في المظاهرة أن يستَمِـلنَ رجال البوليس برشقهم بالأزهار ، ولكنّ القادة الشيوعيون ، الذين تحوَّلوا الى تروسٍ في ماكينة البيروقراطية المعزولة عن الشعب، أجابوهم بالرصاص الحي !.

    **- في ديسمبر 1989 ألقى ” نيكولاي شاوشيسكو ” خطاباً استمرّ ستَّ ساعات في مؤتمر الحزب الشيوعي الروماني، وقُـوطِع بالتصفيق المتواصل، والوقوف أكثر من عشرِ مرّات وأُجِيــز بالإجماع ! فَمـَنْ يجــرؤ ان يقول أنّه لا يرى الشمس في رائعة النّهار !؟. وانتُخِبَ شاوشيسكو رئيساً مدى الحياة ، وأبدى القادة السوفييت ، وعلى رأسهم غورباتشوف، إعجابهم بالشديد بالخطاب وبصاحب الخطاب، وأرسلوا له رسالة مطَـوَّلة بذلك، كانوا قبـلها بعامين، قد أنعموا عليه بِوسام ” لينين ” للسلام . وقد كان الشعب الروماني يشهدُ المهزلة بغضبٍ يُحرّق الأجفان ويُفَـجِّرُ البابي ؛ فقد تحوَّل قادة الحزب الشيوعي في نظرهم الى طُفيليّات جديرة بالسـحق . وعندما انفجرت المظاهرات إحتجاجاً على نفي راهب كاثوليكي، إندفعتْ السيكيوريتات، وبأوامر الطاغية ، تحصدُ جماهير الشعب بالمئات ، ولكن السيكيوريتات، وبكلِّ قوّتها وجبروتها، لم تستطع ان تحمي الطَّـاغية ! وعشيـّة أعياد الميلاد، أُعدِمَ تشاوشيسكو وزوجته ، ولم تُذرَف عليهما دمعةٌ واحدة ..

    وفي هـنغــاريا وبُـلغاريا وألمــانيا، كان الشيوعيُّون من الحِكمة بحيث استطاعوا ان ينضمـُّوا بسهولة نسبية الى الشعب، ويشتركوا معه في هدم البناء الذي أقاموه طِوال سنوات حُكمِــهم . وقبل ذلك ، في بولندا، وقفتْ الطبقة العاملة كلّها ضد السُلطة وضد الحزب ونظّمت نفسها في نقابة ” تضامن ” ؛ ومع ذلك لم يرَ الحزبُ أنّه كفَّ عن أن يكون حزباً للطبقة العاملة! واستعان قادته بالجيش، الذي يبدو أنّه تقمَّــصته روحٌ هيجليـّة حوَّلته الى نقيضٍ ! فصارَ هو الطبقة العاملة ، بينما أصبحتْ الطبقة العاملة نقيضاً لِذاتِــها ! . وقد كان بعض الشيوعيّون يصرخ ويقول: لن نتنازل عن شبرٍ واحد من رِقعة الإشتراكية حتى ولو كان ذلك التنازل من أجل الطبقة العاملة نفســها !! . ولم يكن استخدام الجيش ضد الطبقة العاملة وقفاً على بولندا وحدها ، فقد اسـتُـخْــدِم ضدها في ألمــانيا عام 1953، وفي المجر 1956 وفي تشيكوسلوفاكيا عام 1968 .

    هذا العبور من عصر البطولة الى عهد الإنحطاط، هل يخُـصّنا نحن في الحزب الشيوعي السوداني ؟ هل يُمكن ان يكون مصيرنا كمصيرِ الآخرين ؟ وهل سنشترك يوماً في قمع شعبنا وقهره بالسلاح ؟ وهل في مآسي الأحزاب الشيوعية الأخرى ومصائرها، شيئـاً نتعلـَّمه منها ؟ وهل في استطاعتنا أن نُديرَ ظهورنا لما حدث ونتعامل كأنّ شيئاً لم يكُنْ ؟..

    هذه هيَ بالضبط ، الأسئلة التي كتبتُ هذه الورقة للإجابة عليها ، بل إنّها كُتِبَـتْ لِتفادي مثل ذلك المصير الذي حلَّ بغيرِنا . فَثمَّة نغمة بدأت تتـّــسع الآن بأنّــنا حزبٌ من نوعٍ خاص ، لم يعرف عِبادة الفرد، ولا حَجْب الرأي الآخر ، ولا نَفي المخالفين في الرأي ؛ دع عنكَ إعدامهم . وما دامت المقدِّمات المختلفة تقود الى نتائج مختلفة ، فلا يُمكن لأحدٍ أن يتّهمنا بشيئ أو يُحاسبنا بأخطاء غيرنا . وربما يتساءل البعض : كيف يُمكن لحزب عبدالخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ ، أن يصبح كحزب شاوشيسكو ؟ .

    وليس في نيّة كاتب هذه السطور ان يكتفي بالإجابات العاطفية، أو الجُمل الطنّانة المُفجِّرة للحماس والعواطف النبيلة . صحيحٌ أنّنا حزب سودانيٌّ شديد الإعتزاز بسودانيـَّتِه ، ولكن الأحزاب الشيوعية الأخرى، كانت أحزاباً وطنية هيَ الأخرى ، شديدة الإعتزاز بانتماءها القومي من دون شك . وقد كانت لها مآثرها وتضحياتها وأبطالها وقد حاولتْ ، كما حاولنا ، أن تُخضِع الماركسية لمُقتضيات واقعها، ربما أقلّ قليلاً أو أكثر قليلاً . ولكـنّــنا ، كحزب شيوعي، لو وُضِعــنا في نفس الظروف التى وجدتْ هذه الأحزاب نفسها في خِضَـمِّها ، لفعلنا مثلما فَعلوا ، مع أنّ البصمات السودانية لن تكون معدومة .

    إنّنــا كشيوعييين ، وإذ نستندُ على الوقائع المُتـَّفق عليها ، حتى مِن قِبَل الأعداء، لَـيَــحِقُّ لنا أن نفخر بالمأثرة التى جسـَّدها على السودان، حزبُـنا الشيوعي السوداني . ولكنـَّها مأثرة قد آذنت بالإنطواء ! ويعتقد كاتب هذه السطور، أنّ سـاعة التغيير قد أزِفَتْ ، وإنّــنا إذا فَـشـَـلنا في النهوض بأعباء التغيير، فإنّ نُـبْلَ التاريخ سيتحوّل الى لؤمٍ لايُصـَدَّق . وعندما ينظرُ المرء الآن ويُجيلُ النّظر داخل الحزب الشيوعي الســوداني، فإنّه يرى مظاهر الشيخوخة قد دبَّت في كلِّ شيئ وتخلـّلت جميع الخلايا . ولكنـَّه يرى ،مع ذلك، إمكانية هائلة للنهوض بالإستناد الى جديدٍ ينبتُ بين الأنقاض، وحياةٍ تتمخَّضُ من كوم الرّماد . هناك إمكانيات حقيقية لبناء مشروع جديد، عادل وخَـيـِّر ، ولكنـَّه أكثر تواضعاً ممّا كنّا نحلم ونتمنّى ، وأكثر واقعية وراهنية ، وأكثر التصاقاً بالأرض، وأكثر اهتماماً بإنسان اليوم، وقضاياه الحقيقية ومشاكله الطاحنة وآماله القريبة، منــه بإنسان خيالي لايعدو أن يكون مقولة ذِهنية ، لاننكر جمالها ومقدرتها الهائلة على الجذب، كما لاننكر أنّها يُمكن ان تتحقّق في يومٍ قادم من أيـّام الإنسانية . ولكنـّــنا فقط، في لحظتنا هذه من الزمان ، في بُقعتنا هذي من الأرض، في مرحلتـنا هذه من تطوُّر المجتمع، نتركها للأجيال القادمة . فهيَ ، وياللأسف الشديد، ليست في متناول أيدينا ، ليست في مُستطاعنا . كما أنّ الأجيال القادمة لن تتمكّن من الوصول إليها إلآ على أساس من هذا البناء المتواضع الذي نحاول أن نُـقِــيمَـه لأنفســنا . وفي هذا مصدرٌ عميقٌ للعزاء .

    إنّني أرمي في الصفحات التالية، أن أُقَــيِّمَ إنجازات الحزب الشيوعي الســـوداني، وأُثبتُ بعض ما أضافه للحياة السياسية والفكرية والثقافية الســودانية . كما أنوي أن أُحاكِمَ بالآمال التى فجـَّرها في جوانح الناس، والمشاريع الكُبرى التى ألزمَ نفسه بتحقيقها ، وفشـَـل في تحقيقيها لمُـختـَلف الأسباب . كما أنوي أن أقول أنَّ السـَّيرَ بالطريقة القديمة ، لم يَعـُد ممكناً . فالآيديولوجية القديمة لم تَعـُد مُلهِمة للأجيال الجديدة، ولا مُفِـجِّرة لطاقاتها ، لا جامعة لِقوى التغيير . والنُّظُم الداخلية، عفا عليها الزمن، والديمقراطية يجب أن تدخل من جميع النوافذ والأبواب ، كما أنّ الوجوه يجب أن تتجـدّد .

    أنوي أن أقول : أنّ ســــاعة التغيير قد أزِفَتْ ، وأرجـــو ألآ يفـــــوت الأوان ..

  14. هل من الممكن أن يكون الإنسان شيوعياً مُقتنعاً بالنظرية الماركسية، ولكنه في ذات الوقت يرى أن الظروف الموضوعية في السودان لا تسمح بقيام حزب شيوعي فاعل؟؟

    أثبتت الأحداث أن رؤية عوض عبدالرازق (الشيوعي القُح) كانت صائبة، وأكدت تجربة حل الحزب الشيوعي مدى سهولة ضربه تحت الحزام (أي هشاشته، رغم أنف الدستور والقانون والقضاء).

    ورقة الخاتم عدلان (من حيث المحتوى) تصُب في ذات مجرى رؤية عوض عبدالرازق، ولاحقاً الحاج وراق والشفيع وكثير من اليساريين والديمقراطيين (الواقفين على الرصيف والذين استقالوا أو جمدوا عضويتهم في الحزب) ، أي ضرورة العمل من خلال الجبهة الوطنية الديمقراطية (مع تفادي الهيمنة والتسلط كما حدث في تجربة الجبهة الديمقراطية بالجامعات والمعاهد العُليا).

    هذه فُرصة حقيقية لتصحيح المسار، بعيداً عن شخصنة القضايا وتأليه الأفراد مهما عظُم دورهم وتأسطرت تضحياتهم.

    مهدي إسماعيل

  15. تاج السر عثمان هواحد سدنة الهيكل الماركسي او هو يمثل لأصولية الماركسيةالتي لا تزال تتغني بنشيد “استالين لم يمت ” يكفي انه لايميز بين الحركة السودانية للتحرر الوطني والحزب الشيوعي الذي لم يكن موجودا اصلا ايام المرحوم عوض عبدالرزاق

  16. ورقة الخاتم عدلان لإصلاح الحزب الشيوعي .. آن أوان التغيير (3)(انقل هذا الجزء لاهميته ولكن هناك بقية لهذه المساهمة الثرة)

    2- تحويل الحزب الشــيوعي إلى قوة إجتماعية كُبرى وإلى حزب على النِّطاق الوطني

    للراحل الخاتم عدلان

    إنّ أهمّ الوثائق التى أصدرها الحزب الشيوعي الســـوداني، توضِّح أنّ مُؤسـِّسيــه لم يدُر بخلدهم أن يكون الحزب حَـلَـقة صغيرة منطوية على ذاتها ، أو تـيـّاراً ثانوياً على هامش الحياة السياسية في البلاد . فقد شرعَ أؤلــئك المؤسـِّـسون في تكوين الحزب، وأمامهم أكبر المعارك وأعظمها شـأناً، معركة الإســتقلال الوطني . وكانت قضيـة توحيد القوى السياسية الوطنية ، هيَ القضيــة الأولى التى كانت تشغل أذهانهم وقتها . كان أولــئك المُؤسـِّسون يفكِّرون في حِزبهم كأداة هامّة في تحقيق الإستقلال، أي كانو يُفكـِّرون فيه كمنظّمة وطنية ، ســياسيـَّاً وتنظيمــيَّاً . وقد طُرِحت في دورة اللَّجنة المركزية في مارس 1953 قضيـّة بناء الحزب على النطاق الوطني ، لِـيَـصبح حزباً شعبيـَّـاً . وأُنشـِـئتْ في العام نفسـه ” الجبهة المعادية للإستعمار ” بإعتبارها شكلاً من أشــكال الوجود الوطني للحزب . وقد نجحتْ بالفعل في الوصول إلى مواقع إجتماعية ، وأماكن جغرافية ، ما كان من الميسور للحزب أن يصـلها بصفـته حزباً شـــيوعيـَّاً . فضَـمَّت شخصيات وقوى وطنية مؤثـِّرة ، وتكوَّنت لِجانها في قُرى وأقاليم بعيــدة . ولكن تجربـتها ، مع ذلك، تعثَّرت وانطوت لأسبابٍ سنتعرّضُ لها لاحقاً. لكنـّـنا نكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ وُجود الحزب على النطاق الوطني العام، كان همـَّاً باكراً و مُلـِــحَّاً من هموم قيادته . وفي المؤتمر الثالث في فبراير 1956 كان الشـِّعار الأساسي الذي خرج به الشيــوعيـون هو ” تحويل الحزب الى قوة إجتماعية كُبرى ” قــوّة تؤثِّر ثأثيراً بارزاً على منحَى تطوُّر الســودان ، وتُساهم في تعزيز الديمقراطية ، وتعطي الاستقلال أبعاده الإجتماعية والإقتصادية . وتابعت اللجنة المركزية نفس القضية في دورتها في يناير 1963، إذ نادت بوضع الترتيبات اللاّزمة لتأهيل الحزب لاستقبال التطوُّرات المرتقبة في الحياة السياسية بعد نشوب المعارك الجماهيرية ضد النظام الدكتاتوري العسكري ، وظهور بوادر إنهيار ذلك النظام . وقد شهِدتْ هذه الفترة عُدّة خطوات ؛ منها : مشروع تكوين الحزب الإشتراكي، لتوحيد قُوى اليسار والتقدُّم، وهو ما عُرِفَ في تاريخ الحزب بالإتجاه اليميني ، وتمّ التراجع عنه بإعتباره تذويباً عمليّـاً للحزب الشيوعي . وكان من المهام الأساسية التى ركَّـز عليها المؤتمر الرابع للحزب ، هيَ: ” تحويل الحزب إلى قوّة جماهيرية تتصدّى لمَـهام التغيير والتقدُّم ” . وعَبـَّرت وثيقة المؤتمر ” الماركسية وقضايا الثورة الســـودانية ” عن أهميـّة هذه القضيــة في نضال الحزب بالعبارات التالية :-

    [ وعبرَ هذه الســنوات وخلال ظروفها المختلفة، صعوداً وهبوطاً في حركة الجماهير الثورية ، ظلَّ الحزب يســتكشف الوسائل والطُّرق المختلفة لِـيُحَـقِّـق شــعار المؤتمر الثالث لتحويل ذاتـه إلى قــوَّة إجتماعية كُبرى . وإنّ كافّة مشاريع العمل بين الجماهير ، والصراع ضد الإتِّجاهات المنعزلة والجامدة ، كانت تســتوحي ذلك الهدف ] .

    واضح إذن من كلِّ مـَــا ســَبَق ، أنّ قضية تحويل الحزب إلى قوّة إجتماعية كُبرى، وإلى حزب جماهيري فاعل على النطاق الوطني، إحتلـَّت مكانة جوهرية في أدبـِه وفي نشــاطِه ، وهذا أمرٌ مفهـوم، لأنّ الحزب كان يضع نَصْبَ عينيه ، ومنذ البداية ، قضية الوصول على السـُّــلطة ، وتغيير المجتمع وِفق برنامج متكامل يبدأ بمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية وينتهي ببناء المجتمع الشــيوعي .

    إنّ الملامح العامة للصيغة التى وضعها الحزب ليتحوَّل عن طريقها إلى قوة إجتماعية كُبرى، وإلى حزب جماهيري على النطاق الوطني، يُمكن رسمها على النحو التالي :-

    */ تأهيل الحزب لنفسـِه بترقية إلمـامـه بالماركسية اللينينية والتعامل معها كمُرشد للعمل ، وليس كنصوص جامدة أو أقوال مُـقدّسة ، والاهتــداء بها في دراسة المجتمع الســـوداني ، واكتشــاف الصيغة المحددة والخاصة لقوانين تطــوُّرِه . ولا يتمُّ ذلك إلاّ بجذب خبرة المُثـَقَّفين إلى صفوف الحزب ، وإغناء حياته الداخلية واتِّســـاعها للصراع الفكري الخَـلاّق .

    */ تدعيم مواقع الحزب وسط الطبقة العاملة ، وجعله الحزب الأوّل في صفوفها ، من حيث النفوذ السياسي والوجود التنظيمي . والبدء بجذبِ الطّلائع العمّالية إلى صفوف الحزب، وتدريبها ، ورفع مقدرتها النضالية والقيادية ، وتأهيل الطبقة العاملة نفســها خطوة إثرَ خطوة ، لتحتلُّ الدور القيادي في المجتمع. ليس عن طريق الفرضِ والإملاء ، بل عن طريق الوعي والإقتناع بالضرورة التاريخية التى تؤهـِّلها وحدها لذلك الدّور .

    */ تمديد تنظيمات الحزب لتُغطـِّي كل أنحاء الوطن . وذلك بإعتماد أشكال تنظيمية مرِنة ، تستجيب لمقتضيات التطور غير المتوازن للمجتمع الســوداني ؛ وخلق الكوادر الشيوعية المحلية التى لا تشعر نحوها الجماهير بالتعالي ، كما يحدُث غالباً في حالة الكوادر المجلوبة من الحواضر والمُدُن .

    */ بناء الجبهة الوطنية الديمُـقراطية ، كحركةٍ جامعة ، متعددة الأشكال والصُّوَر ، لِتُعبِّـــرَ عن تحالف العمّال والمزارعين والمثقفين والرأسمالية الوطنية . ولِتُــنجِز مهام الثورة الوطنية الديمُقراطية . وتفتح الآفاق للتطوُّر الإشتراكي ، وتحتلُّ الطبقة العاملة المكان القيادي في الجبهة الوطنية الديمُقراطية (قيادة هذه القُوى، تكمُن بين جماهير الطبقة العاملة ) كما جاء في وثيقة الماركسية وقضايا الثورة الســـودانية . ويحتلّ الحزب الشــيوعي المكان القيادي وسط الطبقة العاملة . ويصبح دور الحزب ، بالتالي، في قيادة الدولة والمجتمع واضحاً . فما دامت قيادة الطبقة العاملة للتحالف تتخطـَّى مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ، لِتشمل المرحلة الإشتراكية ، بل المراحل الأولى لبناء المجتمع الشــيوعي، فإنّ المشروع المتكامل للحزب الشــيوعي بأبعاده السـياسية ، الإجتماعية ، والثقافية ، يكون واضحاً هوَ الآخر .

    ويُمكِننا عند هذه النقطة أن نتســـاءل :

    هل حقَّـق الحزب الشــيوعي شــعاره الأساسي في التحوُّل إلى قوة إجتماعية كُبرى ، وإلى حزبٍ جماهيري مــؤثـِّر وفعـَّال على النطاق الوطني ؟؟

    ولا نتردّد في الإجابة بالنَّــفي .

    لقد فشلَ الحزب في تحقيق ذلك الشـعار بالصورة التى تصـوَّرها مـؤسـِّــسوه ، وبالكيفية التى تؤهـِّله ليطمح طموحاً عقلانيـّاً في الإستــيلاء على الســُــلطة وتنفـيذ البرنامج المُـشــار إليه . لقد ذكرتْ وثائق الحزب في تقييم الأداء الحِزبي ، عند التحضير لثورة أكتوبر ، أنّ عدد أعضائه لم يكن يتعدّى بضع مئات وهوَ يواجـه الأحزاب السياسية . وهذا نفســه يُمكن أن يُقال عن الحزب بعد إحدى وعشرين سـنة ، وهو يواجه إنتفاضة أبريل ؛ كما يُمكن أن يُقال عنه حالياً ، وهو يُصارع الدكتاتورية العسكرية الثالثة . وقد حكى لي أحد قادة الحزب ، أنّـه مرّت عليهم لحظات أثناء دكتاتورية نميري ، كانوا يشعرون فيها أنّ وجود الحزب يتمثـّل فقط في وجود الأعضاء الخمسة لسكرتارية اللجنة المركزية ! ليست في حالة نشاط مشترك، بل كلٍّ على حِدة !! وإذا كان ذلك يُعبِّر عن الصلابة وقوة الإرادة والإستماتة في التمسـُّك والدفاع عن وجود الحزب ، فهو يُعبـِّر في نفس الوقت عن انكماش الحزب وتحوُّله في ذهن ذلك الشخص القيادي إلى قبضــة يد واحدة . ويُعبـِّر بعض القادة حالياً عن إســتهانة ظاهرة بأنّ عشرات الآلاف من أعضاء الحزب قد تركوا صفوفه أو جمـَّدوا نشاطهم أو خَفـَّضــــوه . ولا نحتاج إلى القول أنّ حزباً بهذا الحجم ، لايُمكن أن تُســاوره الآمال بتغطية السـّاحة الوطنية ؛ خاصـّة إذا كانت مُتَّســِـعة ومتنوِّعة ، إتِّـســاع وتـنـوُّع الســـــودان .

    إنّ أهمّ الأسباب التى أعاقت نمو الحزب وحالتْ بينه وبين صيرورته قــوّة إجتماعية كُبرى، وحِـزباً جماهيريا على النطاق الوطني ? في اعتقــادنا – هي التـالية :-

    **/ القمع الشـّرس الذي وُوجـِــه به الحزب منذ تأسيسه وحتى اليوم . فَطِوال سبعة وأربعين عاماً ، لم ينعم الحزب بوجود قانوني إلاّ لخمســــة أعوام تقريباً . ولم تكتَفِ الحكومات العسكرية طوال سبعة وعشرين عاما بالقمع القانوني، بل استخدمت ضدّه العنف دون تردُّد ، وباستمرار . وإذا كانت الأحزاب الأخرى قد تعرَّضت أثناء الدكتاتورية العسكرية للقمع القانوني ، والعنف أحياناً ، فإنّ نصيبها من ذلك لا يُمكن أن يُقارَن بما وقَعَ على الحزب الشـــيوعي ، ســواء بالإعتبارات النسبيَّة أو المُطلقة . أمـّا في فترة الإستعمار، وفي سـنينــه العشر الأخيرة ، وفترات الحُكم الديمقراطي، فقد تَوجـَّه القمع بأشكاله القانونية المختلفة أســاساً ، إلى الحزب الشـــيوعي. وإزاء هذا القمع الشـرس والمتواصل، إضـطـرَّ الحزب الشــيوعي إلى الحياة السـِّــرِّية المُطلقة وما يُصاحبها من أمراض الحَـلَـقية والإنكماش والإحجام ، ومن الإنفـلاق أمام الجديد وأمام الجماهير . وقد وَجَدتْ عناصر مؤثـِّرة ، كثيرة ، أنّ الحياة السـِّــرِّية لا تُناسبها ولا تتَّســع لها . كما وجدت عناصر أخرى، أنّ الأبواب أمامها مُغلـَـقة .

    **/ واقع تطوُّر بــلادنا المُـتـَّسِم بكون القطاع الحديث الذي يمـور بالنشاط والحيوية ، قِـطاعاً ضعيفاً نسبيـَّاً ، مع اتـِّـســاع القطاع التقليدي الذي يضمُّ الأغلبية السـاحقة للسـكان ، ويمـثـِّل قوة جذب هائلة إلى الوراء . وفي مثل هذا الواقع، يكون من العســير بناء تنظيم وطني حديث يتخطـَّى الإنتماءات القَبَـلية والطائفية والعِرقيــة والنِّــزاعات الإقليمية .

    **/ قيام الحزب على أساس الماركسية اللِّينينية ، يتطلـَّب من المرء ليـكون عضــواً من أعضائه ، أن يتوصـَّل لِـتَبـَـنِّي موقف فلسفي متكامل من الوجود . موقف يصف نفسه بأنّه استــوعب أعظم مــا توصلت إليه البشرية في مجالات و حقول العلم و الفلسفة و الاقتصاد و الاجتماع و الثقافة، و تخطاها تخطيا جدليا. إن مثل ذلك الانتماء لم يكن في متناول الأغلبية الساحقة من شعبنا، لا تاريخيا و لا معرفيا. و هو ليس في متناولها الآن أو في المستقبل المنظور. و أنه لطموح غير عقلاني أن نحاول بناء حزب من الفلاسفة في مجتمع أمي.

    **/ الموقف الفلسفي المادي للماركسية، و الذي لا يمكن التوفيق بينه و بين التصورات الدينية حول الكون و الخلق إلا بمعجزة، قد سهل مهمة أعدائه في إنشاء حائط أصم بينه و بين أغلبية الشعب. إن تركيز القوى التقليدية و الرجعية، بمكر و خبث على هذا الجانب، قد وضع عقبات كئود بين الحزب و الجماهير، و ذلك في وسط اجتماعي يمثل الدين نسيجه المعرفي، و القيمي و الأخلاقي، و قد تعرض الحزب لحملات بالغة العنف و الفظاظة، اعتمدت على الترويج الخبيث لمواقف عملية مزعومة، يقفها ضد الدين، و قد تصدى الحزب بفعالية لا تنكر في التصدي لتلك الحملات، و لكن المأساة التي صاغها التاريخ، و طوق بها الحزب، هي أن الأغلبية الساحقة من الجماهير كانت تقف خارج دائرة البث الفعال التي يغطيها الحزب بأقواله و أفعاله، سواء بفعل الأمية السياسية و الثقافية، أو العزلة الجغرافية، أو محدودية أداة البث ذاتها. هذا في الوقت الذي كان خطاب القوى الرجعية و اصلا لكل أقسام الجماهير، ولكل أنحاء القطر. و تستطيع أن تقول أن جيل المؤسسين و على رأسهم عبد الخالق محجوب، كان واعيا تماما بهذا الضعف الخطير في صلة الحزب بوطنه، و بشعبه، و بواقعه. و قد أشار عبد الخالق محجوب في حسرة، إلى أن الحزب ما يزال غريبا فكريا عن المجتمع، إذا كان في استطاعة القوى الرجعية أن تحاصره و تحله بالاستناد إلى حادثة مشبوهة، كحادثة معهد المعلمين العالي عام 1965، و التي فجرها طالب صغير، باع نفسه و ضميره، و استغلتها قوى لم تتعامل مع الدين إلا كذريعة لتحقيق مرام سياسية و معادية للديمقراطية و التقدم.

    **/ تضاف إلى شمولية الانتماء الفلسفي، شمولية الموقف و البرنامج السياسي، و قد تمثل ذلك في برنامج الحزب الذي يغطي ثلاث مراحل، ويطرحها جميعا للتنفيذ، و هي مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، ثم الاشتراكية، فالشيوعية. و قد جاء ذلك في برنامج الحزب حيث قال ” إن الحزب الشيوعي بطبيعته هذه، يهدف إلى تغيير المجتمع السوداني بإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية، و السير بالبلاد نحو الاشتراكية فالشيوعية”.

    و لا ينظر الحزب إلى مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية و المطروحة للإنجاز تلك، إلا كمرحلة إعداد للاشتراكية، وهي بالتالي مرتبطة بتلك المرحلة و مفضية إليها. بل إن كثيرا من المهام الأساسية لهذه المرحلة لا يمكن فهمها إلا في إطار الانتقال اللاحق على الاشتراكية. فقيادة الطبقة العاملة لمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية تمليها ضرورة الانتقال الحاسم إلى الاشتراكية, كما أن الاشتراكية نفسها ليست سوى تحضير طويل للمجتمع الشيوعي، الذي تمثل هي مرحلته الدنيا.

    برنامج الحزب ? إذا- وثيقة مترابطة، متكاملة إنه حلقات يمسك بعضها برقاب بعض. و لذلك فإن الشخص الراغب في نيل عضوية الحزب مطالب بتبني مشروع سياسي متكامل، يغطي الحاضر، و كل المستقبل، و يسعى نحو إقامة نظام اجتماعي، ليس لهذا الجيل وحده، و لا للجيل الذي يليه، بل للمجتمع الإنساني ككل، منذ اللحظة الحاضرة، و إلى الأبد. و إذا وضعنا في الاعتبار طبيعة قانون التطور الاجتماعي، فان مثل هذا المشروع لا يمكن أن يوصف بأنه مشروع علمي، و هذا ما ناقشناه في الورقة الأولى. و لكن الذي يهمنا هنا على وجه التحديد هو أن ترابط حلقات برنامج الحزب الشيوعي، يجعل من العسير جدا على المرء، أن يختار حلقة دون الحلقتين الأخريين، فإذا كان مقتنعا مثلا ببرنامج الحزب في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، أو ببعض القضايا الأساسية في ذلك البرنامج، أي أنه يلتقي مع الحزب في مرحلة تاريخية متكاملة، فانه سيحجم عن التقدم لعضوية الحزب لأنه لا يستطيع أن يعرّف نفسه تعريفا شيوعيا يقتضي منه أكثر من ذلك بكثير. و قد رأينا كيف كان الحزب في غير متناول جماهير القطاع التقليدي، و ها نحن نرى كيف صار الحزب بطبيعة برنامجه هذا في غير متناول أقسام واسعة من جماهير القطاع الحديث نفسه، و باستطاعة الحزب أن يكون في متناول هذه الجماهير لو اقتصر في خطابه على مرحلة تاريخية واحدة، يراها و يدركها، و تراها و تدركها مع الجماهير الواسعة، و تنخرط على هذا الأساس في النضال من أجل تحقيقها، و ما دامت هذه المرحلة في اتجاه التطور التاريخي العام، فإن الأجيال القادمة، و التي تصاغ المشاريع الشمولية من أجلها، لن تخسر شيئا، بل ستتسلم الراية من نقطة متقدمة، و لن يخسر المستقبل الإنساني شيئا، بل سيكف عن الضغط بثقله على الحضر، مفتتا بعده قوى التقدم الماثلة، التي تؤدي اختلافاتها حوله على حجب اتفاقها حول واجبات الحاضر، و عرقلة وحدتها لإنجاز هذه الواجبات. و من الواضح أن خدمة المستقبل الإنساني ككل لا تتم إلا بالتعامل معه في نسبيته، و ليس في إطلاقه، و رسم أهداف قريبة، مرئية بوضوح، و قابلة للتحقيق، و عندما يتم تحقيقها فإنها تتحول إلى نقطة انطلاق جديدة لأهداف أبعد، تحققها أجيال لاحقة.

    طرح الحزب الشيوعي نفسه للمجتمع السوداني باعتباره حزب الطبقة العاملة. يعبر عن مصالحها أولا و قبل كل شيء، و يجعل تلك المصالح البعيدة و القريبة، معيارا لصحة المواقف و سداد السياسات، و يتوجه إليها بكل جهده و اهتمامه لتوعيتها برسالتها التاريخية، و إعدادها لقيادة المجتمع. و هذا لم يمنعه بالطبع من التوجه إلى الطبقات و الفئات الأخرى من مثقفين و مزارعين و برجوازية صغيرة ووطنية. و لكنه كان يطلب من أبناء تلك الطبقات، الذين يلجون صفوفه، أن يتخلوا عن التعبير عن مصالح طبقاتهم، و الانحياز بالكامل لمصالح الطبقة العاملة. و هم بالتالي لا يلجون أبواب إلا بمقدار إيمانهم بعدم مشروعية مصالح الطبقات التي ينتمون إليها. أو على الأقل على قدر إيمانهم بأن مصالح طبقاتهم تلك، ليست سوى مصالح عابرة سيتخطاها التاريخ في نهاية المطاف، و بالطبع فإن تخلي المرء عن مصالحه الخاصة أو الطبقية، حتى و لو على نطاق المستوى النظري الخالص، أمر ينطوي على الكثير من النبل، و لكنه في الحقيقة لا يجذب سوى أقلية ضئيلة من أبناء تلك الطبقات. و يصدق هذا خاصة في ظل أوضاع لا “تنحاز ” فيها الطبقة العاملة نفسها إلى “فكرها و مصالحها”! و ربما كانت مقولة الانحياز إلى فكر و مصالح الطبقة العاملة ستكتسب أبعادا هامة لو أن التاريخ صدق النبوءة الماركسية الأساسية حول الاستقطاب الاجتماعي الشامل بين البروليتاريا من جانب، و البرجوازية من الجانب الآخر. ذلك الاستقطاب، الذي لا تجد إزاءه الطبقات الوسيطة سوى الانحياز إلى هذا الجانب أو ذاك، مع غلبة تيار المنحازين على البروليتاريا، لان خلاص المجتمع سيتم على يديها، و لأن البرجوازية تعاني حينها سكرات الموت. و للأسف الشديد فإن التطور الاجتماعي لم يسر في تلك الوجهة. بل حدث العكس تقريبا. فقد تنامت الطبقات الوسطى على حساب البروليتاريا أساسا، و على حساب البرجوازية كذلك، و أصبحت تشكل الأغلبية الساحقة في كل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. و بانتصار الثورة العلمية التكنولوجية في تلك المجتمعات حدثت تطورات عاصفة حولت البروليتاريا -أي الطبقة العاملة الصناعية- إلى قوة هامشية تتراوح بين 10 و 15% من مجموع السكان. و تحول إنتاج الثروة القومية بصورة حاسمة من اليد إلى الدماغ. و أصبحت المعرفة و المعلومة و الفكرة، و التصميمات الذهنية، هي أداة الإنتاج الأساسية. و هذه تمتلكها الطبقات الجديدة، والفئات الجديدة، التي ولدتها الثورة العلمية التكنولوجية. و قد أصبحت هذه الفئات و الطبقات هي المنتجة الأساسية للثروة، و أصبحت هي الوحيدة القادرة على قيادة المجتمع. لقد تضاءل دور البروليتاريا و جاء عهد “الكومنتاريا” كما سماها ألفن توفلر في كتابه (power shift)، التي تمتلك وسائل إنتاجها بامتلاكها للمعرفة، و هي أدوات إنتاج لا تستطيع البرجوازية نفسها أن تجردها منها، و هذه ظاهرة جديدة لم يعرف ماركس و لم ينظّر لها.

    إن كل الدلائل تشير إلـى أن وجهـة التطـور التاريخي ستحكم على البروليتاريا بالاضمحلال المستمر. ومن الناحية الأخرى فإن العملية الإنتاجية في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، وبفضل نضال المنتجين، وبفضل المساومة التاريخية التي ارتضتها البرجوازية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت أكثر ديمقراطية لاشتراك العاملين أنفسهم في رسم أهدافها بهذا القدر أو ذاك، وباستقلال الإدارة النسبي عن ملكية وسائل الإنتاج، وباشتراك أعداد متزايدة في ملكية وسائل الإنتاج نفسها، وإن بأقدار متفاوتة. وقد كان هذا جزء من عملية شاملة توسعت فيها الديمقراطية لتشمل جل خلايا المجتمع. وقد ترسخت الحقوق والضمانات الاجتماعية. وبالرغم من أن ملكية وسائل الإنتاج ظلت مطلقة من الناحية القانونية، إلا أنها قد أحيطت بقيود اجتماعية كثيرة من الناحية الفعلية. وقد تم كل ذلك على حساب البرجوازية. على حساب سيادتها المطلقة على المجتمع، وتحديدها القاطع التام لأهداف العملية الإنتاجية.

    هذه الظواهر كلها محصورة الآن في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. وربما تغري هذا الحقيقة البعض ليزعموا أنها لا تخصنا في مجتمعات العالم الثالث المتخلفة. ولكن مثل هذا الزعم سيكون خاطئا. فالذي حكم باضمحلال البروليتاريا في المجتمعات الصناعية المتقدمة سيحكم باضمحلالها أيضا في بلداننا ومجتمعاتنا، عندما تأخذ بأسباب التقدم على أساس منجزات الثورة العلمية التكنولوجية المعاصرة، وليس على أساس معطيات الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، وهي معطيات عفى عليها الزمن. وليس مكتوبا على مجتمعاتنا أن تترسم خطى المجتمعات المتقدمة، وقع الحافر على الحافر، بل يمكنها، ويتوجب عليها، أن تحول الفارق الزمني والحضاري إلى صالحها، فتقطع بالطائرة المسافات التي قطعتها تلك المجتمعات بالقطار. وهذا لا يتأتى إلا بتخطي مرحلة الصناعية التقليدية التي ربطت إنتاج القيمة الزائدة بالإنتاج اليدوي أساسا، والاتجاه إلى التغليب التدريجي للإنتاج الفكري المستند على المعرفة والمعلومة والوسائل التكنولوجية الحديثة.

    إن مآلات ومصائر الطبقة العاملة هامة جدا بالنسبة لحزب كحزبنا. فمشروع حزبنا قائم بجوهره على صيرورة الطبقة العاملة، القوة الأساسية القائدة في المجتمع. وهذا الموقع لن يتحقق لها إلا إذا صارت المنتج الأساسي لثروة المجتمع، وتحققت لها الغلبة العددية. ولكن هذه الأهداف التي هي أهدافنا لم تعد أهدافا للتاريخ. فقد كف التأريخ عن السير في هذا الاتجاه.

    إن كل هذه المعطيات تجبرنا على النزول على أرض الواقع، وتحملنا على الكف عن التعامل مع الطبقة العاملة كمقولة ذهنية خيالية، وكمستودع خيالي لكل ما هو خير ونبيل، والتعامل معها كما هي في الواقع، دون مديح كاذب أو هجاء مغرض، دون أنوار باهرة أو طلال قاتمة، وتحدد مكانها ومكانتها، وفق معطيات موضوعية، ومقدمات حقيقية، فالطبقة العاملة جزء من المنتجين، ولكنه ليس الجزء الأساسي. ومع أخذ المجتمعات بمنجزات الثورة العلمية التكنولوجية ستتأكد هذه الحقيقة اكثر فأكثر والطبقة العاملة في بلادنا ضئيلة الوزن بالقياس إلى مجموع السكان وهي محصورة في قطاع حديث محدود وهي غير نقية في تكوينها الطبقي، لأن عددا كبيرا من أبنائها يجمع في الانخراط بين العمل المأجور والاحتفاظ بالملكية الصغيرة، كما أن جزءا كبيرا من العمال ينضم إليها في هذا الموسم ويهجرها في الموسم الذي يليه. ومعنى ذلك أن موقعها في الإنتاج ليس المحدد الوحيد لأيديولوجيتها، هذا إذا كان الموقع في الإنتاج محددا وحيدا لأيديولوجية الطبقات، وهو قول بعيد جدا عن الحقيقة. ومن هنا يصعب الحديث عن أيديولوجية للطبقة العاملة السودانية إلا إذا تعاطينا مع التلفيق، وحددنا بصورة مسبقة وتحكمية، أن الماركسية اللينينية هي تلك الأيديولوجية وعلى الطبقة العاملة أن تتبناها رغم أنفها وفي هذا الحالة لا يكون هناك أي فرق بين أن تتبنى هذا الأيديولوجية أو ترفضها، لأننا لم نضع أي اعتبار لهذا القبول أو الرفض، في وصف الماركسية بأنها أيديولوجية الطبقة العاملة. ونحن قد فعلنا ذلك وما زلنا نفعله، ولكن الوصاية المبثوثة في هذا القول لم تعد محتملة اليوم. فالوعي الديمقراطي قد تنامى بصورة تجعل مثل هذه الادعاءات فادحة الثمن على المروجين لها.

    يضاف إلى ذلك التناقض الأساسي في بلادنا وفي بلدان العالم الثالث على وجه العموم ( والذي أصبح اليوم عالما ثانيا) ليس هو التناقض بين الطبقة العاملة والبرجوازية، بل هو التناقض بين المجتمع ككل والشرائح الطفيلية السائدة والحاكمة ؛ بين المجتمع ككل والتخلف؛ بين المجتمع ككل ودوائر الاستغلال الإمبريالي. وستشترك مختلف الفئات والطبقات بأدوار متفاوتة في المعركة الطويلة والشرسة ضد الفئات الطفيلية الحاكمة والسائدة، أو تلك التي يولدها باستمرار تطور المجتمع، وضد التخلف، وضد الاستغلال الإمبريالي. وستلعب الطبقة العاملة دورها في تلك المعركة، ولكن ذك الدور لن يكون الأساسي في الغالب، وذلك بحكم وزنها السياسي والاقتصادي والثقافي والبشري. وغالبا ما يذهب الدور الأساسي بصورة تدريجية، ولكنها مؤكدة ووطيدة، إلى الفئات المرتبطة بالثورة العلمية التكنولوجية من المثقفين والفنيين والتقنيين والطلاب. وسيكون محتوى هذه العملية كلها محتوى ديمقراطيا عميقا، على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وسيكون أعداؤها الأساسيون هم دعاة الدكتاتورية بكل صورة وأشكالها، بما في ذلك دعاة “دكتاتورية البروليتاريا”. إن أحدا لا يمكن أن ينكر الدور الهام الذي ستلعبه الطبقة العاملة في تطور المجتمع وترسيخ الديمقراطية، وهي لها إرث مجيد في ذلك. ولكن الزعم بأنها وحدها تملك المفاتيح السحرية للأبواب المفضية إلى التحرر الإنساني الشامل، زعم لم يؤكده الواقع، ولم يشهد له التأريخ.

    إن أزمة المشروع الماركسي تتمثل في هذه النقطة بالذات. فقد راهن هذا المشروع على حصان بدأ جامحا ولكنه أصيب بالوهن في منتصف الطريق. ولعله سيكون من المفيد أن نتذكر أن تعلق ماركس بالبروليتاريا كان في أساسه تعلقا رومانسيا، لفتى لم يتعد العشرين إلا قليلا عندما كان يبحث عن العدالة المطلقة، فاستعار دون أن يعي مفهوم المسيح المخلص، وأصبغه على طبقة أثارت شفقته، واستفز شفاؤها حسه العميق بالعدالة. وقد ظل ماركس في سن نضجه وشيخوخته، أمينا أمانة مدهشة، لمشروع كان قد صاغه في صباه. إن الذي يقرأ نصوصه حول العمال الفرنسيين، والعمال المهاجرين الألمان “الذين يشع النبل من أجسادهم” سيدرك بسهولة ما يرمي إليه. وإن المطلع على أعمال ماركس لن يجد في ترشيحه للبروليتاريا لقيادة التأريخ الإنساني سوى أسباب واهية.

    إن الحزب الشيوعي السوداني قد بذل جهدا كبيرا ومتصلا لتأكيد هويته “البروليتارية”، “وترقية” تكوينه البروليتاري، وقد ذلك، في نظرنا، إلى سيادة اهتمامات ضيقة، وغذى روح الانتظار الحالم لتلك اللحظة التي تنمو وتنضج وتسود فيها الطبقة العاملة. وقد ذلك إلى غربة الشيوعيين عن واقعهم غير البروليتاري أساسا، فأعرضوا عن الانخراط اليومي الحميم في معركة الواقع وتوجيهه وفق منطقه الخاص وليس وفق تصورات ذهنية غير واقعية. وقد أدى البحث عن “الهوية البروليتارية” إلى نشوء عدم الحساسية تجاه الفئات والطبقات الأخرى، وأنشأ جدارا من الاستعلاء والغربة بين الحزب وبين العناصر الراغبة في الانضمام إليه من تلك الفئات والطبقات. وقد تأثر المثقفون خاصة بهذه الاتجاهات. كما أن النقاء البروليتاري قد تطابق في كثير من الأحيان مع التعصب والحمو، واحتقار الرأي الآخر، وقمعه، باعتباره يمثل “فكرا غريبا” عن أيديولوجية الطبقة العاملة. لقد كانت هذه التهمة فادحة بالفعل، فالتعبير عن “أفكار غريبة” يعني الوكالة الفكرية عن طبقات أخرى، وتمثيل مصالحها، غير المشروعة، داخل الحزب، وهو عمل يمكن أن يوصم بالخيانة. وفي حالة براءة الشخص من تهمة الخيانة فإنه في هذه الحالة لن يكون بريئا من الجهل، ولا من عدم نضوج الانتماء البروليتاري. وتكون مجهوداته السابقة كلها في “التثقيف الماركسي” قد ضاعت هباء.

    إن الجو الفكري الخانق في الحزب الشيوعي، والخوف الشديد من أي خلاف في الرأي، والإحجام عن التعبير عن أية أفكار غير مألوفة، وغير مقبولة للقيادة، والإحجام حتى عن استخدام مفردات لغوية جديدة، ومحاربة بروز خطاب خاص لأي عضو من أعضاء الحزب، إذ يشجع الجميع على التحدث بنفس اللغة، ترجع أسبابه إلى هذا الخطر الماثل المتعلق بالخروج من ملة البروليتاريا. وهذا الخوف يشمل البروليتاريين أنفسهم داخل الحزب. فالخيانة الطبقية تشمل أيضا خيانة الذات.

    وللتحلل من هذا العبء الفادح، والخوف المقيم، تُركت مسألة التعبير عن أيديولوجية البروليتاريا لقساوسة أيديولوجيين، لمفوضين من طراز سوسلوف. وقد أدى هذا إلى خنق الفكر داخل الأحزاب الشيوعية، وتفريخ روبوتات بدلا من أفراد. وربما لا يكون هذا قد تحقق بكامله في جميع الأحزاب. ولكنه اتجاه قوي لا يستطيع أن ينكره أحد.

    4.المركزية “الديمقراطية”… داء الحزب العضال:

    العوامل التي عددناها، والتي أعاقت نمو الحزب، ذات طابع خارجي، براني، أي أنها تختص أساسا بعلاقة الحزب بالمجتمع، أو الطبقات أو الفئات المختلفة. ولكن ثمة عقبة ذاتية، داخل الحزب ذاته، تعيق نموه وتحبط تطوره. وهي تتمثل في المبدأ التنظيمي الذي يحكم حياته الداخلية والمسمى المركزية “الديمقراطية”. فسيادة هذا المبدأ هي المسؤولة عن عقم حياة الحزب الداخلية، وضيقه بالخلاف في الرأي، وتبرمه باستقلال الفرد ونمو شخصيته المستقلة، وتوخيه للطاعة المطلقة في كوادره واعتبارها شرطا أساسيا للترقي الحزبي. وهي المسؤولة عن ظهور الشيخوخة المبكرة في هيئات الحزب القيادية.

    وعلى كثرة ما قيل في هذا المبدأ من مدائح، وما دبج في الدفاع عنه من مقالات وكتب، فإن الحجج التي تسنده لا تخرج عن اثنين:

    ضمان وحدة الحزب والوقوف في وجه أية محاولات تكتلية أو انقسامية، وسحقها في مهدها.

    إقامة نظام طاعة حديدي يزعم أنه يرتفع بفعالية الحزب إلى الدرجة القصوى.

    وإذا افترضنا أن مبدأ “المركزية الديمقراطية” يؤدي بالفعل إلى تحقيق هذين الهدفين، فإنه يحققهما، في رأينا، بثمن فادح يملي علينا الإقلاع عن تبني هذا المبدأ، ونبدأ بتمييز أساسي، ربما لا يوافق عليه البعض، وهو أن هذا المبدأ لينيني وليس ماركسيا، فقد أملاه في رأينا واقع القمع القيصري الفظيع، وواقع الإمبراطورية الروسية المترامية الأطراف، ومستوى الثقافة التنظيمية التي كانت سائدة في تلك السنوات الباكرة من القرن العـشرين. في تلك الظروف كان واجبا على الحزب الثوري، لكي يكون موجودا، ولكي يكون فعالا، أن يقوم على المركزية الصارمة، وربما المطلقة. وأن يستند على حكمة ورجاحة عقل القيادة، بل عبقريتها إذا شئت، في رسم كل سياساته وتحديد كل خطواته. وربما يجد البعض تبريرا كافيا للقول بأن الحزب البلشفي، لو لم يكن قائما على هذه المركزية الصارمة لما نجح في استلام السلطة. وذلك من واقع التأريخ الرسمي للحزب. ولكن الباحث المدقق سيعثر على حقيقة مدهشة، وهي أن الحزب البلشفي لم ينتصر إلا بتكسيره الحـازم لمبدأ المركزية المطلقة. وهذا أمر سنعالجه في موضع آخر.

    المهم أننا لو سلمنا جدلا بأن المركزية المطلقة كان لها ما يبررها في بداية القرن، في بلاد مثل روسيا، فإنها حاليا قد فقدت أي مبرر تأريخي. ويبدو لنا أن الذي فكر في الجمع بين المركزية والديمقراطية قد اتخذ الأول كنقطة انطلاق وأضاف إليها الثانية كمسوغ لقبولها ليس غير. وذلك لسبب بسيط وهو أن الديمقراطية تحتوي على مركزيتها الخاصة. فخضوع الأقلية لرأي الأغلبية مبدأ ديمقراطي معروف، يضمن وحدة المنظمة المعنية، ويجسد إرادتها. يضاف إليه مبدأ التمثيل “Representation” الذي يؤدي نفس المهمة على المستويات الأعلى فالأعلى. وتكمل البناء الديمقراطي، وترتقي بالفعالية الحزبية، مبادئ أخرى صاغها الفكر السياسـي الديمقراطي عبر القرون. مثل التوزيع الأفقي للسلطة الحزبية، التخصـص، الاعتبارات الفئوية والجغرافية، العرقية والقومية، المؤتمرات المنتظمة للصحافة الحزبية… الخ.

    وبما تشيعه الديمقراطية الحزبية من رضـى عام وسط الحزب وهيئاته، فإنها ترفع فعاليته إلى الحد الأقصـى. وهكذا فإن وحدة الحزب وفعاليته يمكن ضمانها باعتماد الديموقراطية وحدها كمبدأ تنظيمي. ولكن هذه الديمقراطية المكتفية بذاتها عندما تلحق كرديف ثانوي لمركب “المركزية الديمقراطية” وتستخدم كمسوغ لقبول المركزية المطلقة، وكطلاء سكري لجرعتها المريرة، فإن نهايتها تكون قد حلت. وبالفعل فإن ممارسة الأحزاب الشيوعية تشهد أن الديمقراطية قد تمت التضحية بها على الدوام، لصالح مخدومتها المبجلة: المركزية المطلقة. فعلى مستوى الحزب، صارت القيادات الحزبية العليا تفرض هيمنتها على كل عضويتها، وتحتفظ لنفسها بسلطات تظل تتسع باستمرار، وتتطور في أثناء ذلك آليات تنظيمية تسحق كل نزعة مستقلة.

    وعلى مستوى الطبقة العاملة، وبفضل نفس المبدأ، تحولت المؤسسات التي أنشأتها لخدمتها إلى مؤسسات سيدة، ومتعالية عليها. وعلى مستوى المجتمع ككل، صارت السياسات البيروقراطية المتنزلة من سماوات السلطة أوامر إلهية لا تقبل الأخذ والرد.

    إن النغمة السائدة حاليا هي إرجاع كل الشرور العظيمة، والجرائم المرعبة التي ارتكبت أثناء عقود التجربة الاشتراكية التي سقطت، إرجاعها إلى الظاهرة الستالينية دون توضيح حقيقة أن الظاهرة الستالينينة نفسها هي الابنة الشرعية للمركزية الديمقراطية. فعن طريق مبدأ الطغيان القيادي، صعد جوزيف ستالين، إلى السكرتارية المركزية للحزب الشيوعي، ولم يكن في مقدور مؤسس الحزب نفسه، فلاديمير ايليتش أن يزيحه من موقعه ذاك رغم محاولاته المستميتة، و “تآمره” مع مجموعة تروتسكي، وتحضيره لقضية شيوعي جورجيا الذين اضطهدهم ستالين، لتفجيرها داخل المؤتمر. لم يفلح في ذلك لأنه كان بفعل المرض قد فقد السلطة الحزبية. وعندما حدث ذلك فإن العبقرية السياسية، والنفوذ المعنوي الهائل، لم تعد تجدي فتيلا. وهذا هو أسطع مثال على أن المركزية “الديمقراطية” هي مبدأ الحماية المطلقة للقيادة في مواجهة قاعدتها بالذات. فعندما تصل القيادة إلى مراكزها السماوية عن طريق آليات المركزية “الديمقراطية”، فغن شيئا أقل من زلزال لن يزيحها من أماكنها. هذا مع الاعتبار الكافي لكون ممثليها كأفراد يمكن أن يزاحوا عن طريق الموت أو العجز الكلي، أو التـآمر!

    وحتى لا نتهم بالتحامل على المركزية “الديمقراطية” دعونا نأخذها في صورتها المثالية، ونفرض أن التنظيم القائم على أساسها قد طبقها تطبيقا كاملا. فهيئاته من القاعدة إلى القمة هيئات منتخبة، ويسود فيها مبدأ خضوع الأقلية لرأي الأغلبية، وتخضع الهيئات الدنيا للعليا، وتعقد مؤتمرات الحزب بصورة منتظمة، وتقرر برامجه ولوائحه في هذه المؤتمرات، وتصدر مجلاته الداخلية تحمل الآراء المختلفة والمتصارعة لأعضائه، وتصدر مجلاته وصحفه الجماهيرية لتحمل تصوراته الموحدة إلى الشعب، هل ينتفي حينها طغيان القيادة واستئثارها بصلاحيات شبه مطلقة؟

    أعتقد أن الإجابة بالنفي. وذلك لسبب محدد هو أن إجراءات انتخاب اللجنة المركزية، وكل الهيئات القيادية التابعة لها هي إجراءات غير ديمقراطية. فاللجنة المركزية السابقة، أو مكتبها السياسي بالأحرى، هي التي تقدم قائمة الترشيحات للجنة المركزية الجديدة. وما دامت هي القائمة الوحيدة فإنها ستفوز في جميع الحالات، وفي ضوء القانون اللائحي بمنع التكتل والاتصالات الجانبية، فإنه يستحيل عمليا تبلور أية مجموعة، بمعزل عن المجموعة القائدة، تستطيع أن تقدم قائمة بديلة، ويبقى من حق الأفراد، إذا احتملوا الهمهمات الساخرة والنظرات القاسية، أن يتقدموا بترشيحات فردية، وحظها من النجاح يكاد يكون صفرا.

    ولكن حتى إذا فازت فإنها لا تؤثر على تركيبة القيادة، ولا يبقى أمام المعارضين للترشيحات الجديدة سوى الامتناع عن التصويت، وهو حق العاجز، الذي لا يقدم ولا يؤخر و بمجرد انتخاب اللجنة المركزية فإن هيئات الحزب القيادية كلها يكون أمرها قد حسم. واللجنة المركزية، والمكتب السياسي، والهيئات المحيطة بهما، هي التي تحدد سياسات الحزب، ومواقفه العملية، وهي التي تحكمه حكما صارما.

    ويتم التركيز دائما على أن إجازة البرنامج السياسي هي الأمر الأهم. وأن العضوية عندما تجيز ذلك البرنامج فإنما ترسم للقيادة اتجاهها، وتحدد لها دورها. وهذا صحيح نظريا. ولكن عمومية البرنامج نفسه، تسمح بسياسات وتفسيرات متعددة، وربما متناقضة. ولذلك لا يمكن الاحتجاج به. وما يقال عن الوحدة حول البرنامج، يقال بصحة أكثر حول الأيديولوجية.

    إن المركزية الديمقراطية تنادي بحق الأقلية في الاحتفاظ برأيها والدعوة إليه من داخل المنابر الحزبية، ولكنها في واقع الأمر تجعل وجود أقلية داخل الحزب أمرا مستحيلا، فتكوين أقلية حزبية يقع مباشرة تحت طائلة المبدأ اللائحي القائل بتحريم التكتل والاتصالات الجانبية، ولا توجد الأقلية بالتالي إلا كأفراد منعزلين، لا يلتقون إلا كمتآمرين. وذلك هو السر في أن الأقليات لا تتكون داخل الحزب الشيوعي إلا عشية الانقسام، وتشهد على ذلك ظاهرة المناشفة والبلاشفة في روسيا، والمجموعات التي ظلت تنسلخ على الدوام من الأحزاب الشيوعية على طول الدنيا وعرضها. إن الحديث عن إمكانية وجود أقلية داخل إطار المركزية “الديمقراطية” ليست سوى واحدة من إستهبالات الفكر السياسي والتنظيمي الأكثر مرارة والأكثر إثارة للهزء. وإذا كانت الأقلية لا توجد داخل الحزب، فإن الرأي الآخر لا يوجد بالتالي، بالنسبة للمجتمع، حيث يفترض أن يعبر عضو الحزب عن رأي الحزب بصرف النظر عن وجهة نظره الشخصية.

    وعندما تستند القيادة إلى مبدأ خضوع الهيئات الدنيا للهيئات العليا فإنها ستتمكن من فرض رأيها على مجموع الحزب حتى إذا كانت كل الهيئات الدنيا تعارض هذا الرأي. وإذا كان هذا المبدأ هاما لفعالية أي تنظيم سياسي فإن الضمانات الكفيلة بعدم طغيان القيادة لم توضح مطلقا.

    ها نحن قد افترضنا هنا حالة مثالية لتطبيق المركزية “الديمقراطية” وأوضحنا أنها مركزية وحسب، وليست ديمقراطية على الإطلاق. ولكن الواقع غالبا ما يكون بعيدا جدا عن المثال. فمؤتمرات الحزب لا تعقد بنفس الانتظام الذي تنص عليه اللائحة. فالحزب الشيوعي السوفيتي لم يعقد مؤتمرا خلال ثلاثة عشرة سنة، مـن 1939 إلى 1952. وقد كان هذا الحزب ? وقتها ? في السلطة، وكان يحكم شعبا خاض لست سنوات حربا عالمية. والحزب الشيوعي السوداني لم يعقد مؤتمرا طوال ربع قرن. إن هذا يوضح أن المركزية يمكن أن تستغني عن خدمات الديمقراطية، في أي وقت، ودون أن تخشى الحساب. وحتى عندما تعقد المؤتمرات فإنها غالبا ما تتحول إلى ساحة لتمجيد القيادة، وإظهار الإجماع أمام المجتمع والعالم، وليس منابرا لحوار المثمر البناء واختـلاف الآراء. إن مؤتمر الحزب الشيوعي الروماني قد انتخـب نيكولاي شاوشيسكو أمينا عاما للحزب بالإجماع، وذلك قبل أيام فقط من محاكمته وإعدامه!!

    وغالبا ما لا تخضع الوثائق التي يخرج بها المؤتمر لحوار جدي قبل المؤتمر أو أثناء انعقاده. فوثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية على سبيل المثال، تمت قراءتها على الأعـضاء أثنـاء المؤتـمر الرابع، وهي كتاب. وتمت تعبئة الحزب حولها بعد انفضاض المؤتمر واستمرت التعبئة لأكثر من عام.

    نخلص إلى أن الحـزب القـائم على المركزيـة “الديمقراطية” كما أثبتت تجارب الأحـزاب الشيوعية دون استثناء، هو حـزب غير ديمقراطي. وإذا كانت ثمة ديمقراطية داخله، فهي من نصيب القيادة وحدها، في حين تتجه المركزية إلى إخضاع القاعدة وتأديب المارقين.

    إن المبادرة في مثل هذا الحزب تأتي دوما من القيادة وحدها. ويصبح التلقي والتنفيذ هو القدر الذي لا مفـر منه بالنسبة للقاعدة. فالمركزية المطلقة هي الأداة الفعالـة لخلق قاعدة حزبيـة سـلبية، عديمة الإرادة، مغتربة داخل حزبها الذي جاء ليجتث الاغتراب مـن كل المجتمع، وممزقة لا تدري ما تفعل. ولا نعدو الحق إذا قلنا أن العلاقة بين القيادة والقاعدة مأزومة دائما ومريضة. فالقيادة تنزل رؤيتها دائما في شكل توجيهات، وتتوقع من القاعدة أن ترفع لها الشواهد والبراهين التي تؤكد لها صحة تلك التوجيهات وتقمع وتحجب ما عداها. وإن القاعدة تنتظر رأي “الحزب” في كل صغيرة وكبيرة، معتقدة أن الحزب هو هيئاته القيادية، وبين هذه وتلك، يوجد الجهاز الحزبي المتخصص في تنزيل التوجيهات ورفع التأكيدات.

    وبالتدريج، وبفعل هذه الآلية، وبفعل الدوافع والنوازع الإنسانية، البالغة التعقيد، وبفعل تأثيرات السلطة الحزبية، أو السلطة السياسية إذا وجدت، يتحول رأي الحزب وتوجيهاته إلى أوامر أوتوقراطية غير قابلة للمراجعة. وتتحول تأكيدات القاعدة إلى مديح وثناء وعبادة. فعبادة الفرد ليست سوى عبادة القيادة. وليست سوى الثمرة السامة للمركزية “الديمقراطية” وإذا كانت تخلق، على مستوى القيادة، طغاة، قساة القلوب، مثل ستالين وشاوشيسكو، أو تسمح لهم بالصعود، فإنها على مستوى القاعدة تخلق جيشا كاملا من المداحين، والكذابين، وماسحي الجوخ المزيفين والمزيفين والمزيفين. هؤلاء هم الذين سيحتلون تدريجيا أهم الوظائف الحزبية، ويفرضون سيطرتهم الكاملة على جهاز الحزب، ويسخرونه في عمليات القمع القاسية، وعمليات الافتراء الخبيثة والتي يوجهونها ضد أشرف وأنظف العناصر الحزبية، هذه العناصر التي تستفزهم استفزازا لا يحتمل بمحض نبلها واستقامتها وصدقها، واستماتتها في الدفاع عن القضية النبيلة التي أنشئ الحزب أساسا من أجلها. وهنا يصبح الحزب مريضا مرضا لا شفاء منه، مغتربا عن ذاته، وعن رسالته، وعن مجتمعه. وبدلا من أن يكون منقذا للمجتمع يتحول إلى خطر ماحق يتهدده. إنه يغرق بالكامل في مرحلة انحطاطه ولن يشفى إلا باستئصال تام لأورامه الخبيثة.

    ويمكن للحزب أن يقاوم هذه الاتجاهات التي أشرنا غليها، من التعبير عن نفسها بالكامل، ما دام في صفوف المعارضة. ولكنه لايستطيع مقاومتها مطلقا إذا استولى على السلطة. وتجربة الأحزاب الشيوعية في ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي خير شاهد على ذلك. فالظاهرة الستالينية هي القاعدة وليس الاستثناء في جميع هذه التجارب. وبانتقال الحزب إلى السلطة ينتقل مبدأ المركزية “الديمقراطية” ليشمل المجتمع ككل. وتنتقل ظواهرها السالبة من حيزها الحزبي المحدود إلى الحيز الوطني العام. كما أنها تصبح أكثر تفاقما وعمقا وعقما أيضا.

    إن منع تكوين الديمقراطية، ومسايسة الرأي الآخر، ومصادرة الديمقراطية، وإنشاء بنية سيكولوجية متينة لدي عضو الحزب، تخشى الاختلاف، والاستقلال والتميز خشيتها للمرض، هي ظواهر كفيلة بإحباط وسحق تطور أي حزب أو منظمة. ولا غرو، فذلك يمثل الإلغاء العملي لفعالية قانون التناقض الماركسي والذي هو القوة الدافعة لكل تطور. فهذا القانون القائم على وحدة وصراع الأضداد قد أبطل فعله داخل الحزب بالتركيز الوحيد الجانب ? المرضي أحيانا- على الوحدة، وعلى حساب الصراع. وأنه لمن المفارقات الأليمة في تأريخ الفكر السياسي والتنظيمي أن يبادر الداعون إلى نظرية ما، والمؤمنون بصحتها وصوابها، إلى إلغاء جوهرها حينما يشرعون في تطبيقها. خاصة وأن تلك النظرية تصر على وحدة الفكر والتطبيق، وتعتقد أن حقيقتها لا تتكشف إلا في وحدتهما. وللأسف الشديد فإن هذا هو بالضبط ما حدث، بل أن أكثر ما يثير القيادات الحزبية ويفجر غضبها هو القدح في مبدأ المركزية الديمقراطية الذي أدى إلى كل هذه النتائج السالبة. ولا يحدث هذا إلا لأن هذا المبدأ يتعلق بالسلطة الحزبية وبحماية المواقع القيادية.

    ويمكن للبعض أن يقول أن تجربة الحزب الشيوعي السوداني تثبت أن المركزية الديمقراطية لا تؤدي بالضرورة إلى الظواهر التي أشرنا إليها. ولكننا لا نرى أي أساس لهذا القول، ولهذا الاستثناء. وفي حقيقة الأمر فإن الأدب الحزبي يفيض بالحديث عن المركزية “الديمقراطية” وقد تحولت إلى مركزية بيروقراطية، وأفسدت حياة الحزب الداخلية، وأعاقت نموه وتطوره. فقد جاء في وثيقة إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير ما يلي:

    ” إن بعض الرفاق يدوسون على هذا المبدأ؛ أي المركزية الديمقراطية، الذي لن يستقيم الحزب الشيوعي بدون تطبيقه. إنهم يضعون السلطة التنظيمية محل الصراع الفكري والإقناع، أنهم لا يحترمون رأي الأقلية، إنهم لا يناقشون سياسة الحزب، بقدر ما يصدرون الأوامر العسكرية. ساعد على نمو هذا الاتجاه انعدام الديمقراطية في بلادنا وظروف الضغط والاضطهاد التي يعيشها الحزب”

    وتتحدث وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية عن أن العجز في استقبال الطلائع وتحويل الحزب الشيوعي إلى قوة جماهيرية بعد ثورة أكتوبر 1964 ، لا ترجع أسبابه إلى عجز في النشاط الجماهيري، لآن الحزب قد جذب الآلاف من خيرة ممثلي الشعب نحوه، ولكن العجز يرجع إلى “عقم الحياة الداخلية، وإلى الخلل الناتج عن ضعف مبادئ المركزية الديمقراطية”

    وتتحدث وثائق الحزب الأساسية عن ظواهر الوصاية المفروضة على فرع الحزب، وعدم إشراك العضوية إشراكا نشطا في حياة الحزب الداخلية، وعن روح الحلقية الضيقة، وسيادة البيروقراطية والانغلاق الذي يصعب كسره لاستقبال الجديد، وما يصاحب ذلك من انصراف العضوية الجديدة عن الحزب وانكماشه وتقلصه في الوقت الذي تتوفر فيه كل الشروط الموضوعية لنموه. وتنعى وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية ضعف الديمقراطية في الحزب بالكلمات التالية:

    “إن هذا الأساس لتنمية الديمقراطية في حزبنا ضعيف، ومهزوز جدا. فما زال فرع الحزب الشيوعي يتلقى التوجيهات المفصلة، ويجري تدخل في حياته بحجة أن الفروع لا تستطيع العمل وحدها”.

    هذه نصوص واضحة جدا في دلالتها على أن الممارسة الديمقراطية معدومة على مستوى قاعدة الحزب، وقد أوضحنا أنها معدومة ? خاصة- على مستوى قيادته. ولا يمكن تجاهل الأسباب المعقدة التي تجعل تطبيق الديمقراطية في مجتمع مثل مجتمعنا أمرا صعبا جدا. ولا شك أن الفكر الديمقراطي مطالب بترسيخ أسسه في كل المؤسسات الاج

  17. الاستاذ صديق قد اصاب كبد الحقيقة وكل هذه المقالات والمقارنات كان الهدف الاساسي التقليل من شأن الاستاذ الخاتم عدلان او ان اوضح ان المفكر الراحل الاستاذ المستنير الخاتم عدلان قد اسس حركة حق هو و نفر كريم من الشيوعيين السابقين وغير الشيوعيين وهاهى الان حركة حق واقع موجود فى السياسة السودانية ولا احد يستطيع ان يقول ان الكم الهائل من عضويتها هم عبارة عن شيوعيين منشقين نحن الان فى هذا الظرف التاريخى نسخر من امرين الامر الاول المشروع الحضارى واعادة صياغة الانسان السوداني والامر الثاني هو نضال الحزب الشيوعي السوداني من اجل انجاز مرحلة الثورة الوطنية و الديمقراطية

  18. هذه الوساخة من فعل نقد والتجاني الطيب ،،، افهمو هولاء العجايز ورثو الوساخة من بعضهم البعض يعتقدو اننا لا زلنا في ذمن التيه تقدم يا شفيع فانت ليس الخاتم عدلان ليس للمكان متسع للقول فقط تقدم

  19. السر بابو يمثل
    سدنة الهيكل الستاليني في الحزب الشيوعي
    في ظروف حزبية عادية كان امثال السر بابو
    يتلقون الاوامر كالمراسلات لكنه في زمن انهيار
    الحزب الشيوعي الفكري الحالي اصبح مفكرا محوريا
    للحزب… زي ربيع عبد العاطي الخبير الوطني لحزب البشير

    قرأت العديد من مقالات السر بابو
    لكنني توقفت بعد أن توصلت انه ليس بها
    اي عمق فكري أو محمول ثقافي

    لقد شحذ الستالينيون سكاكينهم و ذبحوا
    بها الدكتور الشفيع خضر آخر أمل للحزب
    الشيوعي بأن يصير حزب انساني عادي

    فعلا هذا الحزب لن ينصلح حاله أبدا
    فكل ما يتعلق باتخاذ قرار فيه
    تتخذه الكوادر السرية في غرف مغلقة
    و للاسف لن يصبح الحزب الشيوعي حزبا
    جماهيريا مطلقا

    شكرا عزيزي الحزب الشيوعي
    فقد صحيتنا من غفوتنا و احلامنا

  20. مساهمة صديق عبد الهادي
    نواصل تفنيد دعاوي الصديق صديق عبد الهادي الذي أشار بعدم الدقة والكتابة من الذاكرة ، بعد الإشارة إلي انني استندت علي طبعة الداخل من عدد الشيوعي (157) بعنوان ” لقد حانت لحظة التغيير”. فلماذا التسرع في الحكم؟ ، وتبعته التعليقات الممجوجة عير اللائقة في الصراع الفكري مثل: الستاليتية وسدنة الهيكل …الخ التي كررها كل المعادين للحزب الشيوعي منذ تأسيسه وبقي الحزب وذهبت ريحهم..
    بداية صديق لم تكن موفقة وركيكة حتي في اللغة إذا اردنا الدقة والعناية باللغة والتي مهمة للكتاب الجادين، فمثلا جاء في المساهمة أخطاء لغوية علي سبيل المثال لا الحصر:
    ” خمسة صفحات” والصواب ” خمس صفحات” ،
    وجاء أيضا ” اربعة نقاط ” ، والصواب ” أربع نقاط”….الخ.
    هذه ملاحظات شكلية ، اما الموضوع الأساسي ، فإن وثيقة عوض عبد الرازق عارضت تكوين حزب شيوعي ، تحت شعار دراسة الماركسية..الخ، وبعد إنقسام مجموعة عوض عبد الرازق لم يتم الاهتمام بالماركسية وترجمتها كما زعم، وذابت حركتة التي كونها في زوايا النسيان. وما الفرق بين معارضة الحزب الشيوعي قبل تكوينه او بعد تكوينه؟!! فالجوهر واحد ، وعلما بأن الحركة السودانية منذ تأسيسها تبنت الماركسية كمنهج لدراسة واقع وخصائص شعبنا وفهمه والعمل علي تغييره، أي أن عوض عبد الرازق عارض تغيير الإسم للحزب الشيوعي. .
    كل مهتم بتاريخ الإنقسامات في الحزب الشيوعي يري ان الخيط الناظم واحد: هو حل الحزب الشيوعي ” عوض عبد الرازق ، معاوية ابراهيم ، الخاتم عدلان..الخ”، وتذويب الحزب في كيان آخر.. بهذا المعني الخاتم لم يضف جديدا .
    الخاتم أشار إلي زوال الطبقة العاملة وبالتالي لاداعي للماركسية تحت دعاوي المجتمع مابعد الصناعي استنادا إلي مااورده الفن توفلر وهي ليست أفكار جديدة، طرحها منذ الستنيات في مؤلفاته ” وعود المستقبل ” ، ” وصدمة المستقبل”، وتم الرد عليها بحدوث متغيرات في الطبقة العاملة ، ولكن مازال الاستغلال العضلي والذهني قائما، ولم يشر في الوثيقة للمصدر
    عوض عبد الرازق اشار الي أنه لاتوجد طيقة عاملة ولا داعي لتكوين حزب شيوعي ، الجوهر واحد.
    خلاصة القول لم يوفق الكاتب الذي دعي الي الموضوعية ، وجاءت مقدمة المقال ضعيفة وركيكة في الشكل والمحتوي.

  21. فيما اعتقد الفارق بين عوض عبد الرازق والخاتم هو:
    الأول يرى ان الطبقة العاملة لم توجد لم تتكون بعد. ويبدو انه على قناعة انها اتية .
    والخاتم على العكس رءاها وجدت لكن فاعليتها تضمحل في تراتبية العمل.
    ولان التقدم التقني وظهور الروبوت هو ما يهدد وضع العامل فنيا وبالتالي اجتماعيا وسياسيا. فالسؤال يتجدد. ولا خوف من الحقائق, وفى عجالة مما التقطت واضح ان قضية العدالة الاجتماعية تمضي لصراع بالغ العنف بما لا يوصف ولا يقارن مع صراع الطبقة العاملة, انظر مثلا.
    https://www.technologyreview.com/s/531726/technology-and-inequality/
    المهمة اكثر واخطر جسامة.

  22. ياصديقي صديق من المؤسف أن تكرر الخطأ والاتهام بعدم العناية وتقول أنني لم أشر لطبعة الخارج بعنوان ” آن آوان التغيير” وقد ذكرت ذلك في التعليقات، راجع التعليق علي العنقالي الذي جاء فيه :
    وثيقة الخاتم صدرت منها طبعتان : طبعة الداخل التي صدرت في عدد الشيوعي 157 كانت بعنوان ” لقد حانت لحظة التغيير ” ، أما طبعة الخارج فقد كانت بعنوان ” آن أوان التغيير”، هذا مالزم توضيحه .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..