جداريات رمضانية (2)

عماد البليك : تشير عقارب الساعة إلى ما بعد المغرب بقليل، ولكن سوف تمكث ربما إلى ما بعد العشاء، إلى ما يقارب الثامنة مساء، حيث الكل يترقب ما بين مشاة في الشوارع أو الأزقة أو في ساحات السوق الضيقة أو قريبا من المزارع والجنائن بجوار النهر. بعد قليل سوف يحسم الأمر فإما صيام أو سوف نستمر غدا في الأكل والشرب والكلام المباح، يقول مؤذن المسجد الكبير وهو يتجه بهوادة إلى سلم صغير يأخذك في المأذنة التي ترتفع إلى عنان السماء. مرة كان لي أن أصعد هذا السلم اللولبي لأتمكن من رؤية المنطقة كلها بشكل لم يسبق لي ان اكتشفته من قبل فمن علٍ تبدو الأشياء مختلفة تماما، يكون للحياة أن تجمع المتفرقات وتفرق المتجمعات، وتبدو ساحة المولد بهية الطلة لكنها خالية من الخيام وأصحاب الثياب الخضر من أهل الله، إذ ليس الموسم إلا رمضان، غدا سيكون الصيام.
ينطلق راديو أمدرمان، الإذاعة السودانية المحبوبة في زمانها، وقت كان لها طراوة ومذاق حسن وهي تشكل جزءا من المزاج السوداني، وحيث لا يخلو ركن في دكانة أو نافذة عالية من بيت إلا ويجلس الراديو.. المذياع يقدم برامجه وأغانيه ويبهج حياة النساء بوجه خاص وهن يشتغلن في البيوت على العمل الروتيني اليومي دون كلل أو ملل. لم يكن الزمان قد دخل بعد مأزق السأم، كانت البطاطس تتطلب التقشير والبامية أيضا تتنظر من يختار أفضلها ويقطعها من الطرفين ويرمي بها في الصحن الأكبر المصنوع من الطست، والملوخية تنتظر الهرس. والإذاعة هي الصديق وقت الضيق، يمضي معها الوقت ما بين فتوى للشيخ وصوت صديق أحمد حمدون علم زمانه في تلاوة القران بنبرة سودانية أصيلة، وصباحات تتجدد بظل الضحى والانتظار لحياة كان فيها الاشتياق للمسافرين عن الديار والحنين لابن سافر إلى الخرطوم وسيعود في العيد، فالجامعة تأخذ الأولاد والبنات وتغير طباعهم.
إعلان ثبوت الرؤية، يعني أن الشوارع لاسيما المنطقة المحيطة بالسوق سوف تشهد مزيدا من الضجيج والحركة، عربات الكارو تزاحم في الليل سيارت البوكسي وتكون الحمير والأحصنة وهي قليلة لأنها أغلى ثمنا ومكلفة في أكلها، قد بدأت في النشاط وكأنها علمت بالخبر مع أهل البلدة وفرحت بتصفيد الشياطين التي تزاحمها في الشوارع. وإذا لم تكن الكهرباء قد قطعت فالسوق ينير كله بحبور ومحبة كأن الضياء يصنع الفرحة مع أهلها. لكن مرات يكون الظلام هو سيد الموقف، إلا قلة تستعين بمولد كهربائي صغير لا يكفي لسوى دكانتين أو ثلاث أو أحيانا تستخدم الرتينة التي يتم تعبئتها بالهواء وهي تشع بنورها القوي الذي يكاد يضاهي كهرباء الحكومة، قوة وجسارة بل يفوقها في بعض الأحيان، لأن كهرباء الحكومة أغلب الوقت لا تصلح لتشغيل الثلاجات لضعفها.
وفي هذه اللحظات العابرة من زمن لم يكن له أن يستقر تماما في الذاكرة لأن الإنسان لا يدري ما المهم وما الأهم. سوف يعود كل من نسي غرضا ما لكي يحضره في باقي الليل، لكن الغالب وقبل مشوار السوق، أن الجميع وأعني الرجال بشكل خاص سوف يتوجهون إلى المساجد والزوايا، وهي المساجد الأصغر التي لا تصلى بها صلاة الجمعة، حيث تصلى التراويح الأولى في ليل ثبوت الرؤية، وتتنوع اختيارات الناس هنا ما بين من يصلي بتهدئة ويطيل في الصلاة ومن يصلي سريعا جدا كإمام مسجد السوق الذي يُعرف بمسجد الأنصار، فقد كان رحمه الله يسرع في الركعات وفلسفته أن الناس لها مشاغل والحياة عبادة كما العمل إن أجاد الإنسان كيف يتعامل معها ويتخير منها الحسن والطيب.
يكون مسجد السوق قد امتلأ حيث لا مكان لتقف عليه في الفناء الداخلي وهذا يعني أن البعض يجر من المخزن المسكون بالعقارب وبحذر شديد، مجموعة من البروش المنسوجة من سعف الدوم والنخيل ليفرشها على التراب ويصلي في الساحة الخارجية وهو يتحسس بقايا الظلام لأن الكهرباء “الملعونة”.. كهرباء الحكومة قد تقطع فجأة وهي لا تحترم صلاة ولا شهرا مباركا.
في ذلك الزمن لم يكن “الوضوء التجاري” قد تم اختراعه بعد، حيث تدفع لدخول المرحاض والماء.. كانت صالة الوضوء الصغيرة تمتلئ بالرجال الذين يتزاحمون والحمد لله أن الماء موجود ولم يصبه أذى، وهذه نعمة كما يقول أحد الرجال وهو يوصي الصبية الصغار بأن يحسنوا غسل اليدين ومسح الرأس ويوصيهم بالفور والدلك، لأن الصلاة المقبولة تبدأ بتجويد الوضوء، لكن الصبية لا يحفلون فأغلبهم وربما كنت أنا واحد منهم يتخذون من تلك الدقائق مرتعا للتلهي واللعب، وبعضهم في انتظار ذلك الرجل الذي يسمونه الخضر الذي سوف يحضر في مثل هذه التوقيت من كل سنة، من منزل ليس محددا في البلدة، يأتي بعكازته بعد قليل ليهش الصبية كالبهائم خارج المسجد لكنهم لن يستكينوا له ويبدؤون في التسابق في الحوش إلى أن يستقر كل منهم منحشرا في أحد الصفوف بين الكبار، وهو يكتم ضحكته التي سوف تخرج أحيانا لينال لقب “قليل أدب” بعد الانتهاء من أحد ركعتي التراويح، وربما نال وعيدا بالضرب من والده إن كان في ذلك الصف أو أحد أقاربه فالكل هنا يتطوع للتربية وإصدار الأحكام والتوبيخ. يبدأ أحدهم ثم ترتفع النبرات تتكرر في الهواء كأنها صدى واحد معاد، يا ولد، يا ولد، يا ولد، الأصوات تأخذها العتمة وتمضي بها إلى المجهول..
أما الخضر فليس في باله سوى أن ينال في باقي هذا الليل قدرا معتبرا من العملات الورقية، فإياك أن تقدم له عملة نحاسية أو “حديد فكة” كما يقال. لأنه سوف يرمي به في وجهك هذا في أحسن أحواله وربما ضحك كثيرا بلا سبب مفهوم بالنسبة للكل، وأعاد العملة إليك موصيا إياك بأن تتصدق بها على المحتاجين، أما هو فيأخذ مال الله وليس محتاجا، وبعد وجيز من الوقت والجميع يغادر من البوابة الجنوبية للمسجد تكون جيوب الخضر المتعددة في ثوبه القصير الأصفر اللون والمائل للزرقة من الوسخ المتراكم عليه، والذي ربما لم يغسل من سنوات طويلة. تكون هذه الجيوب الكثيرة في الجانبين وبمحاذاة الصدر وفي الوراء.. قد فاضت بالعملة الورقية، وهنا يكون الطرب قد بلغ بالرجل مبلغه وهو يبدأ في مدح النبي عليه الصلاة والسلام، مذكرا بعظمة الشهر الكريم، وهو يصرخ بصوت مرتفع ملوحا بعكازته في سماء غبشاء.. وحّدوه.. وحّدوا الدائم.. يلا يا عباد الله.. ويرتفع رثم التوحيد متموسقا مع ظلال الناس التي تغادر سريعة باتجاه موقف المواصلات المحلية، حيث أصحاب البكاسي (البرينسات) ينتظرون زبائنهم المحملين بالأغراض المنسية انطلاقا إلى القرى المحاذية للنهر، في تلك الليلة وبعيدا عن أي احترام لقدر الشهر الفضيل، فسوف ترتفع أسعار تذكرة الحافلة أو البوكسي، وسوف تحدث مشاجرات بين الكماسرة والمسافرين وسوف تتدفق الشطة والسكر ما بين المقاعد من الأكياس سيئة الصنع. أما سيدنا الخضر الجميل فسوف ينطلق في ساحة السوق ينطط عاليا في الفراغ وهو يستمر في المديح بصوته الرخيم وعينيه الساحرتين تستغويان بعض من النساء اللاتي يأتين شبه مغطيات للوجه في دكاكين بأطراف السوق ولأغراض لم نكن نحن في تلك السن على علم بهويتها بعد.

صحيفة اول النهار
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..