في سوق صابرين: مأساة امرأة أبنوسية

أبوعاقله أماسا
لفتت نظري بقوامها الفارع وهي تتنقل بين زحام السوق لا ترتدي سوى جلباب رخيص، ولا تكاد تعبأ بآلاف البشر في غدوهم ورواحهم من وإلى أماكن عملهم، فالكل مشغول بنفسه وبهمومه في تلك الأصقاع من شمال العاصمة، امرأة تبدو وكأن فارس من عالم الجن قد انتزعها من مكان ما ودفع بها إلى سوق صابرين بشارع الشنقيطي لتتخذ منه سكنا موحشا بين عدة أكشاك بجوار موقف سوق ليبيا.. كنت أرمقها بعين الفضول كلما مررت بالمكان، وأحيانا أجدها تغسل ملابسها بأريحية وبدون أي تكلف أو انزعاج من حركة المارة.. ولا تتردد في ارتداء ما تغسله أمام أعينهم بشكل طبيعي وكأنها في غرفة مغلقة كاملة الإظلام، كنت أطرح على نفسي ثم على من حولي سيلا من الأسئلة دون أن أجد إجابات تشفي غليلي وتشبع فضولي.. هذه المرأة العملاقة… أبنوسية الشكل والقوام، تبدو جنوبية واضحة من تقاسيم الوجه.. ما الذي جاء بها إلى هذا المكان؟… وماهي ظروفها الصحية؟… وأين أهلها ومسقط رأسها؟.. فأي إنسان عاقل يرفض فكرة أنها مجنونة انتزع عقلها منها في مكان ما، فانطلقت تهيم في أرض الله بلا عقل تميز به حتى استقر بها المقام في هذا المكان… وكانت كل السيناريوهات تدور في رأسي، ربما من وحي مئات القصص البوليسية التي قرأتها بنهم في صباي الغض… ومستصحبا معي كثيرا من ألغاز الحاضر ومآسيه.. وفي كل مرة تمر عشرات الأسئلة في مخيلتي دون إجابات شافية حتى جلست مرة إلى صديقي وهو صاحب مطعم داخل السوق وأمطرته بسيل من الأسئلة دون أن يأخذ فرصة لتحضير الإجابات.. من هذه المرأة؟.. من أين أتت؟.. وماذا تفعل هنا؟… وكيف تعيش وسط السوق؟.. وهل هي مجنونة؟
صديقي صاحب المطعم كان ممن يوفرون لها وجباتها.. بحكم تواجده قريبا من المكان عرف جزءا من قصتها وحكى لنا: أنها سودانية من أبيي.. كانت تعمل (معلمة) في مسقط رأسها وتمارس حياتها بشكل طبيعي جدا، امرأة في عنفوان أنوثتها.. وشخصية قوية يهابها الناس ويعملون لها ألف حساب، واستمرت حياتها إلى أن وقعت في المحظور.. عشقت رجلا أشعل العشم في نفسها أن يكون فارس أحلامها.. فطافت معه كل براحات الخيال والأحلام لدرجة أنها غادرت واقعها المعاش وصنعت لنفسها حياة افتراضية من وحي الهيام.. وفجأة.. اختفى الفارس بعد رحلة إلى العاصمة.. وهو يعمل سائقا لشاحنات ثقيلة.. وعندما طال الغياب وأعياها الانتظار.. قررت أن تقتفي أثره إلى الخرطوم تبحث عن عالم امتلكته وعاشت فيه ردحا قبل أن يفلت منها.. وأخذت تبحث عنه وتبحث حتى استقر بها المقام إلى سوق صابرين.. فجلست في مكان ما ترقب فارسها على أمل أن يأتي على ظهر جواد أبيض.. ويأخذها إلى جزيرة نائية تسبح في الخضرة.. فتعيش معه زوجا وزوجة وينجبا من الذرية البنين والبنات.. ثم يعيشوا في ثبات ونبات..
لم يأت الفارس.. ومضت الأيام.. وتتوالى الكوابيس.. وجسدها الأبنوسي الذي كان مثل زهرة برية ناضرة بدأ يذبل.. والمرأة التي كانت كالأسد في غاباته في هيبتها أصبحت قواها تخور يوما بعد يوم… وقد أصبحت هدفا مشروعا لبعض المشردين.. فانهارت تماما…!
بالأمس.. كنت عائدا من يوم كان فيه من اللهاث المضني ما يجعلني أسير نحو منزلي في الصحفيين بعين واحدة فقط من فرط الإرهاق.. وعندما مررت بالمكان ذاته.. رأيتها تزحف على الأرض بحركة بطيئة للغاية.. ولايكاد يبين منها شيء من ملامح الماضي… هي نفسها تلك (المعلمة) المهابة.. ذات الشخصية القوية صارت تحبو لساعتين لكي تقطع عشرة أمتار نحو فراش مهترئ بين أكشاك تفوح منها روائح الموت.. وشيء ما يحوم حولها لينبئ الناظرين إليها وتستشعر فيهم شيئا من إنسانياتهم… ويبدو أنها قد بلغت من الملل مرحلة بات فيها أقصى أحلامها أن تحصل على فرصة موت (كريم)… على فراش نظيف.. وأن تحظى بمراسم جنائزية تحفظ لها كرامتها كإنسانة..
منظرها يستدعي ماضيها غير البعيد وهي تحمل (الطبشور) وتدرس أجيالا قد يكون من بينهم الآن الوزير والسفير والصحافي والمدير.. هي نفسها لاتكاد تستطيع أن تنطق كلمة بعد كل ذلك الصوت الجهور الذي كانت ترعد به سوق صابرين.. واللسان الطلق الذي كان سلاحها يوما ما… تلك أيام قد طويت وشارفت حياتها على مصير يحلم كل من حولها ألا يكون مأساويا.. وأن تنتبه المنظمات الإنسانية والسلطات المحلية إليها لنقلها إلى دار المسنين على الأقل… وهذا نداء نرفعه هنا لمن يسمع ويريد أجرا في كبد رطب…. والله من وراء القصد
اليوم التالي
انا لله وانا اليه راجعون ، ولا حول ولا قوة الا بالله ، ربنا ياخذ بيدها
انا لله وانا اليه راجعون ، ولا حول ولا قوة الا بالله ، ربنا ياخذ بيدها