مخيم كاليه الفرنسي? الغابة

محمد كريشان

هذا المخيم أطلق عليه الفرنسيون إسم «الغابة» دون أن يصلوا إلى حد وصف من يقيم فيه من اللاجئين منذ أشهر بما يطلق بداهة على كل من يتخذ من الغابة موطنا!!. هذا المخيم يقطنه زهاء 7 آلاف لاجئ (آخر إحصاء رسمي يشير إلى 6500 ولكن البعض لا يستبعد أن يقارب العدد الحقيقي التسعة آلاف) ويقع في مدينة كاليه شمال فرنسا في مقابل الساحل الجنوبي الشرقي لبريطانيا. وبحكم وجود أهم ميناء فرنسي لنقل الركاب والنفق الذي يشق المانش، جمعت المدينة كل الحالمين بالتسلل منها إلى بريطانيا للاستقرار فيها.
شرعت السلطات الفرنسية في اليومين الماضيين في إفراغ هذا المخيم المشكّــل، من بيوت الصفيح، من ساكنيه القادمين من أصقاع مختلفة لنقلهم، وفق تصنيفات مختلفة، إلى أكثر من 280 مركز إيواء وتوجيه داخل التراب الفرنسي تمهيدا لمسح هذا المخيم من الوجود مرة واحدة.
على هؤلاء أن يختاروا بين تقديم طلب لجوء إلى فرنسا للنظر فيه بين قبول ورفض، وبين مساعدتهم على العودة إلى بلدانهم (الأفغان والعراقيون أكثر المهتمين إلى حد الآن بهذا الخيار)، فيما سينظر في طلبات قلة ممن يمكن لهم الالتحاق بعائلات لهم في بريطانيا وهؤلاء لا يتعدى عددهم حاليا 1200 من القصّر في الغالب.
«لا أدري بعد ما إذا كان الذي يحدث الآن فرصة.. ربما نعم وربما لا، لكن علي أن أجرب حظي» هكذا قال شاب إثيوبي في السادسة عشرة من عمره، معبرا عما أتاحته هذه المبادرة الفرنسية من أفق هو أفضل بكثير من البقاء في مدينة صفيح بوضع غير شرعي أملا في تسلل إلى بريطانيا صار أصعب من ذي قبل مع تشديد الرقابة بشكل كبير.
في اليومين الأولين من عملية الإخلاء بدأ السودانيون والإثيوبيون من أكثر اللاجئين حماسة للتجاوب مع السلطات الفرنسية والذهاب في حافلات لمركز من مراكز الإيواء المنتشرة على طول البلاد الفرنسية. ومع ذلك فهناك من بدا متشككا وعازما على البقاء، وهؤلاء تبدو السلطات عاقدة العزم على التعامل معهم بالقوة لكنها لا تريد أن تسارع بذلك على أمل أن تحرك موجة المغادرة، مع المنح المالية البسيطة التي ستعطى لكل لاجئ، مزاجا عاما يغلب كفة التجاوب مع الخطة الفرنسية لا مواجهتها. أحد الشباب القادمين من السودان لخصها كالتالي: «أنا هنا منذ 16 شهرا، لقد استــُـــنزفت.
لا أخاف، أريد أن أغير حياتي.. لذا أنا مستعد للبقاء في فرنسا، في أي مكان». في النهاية ليس سيئا أن تظل في أوروبا إذا تعذر الذهاب إلى بريطانيا كما كان مخططا.
ربما تحتاج هذه الرغبة الجامحة لدى كل اللاجئين في الذهاب إلى بريطانيا تحديدا بعض التوقف للتحليل لمعرفة «سر» هذا الإصرار على هذا البلد بالذات طالما أن هناك خيارا آخر وهو البقاء في فرنسا أو حتى «الاندساس» لاحقا في أي بلد أوروبي آخر. لكن ذلك لا يمنع من محاولة النظر إلى المبادرة الفرنسية الأخيرة على أنها قد تكون بداية مقاربة إنسانية مختلفة لقضية المهاجرين غير الشرعيين تحاول أن تجد حلولا ما عوض الصد والملاحقة والترحيل.
ما يدعو مبدئيا للاطمئنان لما يجري حاليا في كاليه هو هذا الوجود المكثف لوسائل الإعلام المختلفة من فرنسية ودولية (قرابة 700 صحافي) تراقب كل كبيرة وصغيرة، الأمر الذي لم يكن متاحا من قبل وسمح فيما مضى ببعض التجاوزات في حق هذه الآلاف من المهاجرين. سلاسة انطلاق العملية لا يعني بالضرورة أن ملف كاليه برمته سيعالج بأريحية ناهيك عن قضية الهجرة إلى فرنسا ككل. مثلا: لن يسمح لأي مهاجر بالعمل طالما لم يحصل على وضعية لاجىء لكنه سيحصل على منحة يومية بسبعة يورو لتغطية بعض النفقات الشخصية غير الإقامة والأكل التي توفرها مراكز الإيواء المختلفة (هذه المراكز التي تشرف عليها منظمات غير حكومية تتسلم من الدولة 25 يورو عن كل مهاجر لديها)، كما أن دروس تعلم اللغة لن يتمتع بها إلا من تقدم بطلب لجوء إلى فرنسا. الملاحظ هنا أنه ليس كل مهاجر ســ «يقتاد» عنوة إلى مراكز الإيواء، إذ أن هناك من سيذهب بمفرده إلى حيث يشاء، المهم أن يغادر المخيم والمدينة حتى وإن «اختفى وسط الزحام» على حد قول أحدهم.
أكثر ما يهم فرنسا الآن هو شطب هذا المخيم من الخارطة تماما ومنع إعادة تشكله وهي في ذلك استطاعت أن تبتكر حلولا عملية ومخارج معقولة وإنسانية إلى حد لا بأس به. المهم الآن ألا يدخل هذا الموضوع سوق المزايدات الانتخابية القريبة لأن ذلك سيحول المهاجرين إلى وقود معركة عادة ما تظهر أسوأ ما في المجتمع الفرنسي من مظاهر الكراهية للأجانب.

٭ كاتب وإعلامي تونسي
القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..