تقرير المصير وزئبقية الخطاب

رباح الصادق المهدي

نحن لا ندرك بعد، ما الذي عناه تقرير المصير بالنسبة للحزب الحاكم في الخرطوم "المؤتمر الوطني"، ولا تقييمه له، هل هو إنجاز عظيم، أم هو خطيئة ارتكبها آخرون واضطر إليها غير باغ ولا عاد كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع؟
في 17/9/2010م وبينما كان الأستاذ علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية يتجه نحو واشنطن في إحدى مفاوضات الشريكين التي صنعت على عين المجتمع الدولي/ أمريكا، وجه خطابا للإدارة الأمريكية قال فيه: (كانت حكومة الرئيس عمر حسن البشير قد حكمت لمدة (20) شهرا بالكاد، حينما أصبحت أول سلطة سياسية سودانية تعترف رسميا بحق جنوب السودان في تقرير المصير وذلك في اتفاقية فرانكفورت. اتخذت تلك الخطوة ، قبل عشر سنوات من بروتوكول مشاكوس الذي مهد الطريق لاتفاقية السلام الشامل بعده بثلاث سنوات، الاتفاقية التي أنهت أطول حرب أهلية في أفريقيا، وهي خطوة تدشن أسسا جديدة في أفريقيا القارة التي تلتزم بالحدود الموروثة من الاستعمار وتعترض على تغييرها. استند ذلك إلى منطق الإيمان بأن الحرب بين الشمال والجنوب كانت في عامها التاسع، كما أنها احتدمت قبل ذلك لمدة (16) عاما، مما يحتاج لمعالجة مختلفة تسمح بالوحدة الطوعية أو الانفصال). علقنا على ذلك يومها بأن الفترة من مجئ الإنقاذ لاتفاقية فرانكفورت هي ثلاثون شهرا لا عشرون، ولكن يبدو كان الأستاذ من شدة احتفائه بتقرير المصير قد ابتلع ثلث الفترة ليؤكد مسارعتهم في فعل الخيرات!
وبالسبت 16/7/2011م رافع البروفيسور إبراهيم غندور الناطق الرسمي باسم المؤتمر الوطني حول موقف حزبه من الانفصال وتقرير المصير أمام "منتدى الصحافة والسياسة" الذي يرأسه الأستاذ محمد لطيف وينظم بالتعاون مع مكتب الإمام الصادق المهدي. قال غندور: من يتحمل المسئولية في الانفصال هو فكرة تقرير المصير. ثم تساءل: من الذي وقع تقرير المصير في فرانكفورت؟ ثم في شقدوم وفي أسمرا؟ وحمّل الحركة الشعبية مسئولية سوق البسطاء للانفصال بعد الاتفاق على تقرير المصير في نيفاشا.
البروفيسور غندور ليس (بدريا) كالأستاذ طه. والمسألة ليست بدرية وإنما اقتدار. إذ لم يكن للمؤتمر الوطني أن يأتي بمخاطب أشد حنكة مما كان يومها البروفيسور، ولكن للأسف حتى ولو استطاع تزيين موقف حزبه فقد فعلها باستخدام تكنيك (فليرمها بحجر) المقتبس من القصة الإنجيلية الشهيرة حينما قال المسيح لرفقائه وقد هموا برجم مومس: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.
في وقت سابق استخدم الأستاذ علي عثمان هذا التكنيك في ندوة العميدة (سنة 2004م) حينما واجهه معلقون بأنكم انقلبتم على الشرعية الدستورية.
وفي نفس يوم منتدى الصحافة المذكور استخدمه د. محي الدين تيتاوي. إذ حينما قدمه الأستاذ محمد لطيف قال لولا هذا منبر مستقل لما قدمته كنقيب للصحافيين فنحن في (طيبة برس) نقول إن النقيب الشرعي هو الدكتور مرتضى الغالي (رد الله غربته). وتعليقا على هذا الكلام قال تيتاوي: أذكّر امبراطور المنصة الذي قال إن نقيب الصحفيين الشرعي هو الأخ مرتضى الغالي، بانتخابات 1988م التي زورت وتم تنصيب وزير ونائب رئيس حزب نقيبا للصحفيين! هذا حديث بلغة الوداعيات (حمده في بطنه) أي لم يصرّح بمقصوده! لكنه يستبطن فكرة أن الجميع زوروا من قبل فلا ضير إن زورنا!
ونقول: فكرة (فليرمها بحجر) من الأفكار التي تنبع من الإفراط فتؤدي للتفريط.
المسيحية، كرسالة سماوية جاءت لترفع عن اليهود إصرا وقيودا كانت رسخت في ديانتهم. أعلت المسيحية من الروحية والتسامي والتسامح والبواطن في مقابل المادية والمواجهة والقصاص والظواهر. والقيم الموزعة في الأناجيل مثل فليرمها بحجر، وفليدر خده الأيسر، و(لَيْسَ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ بَلْ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ هَذَا يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ) وأمثالها كانت جرعة مضادة للقيود والأحكام التي تفنن فيها (مُعَلَّمو الشَّريعةِ والفَرّيسيّونَ المُراؤونَ!) بتعبير السيد المسيح. وغني عن القول إن هذا الإفراط في الاهتمام بالروحانيات لفظا للماديات، وبالبواطن لفظا للظواهر، كان سبب تفريط كبير، فكثيرون صاروا يتخذون (فليرمها بحجر) ضوءا أخضر لارتكاب الموبقات، (والموت وسط الجماعة عرس).
هذا يناقض ما هو معلوم من فروقات في درجات الرذيلة، وما هو مطلوب من أساس للتطهر الاجتماعي و(دوائر النزاهة). ويناقض أسس الأخلاق الإسلامية ومن بينها الكلية (المعروف والمنكر) والمعاملة بالمثل، والإيثار، ولكن ليس من بينها (تساوي الجميع في الرذيلة) كما تشي فكرة فليرمها بحجر. بل قال رسول الله (ص): "لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت وإن أساءوا أسأت ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم".
(فليرمها بحجر) تكنيك ناقض للأسس الإسلامية للأخلاق، يلتمس أساسا اتخذته المسيحية للتسامي فصار سببا للتفريط في قيم السماء والإفراط في ارتكاب السيئات، فكلنا سواء!
ولكن، وكما قال من قبل د.إيريك رييفز، أستاذ الأدب الإنجليزي الأمريكي والكاتب المداوم في الشأن السوداني، إن المساواة، بين المؤتمر الوطني والآخرين، ظلت دائما بالنسبة إليه خط دفاع أول – أي – إنه لم يعد يهتم كثيرا بنفي قيامه بالسيئات، ولكنه يلتمس فقط إثبات أنه ليس وحده، فالجميع لهم خطاياهم!
إننا إذ نفضح الأساس اللا أخلاقي لفكرة (فليرمها بحجر) استنادا إلى المرجعية الإسلامية التي ينتسب إليها المؤتمر الوطني، نؤكد حقيقة أن العبرة في تقرير المصير ليست فيمن وقع على وثيقة واشنطن 1993م أو شقدوم 1994م أو مقررات أسمرا المصيرية 1995م، ولكن في السياسات التي جعلت مطلب تقرير المصير مجمعاً عليه جنوبيا. وكما قال حكيم الشعراء:
إذا رحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم!
صحيح إن القوى الجنوبية التي أجمعت على الانفصال رحلت ولكن بسبب ما ارتكبته الحكومة السودانية فكانت هي من رحلت عنهم! كان البروفيسور غندور يذكر أعراضا وينسى المرض الذي سببها: سياسات وأشعار وأقوال وأفعال راكمت المظالم ونفّرت المظلومين.
وكان بروفيسورغندور كذلك وهو يذكر فرانكفورت يطعن المؤتمر الشعبي لدور د. علي الحاج في ذلك الاتفاق، وليتذكر البروفيسور أن عليا يومها كان قياديا بالمؤتمر الوطني ولا ينقص ذلك من وزر قياديي المؤتمر الشعبي شيئا، وقد عد فعله ذلك إنجازا لحزبهم بعيون الأستاذ طه كما ذكرنا.
وسؤالنا الذي بدأنا به ما زال قائما.متى ينهي المؤتمر الوطني زئبقية التعامل مع سؤال تقرير المصير
وليبق ما بيننا

الرأي العام

تعليق واحد

  1. وسؤالنا الذي بدأنا به ما زال قائما.متى ينهي المؤتمر الوطني زئبقية التعامل مع سؤال تقرير المصير
    بدلا من هذا السؤال السؤال المطلوب متى يرحل عنا هذا الكابوس

  2. أختي الكريمه المؤتمر اللاوطني سعي لأنفصال الجنوب وخطط لذلك ، والدليل علي ذلك أنه لم يسعي أن تكون الوحدة جاذبه وهو الممسك بالسلطة والقرار ، كما أن فصل الجنوب كان خياراً مطروحاً في أدبيات ما يسمي بالحركة الاسلاميه منذ ستينيات القرن الماضي وسعي الي تنفيذه حينما تراي له استحالة الحل العسكري في حربه الجهادية علي الجنوبيين .

  3. اري هرج ومرج ورمي حجار
    الموضوع وما فيه المؤتمر الوطني فعل ما فعل سواء انقلاب علي الشرعية ضد حكومة منتخبة او تجزئة السودان الي دويلات وخلاص انتهت الحكاية بل القادم اسود وامر
    ولربما قبل المؤتمر اللاوطني بحكم توتي فقط ولربما يفاض من فيها اذا ما حملوا السلام او قل ربما يقبل بدخول القبعات الزرقاء اليها ان دعت الضرورة

  4. كنت من المداومين على سماع صوت الحركة الشعبية من

    إذاعة أثيوبيا.وأتذكر كلام الراحل جون قرنق :

    "إحنا قلنا ليهم ما عاوزين نتناقش معاكم في مشكلة الجنوب

    نحنا عاوزين نتكلم في مشكلة حكم السودان كلو ..""

    لكن محمد الأمين خليفة وبإصرار غريب (ومريب) كان يصر على

    مناقشة "مشكلة الجنوب" .

    وحتى إتفاقية الميرغني – قرنق لم تتطرق لموضوع "تقرير المصير" وهذا دليل

    على أن الحركة الشعبية والأحزاب السياسية (ما عدا الكيزان والأمة ) لم تكن

    تعول على تقرير المصير ولم يندرج الموضوع بقوة إلا بعد إصرار الإسلاميين

    في المفاوضات مع الحركة الشعبية على إدراجه.

    قرنق تحت إصرار الإنفصاليين في الحركة ، اللي كان محجمهم، والأمريكان

    اللي كان لسان حالهم الإتنين بيقول " هم ناس الشمال أغلبهم (الأمة والكيزان)

    بيتكلموا عن تقرير المصير إنت براك عاوز تدخلنا في متاهات …!!" .فإنصاع

    الراجل للخط اللي بقى واضح إنو ماشي بقوة.

    دا كوم والصراع والتعنت القبيح مع الحركة بعد 2005 و"تكريه" الحركة في الشمال

    إستفزاز سلفاكير اللي كل مرة والتانية يحرد والكنكشة في وزارة الطاقة

    والقوانين المقيدة …الخ إنتو ما خليتو ليكم دربا بعد 2005 يقود للإنفصال إلا

    وسلكتوهو وسلكتوهو (بتشديد السين).

    وحاليا سادرين في غيكم بتكرهوا في قطاع الشمال الشمال ذاتو ومودين البلد

    كمان لإنفصال جديد وبكرة برضو حتمشوا في مسلسل الكضب بتاع ما كلنا كنا …

    الله ينعلكم دنيا وآخره

  5. لا الموتمر الوطني ولا الحركة الشعبية ولا أي حزب شمالي هو من فصل الجنوب هنالك ضغوط ومصالح دول كبرى تقتضي مصالحها اعادة رسم الخارطة كما رسموها
    أول مرة ، كان بالامكان مقاومة المخطط لو تكاتف الجميع للمصلحة الوطنية العليا
    مثلا كان يمكن احياء التجمع الوطني المعارض ومقرة جوبا واحتواء الحركة الشعبية ولكن الواقع يقول المعارضة تريد ازاحة النظام الحاكم بأي ثمن والنظام الحاكم يريد البقاء بأي ثمن بصراحة نحن شعب فاشل فاشل

  6. الاستاذة / رباح نحن ظللنا نسمع من فترة ليس بقريب بوضع خارطة جديدة بالذات الدول الاسلامية منها ما سمية بخارطة الشرق الاسط وربما السودان كهدف أول فى تغير الخارطة الى خمس دويلات متناثرة ضعيفة …تلك القوة الغربية وجدت ضالته فى حكومة متغطرسة ضد إثنيات الوطن من الطبيعى أن تجد أسهل طريق فى تفتيت وحدة السودان وتقسيمه بدء فى تنفيذه بجنوب السودان ونجحو فى ذلك والبقية على الطريق بنفس الفهم والسياسة كيف أنهم سهلو إنتخاب البشير للرئاسة رقم أنه مطلوب دولى لمحاكته والانتخابات كانت مزورة رقم الخج أعترفو بها بمقياس نزاهة لايرقى الى درجة التزوير والغرب والامريكان يراقبو إنتخابات دولهم بوضع مناظير ضد أى تزوير لكن المصلحة الغربية والامريكية أقتضت تمكين البشير للحكم لحين فصل الجنوب وما تبقى من الجسم السودانى هذا ما حصل ويحصل بالفعل ..كلمة تقرير المصير فصلت به الجنوب . وكلمة المشورة الشعبية فى الاتفاقية أيضا المراد منه فصل جنوب كردفان ومنا طق النيل الازرق ومناطق أخرى مع وجود أبالسة الانقاذ بتمسكهم الحكم لدرجة الكنكشة . حافظو على وحدة البلاد أجيال وأتو هؤلا من أين بطون لا نعلم فركشوه حتت …اللهم أعد الحكم الرشيد لشعب السودان المكلوم

  7. خلونا من دموع التماسيح التي تزرفونها علي النت, عينكم في الفيل وتطعنون في ظله انتم وابوكم الصادق المهدي ,الي الآن لم نجد اجابه علي عمل اثنين من اخوانكم مع هذه الحكومه ويا عجبي احدهم في الامن , وماذا فعلتم لانقاذ الجنوب وانقاذ الشعب السوداني من الفقر والقهر, والشاب الذي كتبت عنه اختك ام سلمه و قد قتل متسللا لاسرائيل وابوكم قادر علي تحريك الآف الانصار بأصبعه وبعدها ستنضم اليهم قطاعات الشعب, ولكن يا لأسفي لن يحصل لأنهم قبضوا الثمن بشهادة نافع لانه لايوجد سياسي سوداني واحد حكومه ومعارضه له ذره من الوطنيه,وانا والله لم اعد اضيع الوقت في قرآءة مقالات آلا المهدي ولكن عنوان المقال شدني لقرآءته وقد قرأت منه الاسطر الاولي فقط ولم اكمله, فأنتم بيدكم الكثير للتغيير ولكنكم اتخذتم للنت وسيله لمعارضة النظام كمن لا حول لهم ولا قوة .
    ولا حوله ولا قوة الا بالله فيكم جميعا حكومه ومعارضه.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..