أغنية ” التوب ” ( عركى ? عوض جبريل ) : جدلية الظلال و الفن العبقرى

توطئة
” الشعر هو الذكريات تستجمع في هدوء ”
وليام ويردز ويرث
ذات مراهقة فكرية ما ، كثيرا ما انتقدت إبداعيا لأنه لا يرتبط بالواقع . ثم بعد فترة بدأت آنف من كل عمل أدبى يعكس الواقع بصورة كاملة ، و الآن اقف في منطقة العتمة بين الموقفين : أن العمل الخالد هو الذى ينقل تفاصيل الواقع بصورة غائمة و كثيفة الظلال ، بحيث يحمل شيئا من سخونة الواقع و إغراء الخيال .
أغنية ” التوب ” للفنان الثائر ” أبو عركى البخيت ” هي من الأعمال التي كثيرا ما استوقفتنى لما فيها من عبق خاص جدا . الأغنية من كلمات وتلحين العبقرى “عوض جبريل ” ، و ” عوض ” من نوابغ الغناء في السودان الذين نالهم ما نالهم من إهمال ، ربما لأن الرجل وهب حياته كلها لكتابة الشعرالغنائى و التلحين دون أن يركض وراء الأضواء و المال مما جعله أقرب ما يكون للصوفى الذى يكرس حياته للزهد . في نظرى ، تنقل الأغنية تجربة بالغة الكثافة و الثراء و الشاعرية ، اصطاد فيها عوض تفاصيل لحظة نادرة و اعتقلها بين برواز لغته الشاعرية العذبة . ذات لحظة ما ، وقعت عينا “عوض ” الثاقبتان و قلبه المرهف على ثوب سودانى وسيم تتهادى صاحبته عن بعد . ركض ” عوض ” وراء السيدة آملا أن يراها عن كثب لكن تلك الحسناء الغامضة دلفت الى بيت من بيوت الحارة و اختفت فيه ، وظل ” عوض ” مشتت الرؤى يبحث عنها بلا جدوى قبل أن يقود خطواته و يقفل راجعا . مذاق الأغنية مختلف و كثيرا ما تأملت سيناريوها الغريب بدهشة : فبطلة الأغنية مجهولة لم يدرك ” عوض ” من هي حتى غادر الحياة ، و لعل تلك السيدة الغامضة لا تعلم حتى اللحظة أنها الهمت واحدة من الأغنيات النادرة جدا . ثمة أغنيات كثر في السودان دارت حول موضوع ” التوب ” السودانى احتفاءا و إجلالا . ” الصادق الياس ” مثلا كتب لعلى إبراهيم :
شوف عينى الحبيب بى حشمة لابس التوب
التوب زاد جمالك زينة يا المحبوب
و في رائعة ” من غير ميعاد ” كتب التجانى سعيد للفرعون ” وردى” :
و خطاكى و الهدب المكحل
فتنة التوب الأنيق
و قبلهما تغنى ” إسماعيل حسن” برفقة وردى نفسه :
الزراق فوقا تقول حرير
مثلما تغنى ” أبو آمنة حامد ” لذات الهرم النوبى العظيم ” التوب المهفهف فوق أمات ضفائر ”
و ربما باستثناء نماذج قليلة – وعلى رأسها ” من غير ميعاد ” – سقط الكثير منها في فخ المباشرة و الغزل الواضح والترويج للثوب السودانى باعتباره مرادفا للعفة . أما أغنية “عوض ” فهى تبدو كما الظلال : بطلتها غامضة و فيها اثارة كاميرا سينمائية تتجلى في عنصر البحث ثم الانتظار ثم الخيبة ، ثم الخروج بموضوع الاغنية الى ما يمكن ان نطلق عليه تأملا عاما في شئون الكون .
يبتدر ” عوض ” الاغنية بتحديد موضوع الأغنية ” التوب ” :
شفت التوب و ما لاقانى أجمل منو
شفت التوب و سيد التوب يكون كيفنو !!
من السؤال الوارد في البيت الثانى ندرك أن الشاعر لا يعرف المحبوبة بصورة شخصية فهو يتساءل إن كان ذاك الثوب الذى رآه عن بعد بمثل تلك الفتنة فكيف تكون صاحبته ؟ . عبارة ” سيد التوب ” لا يجب أن تؤخذ باعتبارها ذات صبغة ذكورية فكثيرا ما أشار الشعراء للمحبوبة بضيغة المذكر و هذا كثير الورود حتى في الشعر العربى الفصيح .
بعد ذلك تنتقل كاميرا ” عوض ” الدقيقة في التحليق بنا في فضاءات التجرية :
نظرة سريعة مرت بيها ما اتمتعت
خطوة وحيدة بينى و بينا لو اسرعت
خلت طيبا مالى الساحة بى اتشبعت
زيها مافى لا شاهدت لا سمعت
تبدأ هناك تتقاطر من صنبور شاعرية “عوض ” أوصاف المحبوبة المجهولة . فاضافة الى أنها كانت ترتدى ثوبا ? و التي وردت في الكوبليه الأول ? نعلم هنا أن طيبها كان يفوح في ثنايا المكان حتى تشبع به الشاعر . في البيت الأخير هنا تظهر ثقافة “عوض ” الدينية فما لا عين رأت و لا أذن سمعت ورد في وصف الجنة . في المقطع التالى نواصل الرحلة مع ” عوض ” :
من جاراتا قادلة حلاتا دخلت بيتا
سرت حداها داير ألقاها تب ما لقيتا
هنا يواصل الشاعر اضاءات وصف المحبوب الجسدية فهى مهدلة الكتفين ، مخصبة الأنامل . في المقطع الأخير تستمر مغامرة الشاعر المسكرة :
استنيتا قلت اظنو ترجع تانى
ثم ? كعادته ? يفاجئنا ” عوض جبريل ” بشئ من الحكم و التأمل الذى لا تكاد تخلو منه قصيدة له ” :
يمكن أشوفا و أصلو الزول حياتو أمانى
و لعلى لم أجد وصفا أبلغ و أشد كثافة من وصف ” عوض ” لحياة المرء بأنها مجموعة من الأمانى .
يقول طه حسين ” و الكاتب الجيد هو الذى يفتح أمامى آفاقا من التأمل ” . هذه الأغنية ? بكلماتها المعبرة و صوت عركى الفخيم الرخيم و لحن عوض العذب ? تفتح لى كوة تأمل عميقة . وأنا أستمع الى الكلمات تتهادى على مرمر صوت ” أبو عركى الجميل ” أجدنى أسيرا لشعور غريب : أنه يمكن قراءة تفاصيل هذه الأغنية بصورة رمزية : ألا يمكن النظرة الى تلك السيدة المجهولة باعتبارها رمزا لأمل ما أو حلم ما ؟ ألا توجد آمال و أمنيات طاردناها بين أزقة حيواتنا ، لكنها استعصت عليها ، فعدنا من رحلة البحث ببعض المرارة و بعض الذكريات ، و ربما بعض الحكمة ؟؟
ولست أدرى كيف غفلت عيون المخرجين في بلادى عن هذه الدرة الفريدة . إن أغنية التوب لعوض جبريل و أبو عركى البخيت يمكن أن تشكل سيناريو عبقرى لفيديو كليب فلسفى عميق يمكن ألا يقتصر فقط على تفاصيل مغامرة غرامية لاهثة !!
……
مهدى يوسف إبراهيم عيسى ( [email][email protected][/email])
جدة
الجمعة غرة يناير 2016