الآفاق المستقبلية للتطور الديمقراطي والاقتصادي في السودان
رؤى واقعية
الآفاق المستقبلية للتطور الديمقراطي والاقتصادي في السودان
د. عبد الرحمن السلمابي
[email][email protected][/email]
تحدثنا في كثير من المقالات السابقة عن واقع وآفاق التطور الديمقراطي والاقتصادي في السودان من خلال تحليل تخللته البراغماتية ) المذهب العملي ( المنبثقة عن الواقع المعاش الذي هو في تقديرنا ثمرة من الماضي و ذلك بهدف الوصول إلى رؤى مستقبلية قد تسهم في الوصول إلى الاستقرار السياسي الذي هو مطلب أساس لإحداث التنمية الاقتصادية المنشودة والتي متى ما استصحب معها مبادئ العدالة الاجتماعية تؤدي إلى دولة الرفاه اى تحقيق الرفاهية للشعب السوداني الذي ظل يحلم بذلك منذ الاستقلال في العام 1956م وإلى يومنا هذا . و التنمية الاقتصادية المنشودة يمكن الوصول إليها عن طريق تعميم مفهوم “تمكناً” للكافة. وهذا هو التحدي الأكبر الماثل ، بحيث يكون ” كل حسب قدراته ولكل حسب احتياجاته “.
وأي تطور ديمقراطي يعني ببساطة الوصول إلى صيغة الحكم الأمثل- و المتراضي عليه- أي شكل الحكم في الدولة باعتبارها الهيكل التنظيمي الذي يقود إلى الاستقرار السياسي. ومن خلال تجاربنا السابقة نجد أن لنا تجارب غير موفقة في النظام البرلماني في عام 1953م و 1956م و 1965م وأخيراً في عام 1986م. وكذلك تجارب في نظام أقرب للرئاسي في فترة حكم الفريق عبود وحكم رئاسي لاحق في فترة حكم المشير جعفر نميري ، وكذلك في تجربة حكم الرئيس البشير الماثلة الآن.
ومن خلال تحليل النظام البرلماني المطبق بنجاح في بريطانيا نجد أن من عوامل نجاحه ومن ثم استمراريته واستدامته هي وجود حزبان رئيسان (العمال والمحافظين) يتبادلان الحكم ، بمعنى أن ينجح أحدهما في الحصول على الأغلبية البرلمانية المطلوبة التي تتيح له الحكم لفترة محددة ومعلومة مسبقاً بينما يكون الحزب الآخر معارضاً معارضة موضوعية ، هذا من جانب. ومن جانب آخر نجد أن نظام الحكم هنالك يفصل ما بين السلطة التنفيذية و الرمزية السيادية. و السلطة التنفيذية يكون على رأسها رئيس وزراء منتخب له الحق في تعيين الوزراء و بالطبع بموافقة البرلمان- الضمنيه أو الصريحه- حيث لدي حزبه فيه الغالبية وبالتالي يكون له الحق شبه المطلق في إختيار طاقمه الوزاري والذي يتناغم مع سياسته وأفكاره وحتى أمزجته. و الرمزية السيادية اتفق على أن تمثلها الملكية (الملك أو الملكة). والحقيقة الماثلة هي أن الحكم البرلماني السابق في السودان لم يستوف كل الشروط المطلوبة لاستدامته ومن ثم ينتهي بحكم العسكر.
أما حكم العسكر ففيه الكثير من ملامح الحكم الرئاسي الذي يجمع ما بين رئاسة السلطة التنفيذية والسلطة السيادية. وقد حاول الرئيس جعفر نميري في فترة حكمه اللاحق في عام 1973م تبني النظام الرئاسي الأمريكي ولكن في ظل كما يسميه ديمقراطية الحزب الواحد. علماً بأن الحكم الرئاسي في الولايات المتحدة الأمريكية يتم فيه الانتخاب المباشر للرئيس الذي ينتمي لأحد الحزبين المتنافسين (الحزب الديمقراطي أو الحزب الجمهوري) بعد تنافس انتخابي حر.
هنالك الحديث حول النظام الرئاسي الفرنسي الذي مازج ما بين الحكم البرلماني البريطاني والنظام الرئاسي الأمريكي في الكثير من الجوانب بحيث يتم الانتخاب المباشر للرئيس الذي يمثل الرمزية السيادية والسلطة التنفيذية. ولكن الرئيس المنتخب مباشرة من الشعب يفوض الكثير من سلطته التنفيذية إلى الوزير الأول أو رئيس الوزراء ، حيث يقوم باختياره وتزكيته ولكن إجازته تتم بعد الموافقة البرلمانية. علماً بأن النظام الرئاسي المطبق الآن في الولايات المتحدة الامريكية إعتمد الموافقة البرلمانية كشرط من شروط تبوء المناصب الوزارية بعد تزكيتها من قبل الرئيس المنتخب.
والذي يعاب على هذه الأنظمة الديمقراطية الثلاثة (أي النظام البرلماني البريطاني والنظام الرئاسي الأمريكي والنظام الفرنسي المختلط) أنها ذات إطار نظري محدد يمكن أن توصف به ، بمعنى أنها مثل الجلباب ذو المقاس الواحد للكافة وهذا يجعلها حتماً غير مناسبة لمقاسات الكل طولاً أو قصراً، سعةً أو ضيقاً.
والنخب الحاكمة في السودان إستجلبت وطبقت النظام البرلماني البريطاني ولم يحالفها التوفيق ، وكذلك إستجلبت وطبقت النظام الرئاسي الأمريكي ولم يحالفها أيضاً التوفيق في تحقيق الاستقرار السياسي المستدام. إذاً محاولة إستيراد وتبني أنظمة الحكم الخارجية من خلال التجارب السودانية السابقة ربما تحدث عن جهد المقل بالنسبة لكافة النخب السودانية.
وعليه لا بد من تبني نظام حكم يستولد من رحم المجتمع السوداني الذاخر بثقافته ومكوناته الاجتماعية المختلفة. ولعل تجربة حكم الرئيس البشير اللاحقة أخذت في الاعتبار هذا التنوع الاجتماعي وعملت على تطبيق مبدأ التمثيل النسبي للعدد المهول من الأحزاب السياسية التي تكونت على أساس جهوي أو قبلي أو فكري أو ديني ، وما أكثرها في هذا البلد الذي توجد فيه أعداد كبيرة من القبائل والتي كانت حوالي الستمائة قبيلة قبل الانفصال.
عموماً التمثيل النسبي الجهوي قد يؤدي إلى استقرار سياسي ، فقد سبق وأن طالب أبناء دارفور بمنصب نائب للرئيس وقد منحوا ذلك مؤخراً ، ونجد أيضاً هنالك مساعد للرئيس من أبناء شرق السودان، ونلاحظ أن الرئاسة السودانية راعت هذا التمثيل النسبي على أساس جهوي أو قبلي أو فكري أو ديني في مناصب نواب أو مساعدين أو حتى مستشارين الرئيس قبل التخفيض الأخير لضرورة اقتضتها دواعي تخفيض الإنفاق العام في النص الثاني من هذا العام.
وفي تقديرنا أن المحافظة على التمثيل النسبي من خلال مجلس السيادة في العهود البرلمانية كانت من المحاسن التي لابد من استصحابها مستقبلاً وذلك لأن انتخاب أعضاء مجلس السيادة و إنتخاب رئيس السلطة التنفيذية من الشعب مباشرة لمن محاسن النظام الرئاسي.
وفي تقديرنا أن نظام الحكم الأمثل لا بد له من الأخذ بهذه الحصيلة من التجارب أو ألإرث بدلاً من اتباع الأنظمة المستوردة التي غالباً ما شابها ويشوبها قصور نتيجة تجاهلها لما يعرف بعلم الاجتماع السياسي الذي في بعض جزئياتة يدعو إلي سمو الخصائص والعادات و التقاليد الإجتماعية فوق اى نظرية دخيلة بمعنى انه لابد لها من الموائمة الإجتماعية حتى تستمر أو تستقر و ترسخ. إذاً نظريات الأنظمة السياسية من الأفضل أن تنبع من خصائص و مميزات المجتمع السوداني عن طريق الإستفادة من التجارب السابقة لترسخ. و مجموعة تلك الخصائص والعادات و التقاليد و السمات يمكن وصفها “بالسوداناوية” كما يطيب لبعض المختصين أمثال البروفسير جعفر ميرغني و ممن حوله. و من المعروف أو الثابت وفقاً لكتابات أو أحاديث المرحوم البروفسير عبدالله الطيب و غيره أن المجتمع السوداني يتكون من مجموعة قبائل نوبية و زنجية مستعربة بدرجات متفاوتة مما نتج عنه هذا العدد المهول من التنوع الثقافي الشامل لكل الضروب. والذي يهمنا منه أكثر هو التنوع للثقافة السياسية و الاقتصادية التي انعكست – ربما سالباً – على وجود الكم الهائل من الأحزاب السياسية المؤسسة على اساس عرقي أو جهوي أو خلافهما. و كذلك نجد أثر سلبى للثقافة الاقتصادية المبنية على الإكثار من الإستهلاك ? مثل أصرف ما في الجيب ، يأتيك ما في الغيب و غيرها. و عليه نرى ضرورة إستصحاب كل مما سبق مستقبلاً.
عموماً يمكن الأخذ بنظام انتخاب ” رئيس الوزراء” مباشرة من الشعب وبالتالي تجنب الضعف الذي يلازم الحكم الائتلافي ويكون هو بالطبع رئيس السلطة التنفيذية لمدة خمس أو ست سنوات وفصل الرمزية السيادية عنه بتكوين مجلس سيادة منتخب يمثل فيه كآفة أقاليم السودان ، مثل الإقليم الشمالي ، والشرقي ، والأوسط ، وكردفان ودارفور ، وكذلك لابد فيه من تمثيل القوات النظامية بمنصب أقلاه نائب رئيس باعتبارها تنظيم إداري لا بد له من تمثيل سياسي لتجنب حدوث أى إنقلابات عسكرية مستقبلاً. وفي حالة أن تكون فترة رئيس الوزراء هي خمس سنوات حيث يمكن ان تكون الرئاسة السيادية دورية لمدة عام لكل من الأعضاء الخمسة المنتخبين من الأقاليم الخمسة ، تحددها القرعة. أو إذا توافقت الآراء على ان تكون فترة رئيس الوزراء المنتخب مباشرة من الشعب هي ست سنوات أو اكثر فيمكن لممثل القوات النظامية ان ينال حظه من الرئاسة مثله مثل الآخرين عن طريق القرعة .
هذا بالطبع لاستيفاء ” الجرعة الزائدة ” لظاهرة حب الرئاسة عند السودانيين ، ولكن لقصر فترة العام في الرئاسة السيادية الدورية المقترحه و التي قد تواجهها صعوبات عملية من حيث تغييرات للبروتوكول والمخاطبات والعلاقات والتعامل الخارجي وخلافها لذلك من الأمثل أن يتم انتخاب رئيس مجلس السيادة لمدة ست أعوام مباشرة من الشعب.
ويمكن الاستفادة من التجربة الأمريكية حيث يتم إنتخاب الرئيس مع نائبه في قائمة واحدة ويكون نائبه بحكم الدستور هو رئيس مجلس السناتور (المجلس التشريعي الاعلى للولايات المتحدة ويباشر تلك المهام التشريعية دون أي دور تنفيذي مباشر إلا في حالة وفاة أو استقالة أو إقالة رئيس الجمهورية المنتخب) ، وهذا النهج يمثل المخرج العملي لتفادي حدوث أى فراغ دستوري وأيضاً إيجاد دور وظيفي فعال لنائب الرئيس المنتخب يستحق عليه المكافأة أو العائد المادي الذي يصرف له من أموال الشعب الأمريكي. وإن سعينا لتطبيق نفس المفهوم فيمكن أن يكون انتخاب رئيس الوزراء مع نائبه الذي يمكن أن يكون تلقائياً رئيس لمجلس السيادة المكون من الأعضاء المنتخبين من الأقاليم الخمسة مع تعيين ممثل للقوات النظامية . ويمكن أيضاً زيادة عدد الأعضاء من الأقاليم الخمسة إلى عضوين ويصبح بالتالي مجلس السيادة هو البديل لمجلس الولايات الحالي. وبالطبع يوفر ذلك الكثير من الأموال بتقليل الإنفاق لتلك الهيئة التشريعية الحالية.
وديدن إنتخاب الرئيس مع نائبه (أو حتى ولاة الولايات في السودان مع نوابهم) في بطاقة واحدة بغرض تجنب إحداث فراغ دستوري أو حتى إعادة الانتخاب للمنصب والتي لها كلفتها المادية العالية لفكرة جيدة. فكان من الأوفق تطبيقها عند انتخاب الولاة في الانتخابات السودانية السابقة ، وحينئذٍ نكون وفرنا الكثير من المجهودات والأموال عند حدوث استقالة أو إقالة أو وفاة لأي من الولاة كما في حالة فراغ منصب والي ولاية القضارف في بدايات هذا العام أو حتى في حالة الوالي مالك عقار الذي تمرد. ففي حالة والي القضارف الذي استقال حيث المطلوب دستورياً أو قانونياً إعادة الانتخاب للمنصب في خلال ستين يوماً -ولكن الضرورات والمقتضيات الواقعية أملت تأجيلها إلى ما بعد الخريف للصعوبات اللوجستية وانشغال سكان الولاية الزراعية بالموسم الزراعي ، وكذلك ربما الصعوبات المالية وتوفير الميزانيات الإضافية في ظل الظروف الاقتصادية الحرجة التي تمر بها البلاد . علماً بأنه في حالة عدم التوفيق في الإلتزام بإعادة الانتخابات في خلال الموعد المضروب لها فأي يوم إضافي بعدها يعتبر غير قانوني و يحدث فراغاً دستورياً كان يمكن تجنبه إذا ما تم انتخاب الوالي ونائبه معاً في الانتخابات السابقة.
هذا يقودنا إلى الحديث عن فلسفة الحكم الفيدرالي نفسه وهل بلد في مثل حالة السودان يحتاج الي (18) ولاية والعدد الهائل من المعتمدين وغيرهم في مستويات الحكم الأقل الأخرى ؟ أم من الأوفق العودة إلى فكرة الأقاليم التي لا تتجاوز الخمسة حيث الإقليم الشمالي والشرقي والأوسط وكردفان ودارفور ، حيث الأصل في فكرة وفلسفة الحكم الفيدرالي في حالة السودان هو مجرد تقديم الخدمات للمواطنين بأقل تكلفة ممكنة ؟
فإذا ما نسبنا عدد سكان السودان المقدر بحوالي 30 مليون إلى عدد الولايات (18)- نجد أن كل ولاية تخدم في المتوسط حوالي المليون وسبعمائة الف مواطن: بينما في الولايات المتحدة الأمريكية حيث عدد السكان يفوق 300 مليون يقطنون حوالي 50 ولاية فقط- بحيث أن كل ولاية في المتوسط تخدم حوالي 6 مليون مواطن. وعليه نجد إن الكلفة المالية للحكم الفيدرالي في السودان لمرتفعة جداً. ولكن بالعودة إلى فكرة (5) أقاليم لتخدم 30 مليون مواطن يكون في المتوسط أن كل إقليم يخدم حوالي 6 مليون مواطن وهو عدد مماثل لتقديم نفس الخدمة لهم في الولايات المتحدة الأمريكية ، ولكن شتان ما بين المقدرات المالية لتلك الدولة و بيننا أو مقارنة بنا ؟؟؟
وباستصحاب تجربة الحكم الفيدرالي الحالية التي قوامها (18) ولاية حيث أن التكلفة الإدارية الحالية مرتفعة جداً مما يقعدها عن تقديم الخدمات الضرورية اللازمة من صحة وتعليم وإصحاح للبيئة والخدمات الأخرى ، كما تحد كثيراً من التنمية الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة . والتجربة أيضاً يشوبها تأجج النزعات و النزاعات القبلية التي تضر كثيراً بوحدة البلاد. ناهيك عن أن أساس تكوينها كان وفق قرارات سياسية أو إدارية لا يؤهلها لكي نعتبرها حكماً فيدرالياً ، حيث قوامه ولايات حقيقية ومنفصلة اتفقت فيما بينها على الحكم الفيدرالي ، وذلك لأغراض من بينها تقليل التكلفة لمتطلبات تأسيس دولة مستقلة لكل منها. عموماً لا بد من إعادة النظر في أمرها والاستعاضة عنها بالإقاليم الخمسة وإنزالها إلى معتمديات أو محافظات أوغيرها ذات تكلفة إدارية أقل.
أما بشأن الدستور فلا بد من مراعاة الاقتضاب فيه وحصره على المبادئ الأساسية ليتثنى له صفة الإستدامة مثله مثل الدستور الأمريكي الذي قوامه حوالي (34) بنداً. علماً بأن دولة مثل بريطانيا العظمى ليس لها حتى الان دستوراً مكتوباً وإنما أعراف وتقاليد دستورية تحكمها.
إذاً كتابة الدستور ليست شرطاً لوجوبه أو وجوده ، وإن كان لا بد من ذلك فيجب أن تكون مقتضبة -حيث الإسهاب فيها غالباً ما يؤدي الي كثرة الجدال حوله حيث ما أكثره في بلدنا . والآن يكثر الجدال حول إسلامية الدستور والتي في مجملها تنحصر في تطبيق قانون العقوبات وتطبيق الحدود الإسلامية مثل حد السرقة ، حد القذف ، حد شرب الخمر ، حد الردة ، حد الزنا ، حد الحرابة ، حد القتل وغيرها والتي معظمها خاضع للظروف المخففة وفقاً للمبادئ الإسلامية السمحة. علماً بأنه في عهد من العهود الإسلامية السابقة تم إيقاف العمل بحد السرقة مثلاً ، عندما حدثت مجاعة.
نضف إلي ذلك بأن الأعراف والتقاليد والتي تعتبر أقوى دستور أو قانون يحكم أي مجتمع متواجد في أي بلد ما. و بلا أدني شكُُُّ إن الأعراف والتقاليد المتوافرة و المتواجدة في بلدنا ومجتمعنا السوداني منبثقة من الشريعة الإسلامية مما يجعل الجدال حول الدستور الإسلامي هو جدال سياسي بين النخب السياسية المختلفة في بلدنا ، وربما من أجل كسب التعاطف الديني والتأييد الشعبي. فمثلاً في عهد الاستعمار و العهود اللاحقة حتى عام 1983م كان الخمر مباحاً ؟؟؟ فهل ذلك جعل كل أفراد الشعب السوداني يتعاطونه؟ الإجابة بالقطع لا ثم لا ،،، لأن المجتمع السوداني يعلم بأن الخمر حرام شرعاً وهو متشبع بالشريعة الإسلامية ، لذلك كان معظم أفراد المجتمع يمارسون رقابة ذاتية على سلوكياتهم فبالرغم من إباحة الخمر فهم في معظمهم يتجنبونها.
أما بالنسبة لقوانين مثل الانتخابات وتسجيلات الأحزاب السياسية فلا بد من جعل أهدافها تقود إلى التطور الديمقراطي عبر تشجيع الاندماج ليكون هنالك حوالي إثنان إلى ثلاثة أحزاب قوية نتيجة تكتلات سياسية شبيهة بالكتل الحزبية الألمانية أو مثل الإندماجات الحزبية كما في الأحزاب الماليزية. هذا ضروري للاستقرار السياسي الذي حتماً يقود إلى إحداث تنمية اقتصادية معتبرة . و لا يعقل أن تكون شروط التسجيل القانوني بهذه السهوله التي تسمح لما يزيد عن السبعين (70) حزباَ مسجلاَ حيث لا توجد دولة ديمقراطية -أو تريد أن تصير كذلك- بها هذا الكم الهائل من الأحزاب السياسية.
فمثلاً إذا ما تم التوافق على فصل السلطة التنفيذية من الرمزية السيادية وتمت الموافقة على أن يتم إنتخاب رئيس الوزراء ونائبه -الذي يكون رئيس مجلس السيادة- فهذا يقود إلى خلق تكتلات حزبية قوية قبل الإنتخابات حيث تتم في قائمة موحدة لرئاسة السلطة التنفيذية و لرئاسة مجلس السيادة. فيمكن أن نستقرأ من الماضي إن الائتلاف الذي تم بين حزب الأمة القومي والحزب الاتحادي الديمقراطي عقب إنتخابات عام 1986م كان يمكن أن يتم قبلها في اتفاق ميثاقي يحدد لكل حزب ما يليه من سلطات ومهام وأدوار تحد كثيراً من التنافس والتناحر السياسي اللاحق و المضر بمصلحة البلد والمفهوم الديمقراطي. وهكذا يمكن أن تسهم تلك القوانين في تحقيق الاستقرار السياسي المطلوب لتحقيق التنمية الاقتصادية ومن ثم الولوج إلى مرحلة دولة الرفاهية.
والذي يمكن أن يكون مفيداً من تجارب قوانين الانتخابات السابقة هي مسألة التمثيل النسبي للخريجين بحيث اقتنع الكافة بضرورة وجودهم في البرلمان لإثرائه. وبالنظر الي قوانين الانتخابات السابقة نجد إن من محاسنها تطبيق مبدأ التمثيل النسبي الإيجابي لفئة الخريجيين. ولكن الآن بعد ما يزيد من نصف قرن لا بد أن يكون شرط من شروط الترشيح أن يكون العضو خريجاً جامعياً ولكن تبقى ضرورة تطبيق مبدأ التمثيل النسبي قائمة. فالأصل أن البرلمان أو المجلس التشريعي ليس نادي أو منتدى إجتماعي، وإنما له دور أساسي يكمن ابتداءاً في إجازة أو تعديل القوانين أو التشريعات التي تحكم المجتمع كافة والتي من بينها الموازنة العامة . فلا يعقل أن يكون هنالك حوالي (11) صوت تالف لإختيار رئيس المجلس التشريعي الحالي المنتخب في أبريل عام 2012 ؟؟؟ فإذا كان العضو المنتخب فيه لا يعرف كيف يصوت، فكيف له أن يشرع قانوناً؟ بالمقارنة بالمجالس التشريعية الأمريكية على سبيل المثال نجد أن حوالي 70% من منتسبيها من أهل القانون والبقية الباقية عبارة عن أهل اختصاص في معظم المناحي الضرورية الأخرى.
فإذا كان لا بد من ممارسة مبدأ التمثيل النسبي لاقتناعنا بأهميته فيجب أن يضم ممثلي النقابات المهنية والفئوية المستنيرة الأخرى، مثل وجود ثلاثة أو أكثر من الممثلين لنقابة المحامين أو نقابة الأطباء أو نقابة المهندسين أو من القوات النظامية أو الاتحادات الفئوية مثل الشباب والمرأة وغيرهم ، بحيث الأصل انهم منتخبون ديمقراطياً من فئاتهم المختلفة وفي ذلك تطبيق لمبدأ الديمقراطية النيابية.
وللوصول إلى مرحلة دولة الرفاهية يتطلب أيضاً إعادة النظر في أمر استراتيجية التنمية الاقتصادية والمنهجية المطلوبة والتي يجب أن تتوافق مع المفاهيم الاجتماعية السائدة في المجتمع بدلاً من إستيراد نظريات اقتصادية من الخارج قد تصلح كلياً أو جزئياً اولا تصلح بتاتاً لمجتمعنا أو لدولتنا .
لقد كان من خلال تجارب الحكم السابقة في السودان أن إنتهجنا نظام الاقتصاد المختلط (النظام البريطاني أوالأوربي عموماً) والذي هو عبارة عن وسيط وبدرجات متفاوتة ما بين مفهوم رأسمالية الأفراد في الاقتصاد الحر (النظام الأمريكي) ورأسمالية الدولة في الاقتصاد المقيد كما في الاتحاد السوفيتي سابقاً . ثم أتت الحقبة المايوية وعملت على تبني مفهوم رأسمالية الدولة ثم لاحقاً تراجعت عنها وعملت على ممارسة النظام المختلط. وفي عهد الإنقاذ الحالي قد تم تبني النظام الرأسمالي وفق منظومة الاقتصاد الحر ولكن ربما شابه بعض الإخفاقات والممارسات السالبة .
عموماً تلك النظريات الاقتصادية لها مدارسها المختلفة حيث إنها تظل نظريات أكاديمية تواجهها كثيراً تحديات التطبيق إستثناءً أو حذفاً أو إضافةً وفقاً للقيم والمبادئ الاجتماعية السائدة في المجتمعات. هذا قد يبرر وجود تفاوتات في تطبيقاتها في أي دولة في العالم حيث إن مدى أي نظرية منها ممتد مما جعل تطبيقاتها مسألة نسبية.
وعلى سبيل المثال نجد أن هنالك مدارس مختلفة في تطبيق مفهوم رأسمالية الأفراد في الاقتصاد الحر مثل المفاهيم المتغايرة التي تتبناها كل من مدرسة الاقتصاد الجزئي والاقتصاد الكلي أو المدرسة المختلطة. فمثلاً في الولايات المتحدة الامريكية التي تتبنى هذا النظام الاقتصادي نجد أن مدرسة جامعة شيكاغو تدعو إلى تحرير الاقتصاد بشكل مطلق – يشمل تحرير شامل لسوق المال وسوق العمل وسوق السلع والخدمات المختلفة- وتعرف بمدرسة النقود أو المال وصادف أن يكون معظم خريجيها ومفكريها يتبوأون مناصب رفيعة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. لذلك نجد آثار مفهوم رأسمالية الأفراد في الاقتصاد الحر متواجد في تلك المنظمتين و ملموس في دول العالم الثالث حيث غالباً ما تكون توصيات الإصلاح الاقتصادي مبنية على تحرير سوق المال وتعويم العملات. ونجد أيضاً في الولايات المتحدة الامريكية مدرسة كينز التي تدعو إلى ضرورة حدوث تدخلات من الدولة لإصلاح مسيرة الاقتصاد بواسطة الآليات المختلفة عن طريق تغيير السياسات النقدية (سوق المال) و تغيير سياسات سوق العمل و تغيير سياسات سوق السلع والخدمات لتخدم القضايا الاجتماعية وتحقيق العدالة بين الأفراد .
ولما لهذه المدرسة من شعبية نجد أن معظم الرؤساء في الولايات المتحدة الامريكية منذ عام 1930م تبنوا مخرجات هذه النظرية- عدا رونالد ريغان او ربما غيره الذين فضلوا تبني مدرسة شيكاغو. ومدرسة كينز تدعو إلى عدم التحرير المطلق للاقتصاد لأن لذلك آثار اقتصادية غير جيدة او محمودة في نظرهم. لذلك نجد كل السياسات الاقتصادية الحديثة في الولايات المتحدة الامريكية تعمل على دعم المزارعين و الزراعة عموماً – وخصوصاً القمح من أجل تحقيق الأمن الغذائي والاقتصادي. ولذلك يصبح القمح و كل منتجاته مدعومة من الدولة لصالح المواطن الأمريكي. وفي تقديرهم إذا ما ترك منتج القمح للسوق الحر فلن يزرع أحد قمحاً وهذا إستثناء منطقي وعملي لمبدأ ضرورة و حتمية تدخل الدولة. وهناك آلية أخرى تأطر لتدخل الدولة في أسعار الكهرباء والمياه والاتصالات وحتى الطيران عبر منظومة لجنة الأسعار المنتخبة من مختصين لتحجيم زيادة الأسعار لتلك السلع أو الخدمات. وهنالك ايضاً تتدخل الدولة لتحديد سعر الفائدة في سوق المال زيادةً ونقصاناً ، وكذلك تحديد أسعار فائدة قليلة جداً ولمدة أطول تتجاوز العشرين عاماً لدعم التمويل العقاري وذلك لتسهيل حصول أي مواطن على سكن مناسب . والدولة أيضاً تدعم التعليم العام الذي قرر أن يكون مجاناً وملزماً، وأيضاً للتعليم العالي بالرغم من دعمه يوجد هنالك تمويل منخفض الفائدة وطويل المدى للطلاب . وللدولة أيضاً قوانين تأطر لمنع الاحتكار- بل و تجرمه. والدولة أيضاً تتدخل بزيادة قيمة ونسبة الضرائب على الأرباح الفاحشة كما في شركات البترول وغيرها . أضافةً لذلك نجد أن الدولة حريصة على تحقيق العدالة الاجتماعية وتقديم دعومات مباشرة للفقراء عبر طوابع الطعام المجانية . والدولة أيضاً تدعم جماعات الرقابة الذاتية مثل جمعية حماية المستهلك وغيرها، حيث تترصد حدوث أي خلل في تطبيق القوانين والسياسات الاقتصادية ، وكذلك حدوث أي غش تجاري أو غيره.
عموماً إن الدولة لا بد ان تتدخل لإصحاح المسيرة الاقتصادية فيما يعرف بمنظومة السوق الحر والاقتصاد الرأسمالي ، ولكن لأي درجة فهذا متروك لآراء المختصين والسياسيين وللوجدان السليم الذي يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية.
إضافة إلى ذلك نجد ان مفهوم رأسمالية الفرد مؤسس هنالك على أساس المجهود الفردي والذي غالباً ما يكون نتيجة ثمرة فكرية مبنية على الاختراع وتقديم منتج بأرخص التكاليف ومفيد للبشرية ، ابتداءً من أديسون إلى بيل قيت. في فكرهم أن رأسمالية الفرد لا يجب أن تبنى على الانتهازية والاحتكار والاستغلال لحاجة المواطنين ، لذلك نجد أن هنالك الكثير من الكتابات الناقدة لثروات روكفلر صاحب الإمبراطوريات البترولية مثل شركات استاندر أويل أوف كاليفورنيا (شيفرون) حيث أنه حقق تلك الثروة عن طريق إكتشافات البترول في الأراضي التي خصصت لأنشاء السكك الحديدية للشركة خاصته.
عموماً رأسمالية الفرد هنالك مبنية على أساس إمتلاك السيطرة القانونية التي تحدد نسبتها قوانين الشركات و سياسات الشركات المختلفة بحيث غالباً ما يكون لأي جماعة تمتلك أكبر النسب القانونية لها الحق في تسيير المؤسسة الخاصة (أي حوالي 51%) أما بقية ملكية الأسهم فهي عامة و متاحة للجمهور فى سوق الأوراق المالية عبر مفهوم يمكن أن نطلق عليه (العمعمة).
أما مفهوم رأسمالية الدولة والتي يتبعها تقييد الاقتصاد الحر بحيث تكون الدولة هي المسيطر على كل الأنشطة الاقتصادية من السلع والخدمات وسوق العمل وسوق المال . فقد تم تطبيقه في إتحاد الجمهوريات السوفيتية (او الاتحاد السوفيتي) سابقاً، وكذلك بشكل مختلف قليلاً في الصين ، ولأسباب سياسية تم تعريفه بالاقتصاد الشيوعي .
والملاحظ أن هذا النمط الاقتصادي هو أسرع وسيلة لتحقيق التنمية الاقتصادية للدول التي تعتبر أقل حظاً في النمو الاقتصادي. فالاتحاد السوفيتي منذ بدأ تطبيقه عام 1917م وحتى عام 1967م قد حقق تنمية اقتصادية وإجتماعية عملاقة بحيث وصل القمر، وكان حتى بداية التسعينات قوة عالمية ضاربة يعمل لها ألف حساب . أما الصين الشعبية حتى الأربعينات كانت دولة ليس لها أي وزن اقتصادي ولكن عند تطبيق هذا النظام الاقتصادي تمكنت من التطور بحيث أنها الآن تطعم وتعالج وتدرس وتسكن جل سكانها البالغ حوالي خمس سكان العالم. وبقليل من التحوير لتلك السياسات الاقتصادية استطاعت الآن أن تتبوأ أفضل اقتصاد في العالم.
إذاً ريادة الدولة للاقتصاد يعتبر من أفضل وأسرع الطرق لتطوير البلدان النامية مثل حالتنا بحيث تقوم الدولة بتوفير الموارد المالية و البشرية اللازمة لقيام صناعات أو خدمات مختلفة أو مشاريع زراعية عملاقة ، وبعد وقوفها على أكتافها والتحقق من نجاحاتها يمكن بيعها للجمهور في شكل أسهم وذلك بتطبيق مفهوم “العمعمة” . علماً بأنه بعد سقوط الإتحاد السوفيتي بدأ تطبيق نفس المفهوم وقد صادف نجاحات ملموسة .
عموماً لا بد من إعادة النظر في أمر السياسات الاقتصادية الحالية بحيث من الأمثل أن تكون الدولة هي رائدة التنمية الاقتصادية وتقوم بأنشاء المشاريع الاقتصادية العملاقة بدلاً من السلبية الماثلة في إنشاء البنيات التحتية وانتظار المستثمرين للقيام بالمشاريع الاستثمارية وهو انتظار طال أمده – وبل سيطول أكثر فأكثر. مثلاً ما الفائدة الاقتصادية التي جناها المواطن السوداني من بناء جسر توتي الذي كلف حوالي 15 مليون دولار ؟ اللهم إلا لفائدة (15) أو (20) الف مواطن من سكان توتي في مقابل استثمار نفس المبلغ في إنشاء مشاريع بيوت محمية تنتج طماطماً أو خضروات أخري أوغيرهم – بحيث تعم الفائدة لكل مواطني ولاية الخرطوم.
فيمكن للدولة مثلاً أن تبيع أسهمها في إستثماراتها في مصانع السكر للجمهور وإعادة استثمارعائدها في إنشاء مصانع سكر أخرى. أو حتى أن تبيع إستثماراتها في مجمع جياد الصناعي أو في كل المشاريع الناجحة وقيام أخرى بديلة لها، وهلم جرا . فإذا كان المشروع ناجحاً فبيع أسهمه مسألة سهلة جداً وتجد من يمكنه شرائها خصوصاً من المغتربين السودانيين في دول المهجر الذين تقدر ثرواتهم بما يزيد عن الأربعة مليار دولار و جلها مستثمرة في الخارج.
ولكن. . . لكي نطمئن هؤلاء المغتربين و نقنعهم بأن استثماراتهم قد تجني لهم أرباح طائلة إذا ما تم استثمارها في السودان لا بد من كسب ثقتهم بحيث نعهد لإدارة المشاريع الإستثمارية أو المصانع القائمة بخبراء مختصين من التكنوقراط المشهود لهم بالكفاءة العالية وحتى ربما بخبراء أجانب. لأن الذي هو شائع وسطهم أو متبع فعلياً هو أننا درجنا على أن نعهد بإدارات تلك المشاريع الإستثمارية أو المصانع القائمة إلى سياسيين ليس لهم خبرات إدارية كافية تقود إلى المزيد من النجاحات و من ثم تحقيق الأرباح العالية – بل والعكس هو صحيح حيث أصاب الفشل الاقتصادي نتيجة لذلك معظم المشاريع الجديدة بمعني إنها لم تحقق النجاحات التي روج لها إبتدأً في القيد الزمني المناسب لما في مثل تجربة مشروع سندس وغيره.
لا بد لنا أيضاً أن نهتم بخلق وتشجيع الكوادر الإدارية والقيادية المميزة باعتبارهم ثروات قومية. وذلك يتطلب أولاً ضرورة الفصل ما بين الإدارة والسياسة حيث لكليهما ضروبه المبنية على قدرات ومقدرات مختلفة ، فليس بالضرورة أن يكون السياسي إداري ناجح وكذلك العكس . ويتطلب ثانياً إلى النظر في السياسات التعليمية الحالية بحيث يستوجب أن تكون موالية و مواكبة لإحتياجات ومتطلبات التنمية الاقتصادية و في مرونة مدروسة . ويتطلب ثالثاً وجود الحوافز المادية والمعنوية المقدرة بحيث لا يمكن أن نعتبر القيادات الإدارية الفذة مجرد موظفي دولة يتبعون للوائح المالية الحكومية الشحيحة، فهذا النمط دلً على فشله في الاتحاد السوفيتي وأيضاً في التجربة المايوية السابقة.
عموماً لا بد من الممازجة ما بين الفوائد التي جناها الاقتصاد السوداني من التجربة المايوية ، وكذلك من تجربة الإنقاذ الحالية وتجنب الإخفاقات و ذلك بتجرد و موضوعية علمية . فمثلاً نظام الدعومات المتقاطعة المطبق في تعرفة الكهرباء يمكن تعميمه لما يحققه من عدالة إجتماعية. فمثلاً إذا ما تم تطبيق نفس مفهومها قبل زيادة أسعار الوقود التي تمت مؤخراً لكفتنا الكثير من شرور المعاناة . بحيث كان من الأمثل أن تكون هنالك أسعار متصاعدة حسب الزيادة في الاستهلاك و الإستخدامات مثل أن تستثني وسائل المواصلات العامة من الزيادة في مقابل ان تزداد اكثر في الإستخدامات الأخري، أو أن نعود إلي نظام البطاقات لأقل كمية ممكنة مثل خمسة جوالين للفرد والتي هي ضرورية للذهاب الي العمل مثلاً فى مقابل فتح منافذ أخرى للسوق الحر لمن أراد كمية إضافية وفي ذلك عدالة اجتماعية.