عشقت البحر أخيرا? عشقت المهدية !

بروين حبيب
أعود من تونس وبخور المهدية عالق بي? تحط بي الطائرة على أرض دبي ولا تزال وشوشات المهدية في أذني، أقلب صفحات أجندتي الحافلة بمواعيدي التي تنتظرني لبدء برنامجي التلفزيوني الجديد «أمّة تقرأ» والشعر يضرب كأمواج شاطئ المهدية في رأسي.. ترفض المهدية أن تغادر جوارحي حتى حين انغمست في العمل، وعدت للركض اليومي وانشغالاتي بين فريق عملي ومواد برنامجي. في قلب دوامتي التلفزيونية شعرت بأن «الطفلة بروين» تاهت في تلك الشوارع الضيقة الجميلة ووجدت شيئا من ذاتها هناك. وليس سهلا أن تترك جزءا من روحك في مكان أحببته واستولى عليك دون أن تفهم سر تعلقك به.
بالتأكيد ليس الاحتفاء الحار بي من طرف والي المهدية ومنظمي مهرجان الشعر فيها أهل الساحل الساحرين، أهل المهدية الأصيلين فقط، وليس لقاء الأحبة فقط من شعراء وأصدقاء التقيت بهم بعد شوق. يحدث لي هذا كثيرا، كلما زرت مدينة جديدة في إطار شعري أو أدبي أو فني، فالمهدية لها طقوس أخرى تشبه الطقوس التي عشتها في المغرب منذ سنتين.. لكن شيئا من روحي ظل هناك بكل صدق. القائلون إني ربما وقعت في الغرام أصابوا، فهذه المدينة استولت على قلبي كما يفعل فارس نبيل وفاتن بصبية عذراء القلب والروح.
عدت مغرمة من تونس إذن، بمدينة ترتاح على شاطئ البحر الأبيض المتوسط منذ آلاف السنين، مغرمة بكل ذلك التاريخ العميق الضارب إلى أبعد من الزمن الفاطمي.
المهدية ملحمة طويلة شاركت في نسجها جنيات الشعر من كل أصقاع الأرض، وإطلالتي الأولى على بحرها كانت شريطا كاملا وسريعا لمئات القرون والحقبات. وحدها قطع الفخّار المشوي تعرف تفاصيل المهدية وتاريخها المليء بوصفات العشق والصلاة ورقصات صعود الروح لخالقها وعودتها لأرضها المباركة. حين فتحت نافذة الفندق الذي أقمت فيه تحوّل قلبي إلى نورس وطار بعيدا، عانق السماء والبحر الهادئ وكل ذلك الزخم الشعري الذي قررت المهدية أن تبقيه بين تضاريسها الساحرة بعد كل مهرجان شعري.
لقد قررت هذه المدينة أن تمشي على درب القصيدة إلى ما لا نهاية، ويبدو أنها راهنت على الشعر والشعراء قبل أن يتهاووا عند قدميها خائرين أمام كل ذلك الجمال. وقد تساءلت وذلك البهاء الخارق يحضنني هل اختارت المهدية الشعر أم أنه هو من اختارها؟ وماذا كانت قبل الشعر؟ وقبل أن تسال «لماذا الشعر الآن؟» لماذا وأنا أشكر الناقد التونسي الذي كان يوجه الدعوة لي بشكل يومي، يتابع جدولي التلفزيوني الذي بدا ضئيلا أمام قامته النقدية والإنسانية.. الناقد حاتم الفطناسي، الذي غدا صديقا عزيزا أضفت اسمه إلى جامعتي الكبرى من ضيوف عرب، منهم التوانسة الكبار الذين أعجبت بتجاربهم أمثال الشاعر المنصف الوهايبي والشاعرة جميلة الماجري والموسيقي والأكاديمي محمد زين العابدين وزير ثقافتهم اليوم، واستضفت بعضهم في التلفزيون خلال مشواري في الإعلام المرئي أمثال الشعراء، محمد الصغير أولاد أحمد ومحمد الغزي ولطفي بوشناق وآمال مختار وآمال موسى وهند صبري وشوقي الماجري و..و مع حفظ الألقاب .وأعتقد أن من لم يزر المهدية لن يجد الجواب الكافي والشافي.
تفاصيل الإجابات التي قدمت خلال جلسات المهرجان كانت لتختلف لو أن مدينة أخرى احتضنت المهرجان، فقد كانت لروحانية الأمكنة دوما تأثيرات إيجابية على الشعراء، والمهدية واحدة من هذه الأمكنة التي تخفي أسرار الجذب والأسر العاطفي.
غير ذلك، جمهور المهدية ذوّاق للشعر، وقد احتفى بشعراء تونس وبنا، نحن القادمين، من كل صوب وحدب من البقاع العربية. وإن كنا قد قدمنا تحديدا لتكريم العملاق محمد بنيس، إلاّ أن العرس الشعري تحوّل إلى تكريم جماعي للشعراء وللشعر في حد ذاته.
موج من المشاعر التي لم أقو على وصفها حين كرمت بين جموع من الشعراء الكبار، انتابني خجل وأنا أعتلي منصة التكريم، أنا التي في داخلي طفلة ببرنسها الأمازيغي الأحمر تائهة بين شوارع المهدية، لم أستوعب أن يفاجئني الشعر بتلك الهدية لأصبح بحجم شعراء سبقوني بعمر طويل في قول الشعر وقرضه وأعتلي المنصّة قبلهم.
شكرا يا الله .. ففي تلك اللحظة توقف الزمن قليلا، تفتحت أجنحتي وحلقت فوق أزهار الشعر كلها وأنا بين صديقين عزيزين بحجم محمد بنيس الظاهري القرطبي وصبحي حديدي الدمشقي الفرنسي.. كنت بين قامتين بين قوسي قزح، طرت بين الأعالي والأعماق التي احتضنتني بحب..
أمام جامع الزيتونة شعرت بالرهبة وسأبقى شاكرة للصديقة الغالية صوفيا الهمامي لأنها أخذتني في رحلة ليلية عجيبة لأرى تونس القديمة، ليلا تخلع المدن زينتها المصطنعة وقد تصبح مدنا شرسة ومخيفة أو هادئة وحميمة. أمّا المهدية فمدينة تخجلنا حين تواجهنا ليلا بوجهها العفيف السمح وبصلوات خافتة تشبه اعتكاف النُّسّاك وخلوة الشعراء، حتى المقابر في المهدية حديقة من البياض والزرقة الجميلين، وحتى هذه المقابر زرتها، ولحظتها عادت إحدى عبارات واسيني الأعرج بوهجها المخيف وهو يقول لي: «بروينة إعملي واستمتعي بالحياة، نهايتها قبر بارد» قالها وغاب عني في الزحام، حيث لا أحد أفتقده رغم كل الابتلاء والامتلاء به، رغم العدم المقبل لا محالة ?شعرت بالفرح لأني كائن معجون بالأدب، فلا شيء صنع سعادتي بقدر الأدب والشعر والفن. شعرت بالرهبة في حضرة سيدي جابر وبالفرح بمعية الشاعر الجميل محمد بنيس، لكن الشعر باغتني مثل شلال لا أول له ولا آخر، اجتاحتني مختارات من كتب العشق طوق الحمامة، قلب الحب، أحبك..أحبك والبقية تأتي، سرير الغريبة و..و.. وأخيرا كتب الحب.
ألقيت القصائد يومها وكأنني أمام جمهور عظيم وليس أمام زميلاتي في المدرسة أو أساتذتي في الجامعة أو أمام جمهوري العربي من دبي إلى العالم، لم تغادرني تلك الومضات الشعرية.. لم تنته بعد وحتى الآن وأنا أكتب لكم مقالتي، عالقة في روحي مثل تميمة حظ، أو مثل «خريطة طريق.
للشعر أحيانا مفعول المعجزة، فلا تزال هذه الأبيات تمنحني القوة وتحضرني حين تعصف بي مشكلة ما من مشكلات الحياة الصعبة. وأنا طفلة عرفت تونس من خلال الشعر إذن؟ وأنا صبية على عتبات الجامعة عرفت الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، كما عرفه كل العرب وأبناء جيلي وأجيال سبقتني لم تسمع بحاكم اهتم بالتعليم وترقية المرأة وتربية مجتمع مثقف وواعٍ، أحببت الرّجل حتى زرت تونس لأول مرة منذ سنوات فأدركت ما معنى أن يفرض بالقانون احترام المرأة، وأدركت أيضا معنى مقولته الرائعة التي أثرت فيّ كثيرا حين سمتعها، فيما معناه أنه على الرجل أن يرقى بمستواه لمستوى المرأة ويتحكّم في غرائزه ويهذب أخلاقه مثلما فعلت هي، لأنها مثله تملك مشاعر وغرائز وتعجب بالرجل لكنها أكثر وعيا منه. ثورة الحبيب بورقيبة أتت ثمارها في تونس، وبقي العالم العربي يتخبّط في براثن التخلف وظلم النساء بفارق زمني مخيف.
زرت متحف هذا « السوربوني» المتميز الذي حظيت به تونس فتربع على عرشها عشية استقلالها، وصنع منها لؤلؤة الشمال الأفريقي الصغيرة والثمينة، لتتميز عن باقي العالم العربي الذي ضاعت بوصلته حتى بين أبنائه، فلم يعد يفرّق بين أنثى وذكر، وفيما تونس كانت تمشي شامخة برؤوس أبنائها المرفوعة بالعلم، كانت مجتمعاتنا العربية تعرج، وتتعثر وتسقط بذكوريتها الطاغية.. كان علامة فارقة في التاريخ السياسي العربي وفي حضرته أيضا أدركت ما معنى أن يعيش شخص في ظل حاكم مثقف، قوي البصر والبصيرة.
المهدية .. آه يا قلبي
يا مدينة وقعت في عشقها، سلام لا تهادنه القصائد
سلام كومضة الحب الأولى ?
سأعود إليك بباقات الشعر قريبا.. وإن خانتني الظروف ولم أعد فانثري قبلاتي في كل شبر من تونس الخضراء.. وسلامي للموتى الذين يحرسون البحر ..
لقد وقعت أخيرا في عشق البحر.. شكرا أيتها المهدية، أيتها الأكثر من مقبرة بحرية وعاصمة قديمة للفاطميين، أيتها المعتقة كنبيذ لا يؤرخ على حد شاعرنا قاسم حداد..
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
القدس العربي