حالة استفهام……أم اختراق المسكوت عليه؟

حالة استفهام……أم اختراق المسكوت عليه؟

محمد التجاني عمر قش
[email][email protected][/email]

يبدو أن أجهزة الإعلام السوداني قد بدأت تخترق جدار الصمت وتلج إلى مجال “المسكوت عليه” في المجتمع السوداني. وهذا لعمري توجه محفوف بكثيرمن المحاذير والمخاطر والمشاق،بيد أنه مطلوب؛إذا أردنا تناول حياتنا بشيء من الشفافية لا يخدش الحياء ولا يفضح أحداً أو جماعة؛ وذلك حتى نضع أسساً قوية لنهضة اجتماعية سليمة وخالية من كل التشوهات التي ظلت تمارس بحجة أن “هذه أمور يجب السكوت عنها”. فقد تناولت الصحفية نعيمة بيلو في تحقيق صحفي منشور مسألة “التنميط النوعي” وفتحت بذلك الباب أمام مقدمي البرامج التلفزيونية لطرح قضايا كانت تعد من المحذورات مثل الحديث عن “الواقي الذكري” وما يقترن به من ممارسات صارت الآن حديث المدينة، خاصة في أوساط الشباب وطلاب الجامعات. فقد “تناول برنامج (حتى تكتمل الصورة)،من إعداد وتقديم الأستاذ الطاهر التوم، في قناة النيل الأزرق الفضائية، هذا الموضوع على الهواء مباشرة، بمشاركة عدد من المختصين في المجال الطبي والاجتماعي والدعاة، تداعوا لمناقشة موضوع الحملة التي تقف من ورائها منظمات عالمية تهدف لإشاعة وتشجيع الرذيلة في مجتمعنا!”.وفي مساء الأربعاء 19/9/2012، قدمت الإعلامية البارعة نسرين النمر الحلقة الأولى من برنامجها(حالة استفهام)،التي حشدت لها نخبة من أهل العلم والاختصاص، في كافة المجالات،الطبية والقانونية والشرعية والنفسية، وعرضت حالة تتحدث عن نفسها بعد أن أجريت لها عملية “تنميط نوعي”. هذا البرنامج، على ما يبدو، سوف يسير في اتجاه رفع النقاب عن كثير من مثل هذه الحالات،وهذه الحلقة بالذات تعد سبقاً إعلامياً، وهي واحدة من أجمل ما قدمت هذه القناة؛ إذ استطاعت مقدمة البرنامج الوصول إلى أهل الاختصاص في كل الجوانب. وقد قدم المشاركون معلومات قيمة وهادفة وفي صلب الموضوع, تمس حياة قطاع كبير من الأفراد والأسر التي يعاني بعض أفرادها من هذه المشاكل، وهي معلومات تقال لأول مرة أمام الملأ، ويستطيع أن يفهما كل مشاهد،وهذا هو المهم والمطلوب، لأنها ربما تساعد في حل بعض العقد وبالتالي تسعد الكثيرين.
عموماً، هنالك أمور كثيرة تعد من المسكوت عليه في المجتمع السوداني، في الثقافة والعادات والتقاليد والتاريخ والأدب والفن، ولا أريد ذكر السياسة لأن الحديث عنها ظل شبه محرم، بحكم الوضع القائم في كثير من الحقب سواء في الماضي أو الحاضر، ومقص الرقيب يزيل كل ما يعتقده مساس بالأمر السياسي حتى ولو كان على أدنى المستويات وبطرف خفي . فقد ذكر أحد الذين شاركوا في الحلقة المشار إليها أنهم لم يستطيعوا مواصلة العمل في بعض المسلسلات الدرامية التي تعالج مواضيع باتت تؤرق فئات كثيرة من المجتمع، خاصة في المدن الكبرى والعاصمة المثلثة على وجه التحديد، ولذلك ظلت الحالة على ما هي عليه، وليس أدل على ذلك مما يدور من حديث عن ضبط أحد كبار المسئولين مع بعض الفتيات في رمضان الماضي حتى وصل الأمر إلى المحاكم! نحن لا نريد أن ندفن رؤوسنا في الرمال ونترك الأمور هكذا حتى يبلغ السيل الزبا، أو كما يقال : “يطيح الفاس على الراس” ثم نأتي ونقول هذا أمر يجب السكوت عليه، ما هكذا “تورد الإبل” أوتعالج الأمور، بل علينا مواجهة الواقع بكل حنكة وربما شجاعة إذا لزم الأمر.
إنّ أجهزة الإعلام تمثل الكتيبة المتقدمة في هذا التوجه، ولذلك يجب إتاحة الفرصة لها لاستضافة أهل الخبرة والاختصاص، خاصة من مراكز البحث والجامعات، والجهات الأخرى مثل مركز التنوير المعرفي و أتحاد الكتاب السودانيين والكيانات الثقافية ذات الصلة، لمناقشة شئون الحياة الاجتماعية والثقافية،وتقديم كل ماهو مفيد وصحيح. يأتي هذا في وقت تستعد فيه البلاد لوضع دستور جديد نأمل أن يشتمل على نصوص تتيح قدراً من حرية التعبير لا يتعارض مع الأمن القومي للدولة، ولا مع المصلحة العليا للبلاد، وفي نفس الوقت يفتح الباب لتناول المواضيع العامة بكل شفافية. نحن لا نريد لهذا التوجه أن ينحصر فقط في الشؤون الاجتماعية، بل يجب أن يتعداها إلى ما هو أوسع من ذلك، ليشمل الحياة السودانية برمتها في عدة نواحي.
إن الذين كتبوا تاريخ السودان عمدوا إلى تمجيد بعض الحقب حتى صارت كأنها تمثل تأريخ البلاد كله؛فمثلاً نعلم أن فترة كالمهدية، قد كانت لها كثير من الجوانب المظلمة، بينما سلطنة الفونج التي وضعت أسس الهوية السودانية لأنها قد جمعت مكونات المجتمع السوداني، من عرب وأفارقة، في حلف سياسي لأول مرة,ودخل في عهدها التصوف الذي يعتبرأحد أهم روافد الثقافة السودانية، وأدخلت الزي السوداني الذي يتمثل في “الجلابية” والعمامة،بعد أن علّمت الناس زراعة القطن، ومدت حبال الوصل مع مراكز المعرفة والعلم في الحجاز ومصر، حتى أقيم رواق السنارية، وما نتج عن ذلك من تدفق للعلماء نحو البلاد، وبسطت الأمن والعدل على مساحة واسعة، وظل الحكم فيها بالشرع الحنيف، دون تهميش لجهة أو قبيلة أو جماعة،لا يعلم عنها إلا النذر القليل. بكل تأكيد، هذا إجحاف أضر بالتطور السياسي للسودان، نظراً لما ترتب عليه من تحركات وممارسات سياسية لا تزال تؤثر على واقع الحياة، وتسبب شيئاً من عدم الاستقرار،بل إنها حرمت الناس من إدراك بعض الوقائع التي كان من الممكن أن تسهم في تشكيل وجدان الشعب السوداني، وبذلك تجنّب البلاد كثيراً من الاضطرابات التي تجتاح ما تبقى من السودان الآن. فعندما سئل أحد الكتاب عن طريقة تأليف مناهج التأريخ قال: لم أكن أكتب تاريخاً فحسب، ولكن بحكم عملي كموظف في وزارة المعارف، كان مطلوباً مني أن أصنع أبطالاً قوميين ليكون التاريخ مصدراً للتربية الوطنية! يجب أن نعيد كتابة تاريخنا وإلا سيظل كثير منه مسكوتاً عنه.
ولو كانت اتفاقية السلام الشامل أو “نيفاشا” قد طرحت للنقاش، ولوعلى نطاق ضيق جداً في أوساط النخب والمثقفين مثلاً، قبل تنفيذها وتنزيلها على أرض الواقع، لوجدت من النقد البنّاء ما يمكن أن يعدّل في كثير من نصوصها، ولكنا قد خرجنا بأخف الضررين. ولكن نظراً لانعدام الشفافية في الممارسة السياسية، والتعامل مع الأمورعلى طريقة “المسكوت عليه” هانحن الآن نجني الثمار المرة، ونعض أصابع الندم على ما ترتب من نتائج وخيمة على تلك الاتفاقية، وهذا ما يجعلنا الآن نخشى أن يتمزق الوطن تنفيذاً لمخطط السودان الجديد، بقيادة عملاء الغرب وأذنابه، استناداً على استحقاقات نيفاشا.وهل يا ترى ستوضع مخرجات مفاوضات أديس أبابا ضمن نطاق المسكوت عليه أيضاً! أم أن أجهزتنا التشريعية سيكون لها دور يحفظ ماء وجهها؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..