“الناقد عيننا الثالثة” الروائي أسامة رقيعة.. مشاركة فاعلة في معرض بيروت للكتاب

الخرطوم، بيروت – أفراح تاج الختم
للنقاد دور في نماء الإبداع وازدهار دولتِه، فهم، بما لهم من آلة قرائية، يكشفون عمّا في النصوص من هَناتٍ ومحاسنَ قد تَخفي عن كتّابِها، ومن ثمة هم في حلبة الكتابة ذاتها، وعليهم مسؤولية تطوير الذائقة الفنية لدى عموم القراء والمتلقين هكذا يرى الكاتب والروائي السوداني أسامة رقيعة في ورقته (الناقد عيننا الثالثة)، التي قدمها بمعرض بيروت للكتاب في دورته الستين تحت رعاية دولة رئيس مجلس الوزراء في ندوة (جدلية النقد والإبداع) التي قدمت الأسبوع المنصرم، وقد شاركت في المعرض أكثر من (180) دار نشر لبنانية و(75) دور عربية.
رافق المعرض برنامج ثقافي شمل نحو ستين ندوة ومحاضرة على مدى أربعة عشر يوماً، كما تم تكريم رموز ثقافية وفنية، وتم الاحتفاء بمؤسسات لبنانية كان لها دور في رعاية حاجات المجتمع اللبناني، وقد أعلنت بيروت عاصمة عالمية للكتاب للعام 2009م من قبل اليونسكو، حيث كانت لبنان هي المبادر الأول في إطلاق معارض الكتاب على مستوى الشرق الأوسط، وقد نظم المعرض في نسخته الأولى في عام 1956م، ندوة جدلية النقد والإبداع التي نحن بصدد الحديث عنها شارك فيها كل من دكتور جورج زكي وهو أكاديمي وشاعر لبناني، يعد هو أول من أدخل مقرر الزجل اللبناني إلى مناهج التدريس في الجامعات اللبنانية والدكتور/ عبد الدائم السلامي: وهو أستاذ جامعي من تونس، وهو ناقد جريء صاحب مدرسة حداثية في النقد المعاصر، أما الأستاذ/ علي نسر، فهو أيضا شاعر لبناني وأستاذ جامعي، وكذلك ناقد عُرف بجرأة الطرح في مقالاته النقدية.
بين القانون والرواية
الكاتب أسامة رقيعة مقدم هذه الورقة هو خبير في الشؤون القانونية وروائي سوداني له إصدارات عديدة في القانون، وتتنوع كتاباته الأدبية بين أدب الرحلات، والقصة القصيرة، والرواية، وله العديد من مقالات الرأي أيضا في عدد من الصحف الخليجية والعربية في مخلتف المجالات الفكرية والاقتصادية والقانونية، ويتفاعل مع كتاباته العديد من النقاد العرب والصحافيين والقراء، وأدارت الندوة الدكتورة والأديبة اللبنانية نتالي الخوري، وهي أستاذة جامعية وكاتبة جريئة وصاحبة مبادرات في المشهد الثقافي اللبناني.
صراع لا ينتهي
قدمت نتالي الخوري للندوة بتساؤل حول لماذا نطرح جدلية النقد والإبداع، حيث أوضحت أن ذلك يعود إلى نشوء الإشكالات النقدية التي تقولب العمل الإبداعي، وتجعله اجترارا لأعمال المذاهب النقدية، ولا تفسح له آفاق التمايز والتحليق في فضاءات أكثر حرية، كما أن الصراع بين مناهج النقد النصي الداخلى مع مدارس النقد الخارجي صراع لا ينتهي بين مناصري كل منهما، ثم عادت نتالي للتساؤل بأكثر مما سبق، داعية إلى إيجاد أطروحات بديلة لتؤسس إلى منهج نقدي إبداعي تجديدي وتحديد ما هو المطلوب وبيان على من تقع المسؤولية، وهل هي على الجامعات أم العاملين في المناهج أم الصفحات الثقافية أم رواد الثقافة وكتابها أيضا، وقد قدم الروائي أسامة رقيعة (السودان) ورقة بعنوان: (الناقد.. عينُنا الثالثة).
ابتدر أسامة حديثه بقوله إنه منذ أن ظهرت الكتابةُ بوصفِها رسمًا للمنطوق، نشأ نزاعٌ خفيّ بين الكاتب والناقد حول مَن يمتلك أهْلِيةَ تدبيرِ معنى النصّ، أو مَن يمتلك سلطةَ بناء المعنى فيه، وهو نزاعٌ نجد له فاعليةً في تاريخ الآداب العالمية ما يزال صداها يتردّد على أذهاننا إلى اليوم، ويضيف أسامة الحق أن هذا النزاع يمثّل قوّة دفع لحركة الإبداع، ولا أرى في استمراره إلاّ دَلالةً على تفلّت المعنى من الفهم، فمعنى النصّ ليس (كميةَ دلالاتٍ) جاهِزةً ومتكشِّفةً، وإنما هو كامن في النص في شكل احتمالاتٍ وممكناتٍ. ومن ثمة لا يكون للنص معنى إلا بالقراءة.
تحريض القارئي
ويشير أسامة بقوله إنه في القراءة يَحْضُرُ القارئُ: القارئ العاديّ (العموميّ)، والقارئ المختصّ (الناقد)، يَحْضُرُ ليُحْضِرَ المعنى في النص: أيْ يمنحُه كينونةً حاملةً لطاقةٍ تأثيرية في محيط تلقّيه، ويصف أسامة الكاتب ويقول إنه يزرع معناه في النصّ ولا يُسمّيه، لا يقول مثلا: في هذه الجملة من نصّي، أو في نصّي كلّه، أعني كذا وكذا من المعاني والقيم، مَن يسمّي المعنى ويُخرجه للناسِ من النصّ هو الناقد، ويقول رقيعة كثيرًا ما ألتجئ إلى ناقد رواياتي لأتبيّن ما فيها الغمن معانٍ، فهو بالنسبة إليّ عينٌ ثالثةٌ أرى بها في نصّي ما لا تراه عينايَ الاثْنَتانِ، إنه يجمع عناصر المعنى المبثوثة هنا وهناك في النص ليُشكِّلَها كيانًا معنويًّا قابلاً لأنْ يُسمَّى ويُشارَ إليه. وهو إذْ يفعل ذلك إنما يفعله بكنه جمالي وأخلاقي ولغوي متحرِّرٍ من سلطة علاقته بالنصّ ومن سلطة علاقته بسياق كتابته (وهو ما لا يقدر الكاتب من التحرّر منه)، وعلى هذا الأساس بنيتُ علاقتي بالنقد والنقّاد، ويوضح رقيعة أن للنقاد دور في نماء الإبداع وازدهار دولتِه، فهم، بما لهم من آلة قرائية، يكشفون عمّا في النصوص من هَناتٍ ومحاسنَ قد تَخفى عن كتّابِها، ومن ثمة هم في حلبة الكتابة ذاتها، وعليهم مسؤولية تطوير الذائقة الفنية لدى عموم القراء والمتلقين.
وظيفة جمالية
ويستطرد رقيعة ويقول عليّ أن أشير في هذا الشأن أيضًا إلى أن النقد، حين يحيد عن وظيفته الجمالية والأخلاقية، يصير مكبِّلاً لاجتهادات الكتّاب، ومسيِّجًا لها، ومانعًا عنها كلّ رغبةٍ في التجديد، ويقول أسامة عنه إنه ّ لم يختر أن يكون كاتبا بل إنه كل ما في الأمر أنه ومنذ بواكير الصبا وجد في نفسه، على حدّ ما يجد غيره، نزوعا إلى الكمال والجمال ومحبة الآخرين، ويقول أسامة كان هذا النزوع يدفعني نحو تأمل الوجود البشري وما يتصل به من أقدار ومصائر تمثّل جميعها مقامات تتصادى فيها نوازع الخير ونوازع الشر. فوجدتني أكتب ذكريات (مدام س)، وزهور البلاستيك، وأحداث منتصف النهار، وخواطر وترحال في أدب الرحلات، والوتر الضائع، واللحن المفقود، وهي كتب أناقش فيها أسئلة وجودي في الكون بكلّ خطاباته الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهذه الأسئلة هي التي مثّلت محورَ لقائي بعدد كبير من النقاد والمتلقين، ولا أنكر أنني استفدت كثيرا من قراءاتهم لنصوصي، ويشير أسامة بقوله حينما كتب الدكتور عبد الدائم السلامي عن روايتي (اللحن المفقود) تنبّهتُ لأهمية الإنصات إلى المكان بوصفه فاعلا سرديًّا يؤثّر في نفسية الشخصية وفي سلوكها وفي اختياراتها القِيَمية، وحينما كتب يونس الشيخ تعلمت أهميةَ اللغة النظيفة – أو كما سماها هو لغة الأَسْرِ- في صفاء تواصل النص مع قارئه، كلّ هؤلاء النقاد أفادوني وشاركوني فعلَ الكتابة، أعني فعل صراع الكتابة مع الواقع، وصراع المعنى مع الفوضى، بل إني أشعر بأن هؤلاء النقاد – وهو ينحازون إلى بهجة النص- قد انحازوا إلى الكتابة باعتبارها ملاذا لنا آمنا من عُنف الواقع، ويعترف أسامة ويقول لا أخفي كبير اهتمامي بما يقوله القراء في نصوصي، فمعهم، وعبرهم أيضا، أتلمس نبضَ كتاباتي وهمسَ معانيَّ في خوفها وضعفها وهيجانها، فقد عرفتُ مثلا أن “أسامة رقيعة لا يعرف الإسهاب في الحديث لأنه يتقن انتقاء المفردة المناسبة للحالة الشعورية الموصوفة” كما جاء بإحدى القراءات النقدية، وأنّه “لو لم يكن أسامة رقيعة روائيا لكان (صائغ مجوهرات)، لأن الصائغ يقدِّر قيمة ما لديه ودقيق جدا في ميزانه”، كما قال ناقد آخر، وتارة أوقن أكثر بأنّ الصدق في الكتابة يمثّل جسرَ العبور إلى القارئ، وهو ما شدّد عليه أحد النقاد في قوله “صدق الكاتب وروحه التي تحسها في الرواية يفرضان عليك إحساسا بأنك أنت من كتبتَ نصَّها أيضا وليس هو فقط”.
اليوم التالي