قصتهم أغرب من الخيال حي الغابة.. البؤساء يختارون مكب النفايات مسكناً (2 – 2)

الرعاية الاجتماعية: لم نسمع بهم من قبل وسوف نسجل لهم زيارة ميدانية
محلية الخرطوم: الحي يصنف ضمن السكن العشوائي وسنعمل على إزالته
مجلس البيئة: مخاطر صحية عديدة تحيط بسكان الحي
تجوّلت فيه: مياه النيل مبارك
أصدق تعبير لتجسيد واقعهم أن نصفهم بالبؤساء، فربما إذا رأى أحدنا صورهم على التلفاز لحسب أنهم رعايا دولة منكوبة تعرضت لهزة أرضية عنيفة أو سيول جارفة، أو أنهم ضحايا مواجهات عسكرية شرسة ودموية أحالت استقرارهم الى تشرد، ربما يعتقد من يراهم أنهم وافدون من دولة جارة عصفت بها الأقدار وأنهم لم يجدوا ملاذاً آمناً غير المكان الذي يقطنونه، كثيرة هي التوقعات والفرضيات والاحتمالات، ولكن الواقع يؤكد أنهم مواطنون سودانيون كما تثبت سمرتهم ومستنداتهم، وكما توضح مفرداتهم الممزوجة بالحسرة والأسى، السؤال من هم وأين يقطنون، هم كما أشرنا من بني جلدتنا، ويقطنون في حي لا تعرفه حتى الجهات الحكومية.. أطقلنا عليه نحن من خلال هذه الجولة، اسم “حي الغابة”، والغابة هي المطلة على النيل الأبيض التي تقع جنوب كبري الفتيحاب. ذهبنا هناك فألجمتنا الدهشة، حينما وجدنا سكاناً وسط الغابة وأكوام النفايات.
البسطاء ــ التعساء
قد لا يعلم الكثيرون أن المسافة التي تقع بين كبري الفتيحاب الى نهاية المنطقة الصناعية من الناحية الجنوبية والتي تقع علي تخوم الضفة الشرقية لمجرى النيل، يوجد بها سكان اتخذوا الغابة ومكب نفايات المنطقة الصناعية موطنًا ومستقراً لهم، لم يقطنوا في هذه المنطقة من أجل الاستمتاع بغروب الشمس وهي ترسل أشعتها لترسم لوحة سريالية فائقة الجمال، ولم يختاروا السكن وسط النفايات والقاذروات للاستمتاع بجمال وهدوء الغابة، بكل بساطة أنهم وكما أكدوا لنا أنهم مجبرون على هذا السكن الذي لا يحترم إنسانيتهم، والغريب في الأمر أنهم يدفعون أجرة شهرية لمبانيهم القشية لمن يدعون امتلاكهم الأرض، أكدوا أنهم ظلوا يقطنون هذا المكان منذ ثلاثين عاماً، إذن دعونا نتلمس كيف يعيش هؤلاء البسطاء التعساء وسط النفايات وضجيج المنطقة الصناعية؟
مائة جنيه للراكوبة
توجهت نحو راكوبة تقع جوار مصنع طوب، وتجاور أيضاً ورشة سيارات. هنا تخيلت حجم معاناة من يقطنون بالراكوبة بسبب الإزعاج الذي يستمر طوال ساعات النهار. وهناك وجدت العم أحمد متكئاً على ظهره شارد الذهن، بينما بدت الراكوبة منظمة بعض الشيء حيث تم وضع ثلاثة سراير بداخلها. طرحت عليه فكرة الحديث لـ(الصيحة) فسرد قصته قائلاً: حضرت من أحد أقاليم السودان بعد أن ضاقت علينا الأرض بما رحبت بسبب الفقر والتردي الاقتصادي، ومنذ عشر سنوات أعمل هنا في مزرعة أبقار، وأسكن وسط هذه النفايات، والسبب هو أن صاحب المزرعة يتحصل منا مبلغا متواضعاً نظير السكن وهو مائة جنيه للراكوبة الواحدة، وأضاف: لا أقطن هنا وحدي فمعي أسرتي وشقيقتي الأرملة وأبناؤها.
قلت له ماذا تفعلون حينما يرتفع مسنوب النيل الأبيض فقال: لا شيء، فقط نعمل على ترحيل الرواكيب الى منطقة عالية ثم نعود مجدداً بعد انخفاض المنسوب، وقال إنه يدفع شهرياً مبلغ 300 جنيه قيمة إيجار ثلاث رواكيب لزوجتيه بالإضافة إلى شقيقته الأرملة، وأشار إلى أن الأوضاع الاقتصادية هي التي تجبره على العيش في مكب النفايات، وشكا من تعرضهم لمضايقات من الشرطة بسبب شكوى أهل الرميلة من مساكنهم التي يعتبرونها عشوائية، ويلفت إلى أنه لم يسبق أن زارهم مسؤول من حكومة الولاية أو ديوان الزكاة، معتبرًا أن عدم التعليم من الأسباب التي جعلته يقطن في مثل هذه المنطقة بالإضافة إلى الفقر
فاضت عينا العم أحمد بالدموع، وهو يندب الحظ الذي جعله يقطن وسط أكوام النفايات، مبيناً أن أصحاب المزارع الذين يستأجرون منهم مساحة الرواكيب كثيراً ما يطالبونهم بإزالتها وأنهم لا يجدون غير التوسل إليهم لتركهم في حالهم وموافقتهم على زيادة قيمة الإيجار الشهرية، ومضى يقول: إن أصحاب المزارع يريدون الاستفادة من أراضيهم لتشييد مشروعات أخرى ولكن ليس أمام السكان سبيل غير البقاء في الأرض، وكشف عن أن كل الشباب في المنطقة يعانون من البطالة وأن نسبة كبيرة من الأطفال تسربوا من المدارس بسبب فقر أسرهم، وقال إن وجودهم في الغابة رغم مخاطرها بات أمراً عادياً بالنسبة لهم.
وقبل أن أغادر توافد إلى الراكوبة عدد من أصدقاء العم أحمد الذي سألته عن مراسم الزواج في الحي الذي يقطنونه فضج الحضور بالضحك حتى أنني شعرت بالإحراج وسألني أحدهم: هل تريدين زوجاً، فقلت له لا أريد، فأكدوا أن منقطتهم التي ليس لها اسم كثيراً ما تشهد مراسم زواج وأن كل المطلوب من العريس تشييد راكوبة في الغابة أو فوق تلال النفايات.
شيخ الغابة
لا أدري لماذا تذكرت – وأنا في تجوالي ذاك – المناهج الدراسية التي أخبرنا إبان سنوات الدراسة بأن للغابة ملكاً وهو الأسد، ولكن لم نجد في تلك المناهج ما يقول إن للغابة شيخاً.. ففي ذلك المكان الذي يقع داخل الغابة المطلة على النيل يوجد شيخ يدير المكان بل ويملك حق تأجير الرواكيب لمن يريد السكن في المنطقة، هذا ما عرفته من متوكل الذي لم يقل لي شرًا أو خيراً عن شيخ الغابة، ومضى يشير إلى أنه حضر الى الخرطوم لعلاج ابنه إلا أنه لم يتمكن من البقاء مع أقربائه فاختار استئجار راكوبة بالغابة.
أما عبد الرحمن آدم فقد أشار إلى أنه يعاني من مرض الرطوبة ورغم ذلك يقطن بالقرب من “البحر” الذي يشك بأنه السبب في إصابته بالمرض، كاشفاً عن أنه يعمل مزارعاً ويقطن في الغابة.
مشهد غريب
بعد أن استمعت إلى عدد من المواطنين توجهت صوب وسط الخرطوم، وفي الطريق تملكتني الحيرة من مشهد الأطفال والشباب القاطنين في المنقطة التي دعونا نسميها “حي الغابة”، ذلك أنهم ? الأطفال – يلهون ويلعبون ويركضون، وسط ركام البؤس والشقاء ويتبادلون القفشات وسط تلال النفايات، كنت أنظر إليهم وأرى أطفالاً في سن التعليم يرعون أغناماً وآخرين يصطادون الطيور، فربما هي القدرة على التكيف والتصالح مع هذا الواقع، ولكن هذا نسَفه ما جعلني أتساءل في دواخلي “أين الدولة منهم؟!”.
حي خارج معرفة السلطات
لمعرفة هل سقط سكان حي الغابة عن أجندة الحكومة أم إنهم غير مدونين في قوائمها، توجهت صوب وزارة الرعاية الاجتماعية بولاية الخرطوم، التي أكدت عدم امتلاكها معلومات عن وجود مواطنين يقطنون في هذه المنطقة، وقالت الوزارة في ردها على سؤالنا إنها سوف تسجل زيارة ميدانية للتعرف على حقيقة وجود سكان بحي الغابة.
ومع أن إجابتهم أصابتني بالإحباط إلا أنني أكبرت في الوزارة اعترافها بعدم معرفتهم رغم أن في هذا تقصيراً إلا أنه أفضل من المكابرة التي دأبت عليها الجهات الحكومية.
سكن عشوائي
بعدها توجهت إلى محلية الخرطوم التي أكدت لنا معرفتها بسكن هؤلاء المواطنين السودانيين وسط النفايات والغابة، وحدثني مدير إدارة المخالفات بمحلية الخرطوم يس صالح معروف بأن من يقطنون بحي الغابة يدرج سكنهم تحت طائلة العشوائي، وقال إن مثل هذه الأحياء منتشرة في الخرطوم، حيث يستغل البعض المساحات غير المأهولة ويشيدون فيها الرواكيب، معتبراً ان مثل هذه المساكن تؤثر سلباً على البيئة لعدم توفر دورات المياه وسوء التصرف في النفايات، مبينًا أن معظم الذين يقطنون في هذا الحي من رعايا دولة الجنوب.
وقال معروف لـ(الصيحة) إن المحلية ساعية إلى ترحيلهم لمواقع بديلة تتوفر فيها الخدمات، ولفت إلى ترحيل عدد من الذين يقطنون بحي الغابة إلى جبرة، وإنهم يبحثون عن أصحاب الأرض حتى يتم تنبيههم بعدم تركها خالية، مؤكداً قطعهم أشواطًا مقدرة في إزالة السكن العشوائي بالواية مستدلاً بما نفذوه في الرياض والطائف والمجاهدين والصحافات والامتداد وقال إن نسبة الإزالة بلغت “80”%، وأضاف: بنهاية العام سنكون قد قضينا على السكن العشوائي، مؤكدًا توفيرهم البدائل اولاً قبل إزالة العشوائيات حتى لا يعودوا مجدداً إلى المناطق التي تم تهجيرهم منها، مؤكداً على أن عملهم هذا يشمل حتى العمارات تحت التشييد حيث يأمرون أصحابها بإكمالها أو عدم السماح بقيام سكن عشوائي فيها، وذلك من أجل التنظيم والجانب الأمني، وقال إن إغلاق المحلية للسوق المركزي يندرج تحت طائلة محاربة السكن العشوائي، ملمحاً إلى تسجيل زيارة لحي الغابة لبحث توفير مواقع بديلة لسكانه.
خرجت من محلية الخرطوم، وشكرت في دواخلي تعاونهم معي، لكنني ذهلت من حديثهم عن أن غالبية قاطني حي الغابة من رعايا دولة الجنوب ببساطة لأن الأمر على أرض الواقع خلاف هذا تماماً.
وسط القمامة
كيف تنظر وزارة البيئة لمواطنين يقطنون وسط النفايات وداخل غابة، الإجابة تأتي على لسان مدير الإدارة العامة للحد من المخاطر والكوارث بالمجلس الأعلى للبيئة والترقية الحضرية المهندس عبد الله عوض، الذي أشار في حديثه لـ(الصيحة) إلى أن السكن وسط الغابات لها آثار سالبة على الإنسان بداعي إفرازات هذه الأشجار وخاصة ليلاً، معتبراً أن انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون من أكثر الأخطار التي تحدق بمن يقطنون في الغابات، لافتاً إلى أن أمراض الكوليرا التي تنجم من التبرز في العراء تنتشر في مثل هذه المساكن خاصة في الخريف، بالإضافة إلى التوالد المستمر طوال أيام العام للبعوض الذي يتسبب أيضاً في مرض الملاريا، لافتاً إلى أن الذين يقطنون في حي الغابة ليست لديهم قدرة على السكن في الأحياء لارتفاع قيمة الإيجار لعدم امتلاكهم منازل خاصة ولضعف مواردهم، غير أنه يشير إلى أن معظم القاطنين في حي الغابة من رعايا دولة الجنوب وأن بقاء سكان وسط الغابة يعني تدميرها عبر القطع الجائر لاستخدام الحطب في الطبخ، وقال إن هذا يمثل تهديدا مباشراً للثروة الغابية، معتبرًا أن الغابة محمية طبيعية يجب المحافظة عليها، ويلفت الى أن اندلاع حريق قد يتسبب فيه السكان ربما أسهم في تدمير الغابة وإلحاق خسائر فادحة فيها، ورأى ضرورة إيجاد حل عاجل يضع حداً لسكن هؤلاء المواطنين في الغابة وبالقرب من مكبات النفايات، ورأى أن المسؤولية لحل هذه القضية تكاملية وأنه يجب على كل الجهات ذات الصلة التحرك من أجل إيجاد حلول نهائية لهذه المشكلة.
من المحرر
نعم من زرناهم يقطنون في حي عشوائي، وهنا ليست الخطورة، ولكنها تكمن في عدم معرفة عديد جهات حكومية بوجود مواطنين سودانيين لم يجدوا مفرًا من ارتفاع قيمة الإيجارات وصعوبة الحصول على منازل غير اللجوء للسكن وسط تلال النفايات وداخل الغابة بكل مخاطرها الصحية، والحل في تقديرنا لا يكمن في تسيير تجريدة من قوات الشرطة وموظفي محلية الخرطوم بل البحث أولاً عن إيجاد بدائل لسكن هؤلاء المواطنين الذين وبنص الدستور من واجب الدولة أن تبحث لهم عن مساكن دائمة، فوجودهم في هذا المكان الذي يتنافى مع الإنسانية يمثل خطرًا عليهم وعلى الوطن أيضاً.
التيار
اها وريتيهم وقال حيكوشوهم ويا عالم حيلقو محل تاني يعيشو فيو ولا حيهيمو بين الشوارع والطرقات ويتشتتو
انتي عارفة يا بتي الحكومة بقت غير المضره والخراب ما بتعمل شي