هل تشكو من تمسّك صاحبك برأيه الخطأ؟.. هذه هي أسباب صعوبة تغيير آراء الآخرين السياسية

كان ألبرت آينشتاين واحداً من أهم علماء الفيزياء على الإطلاق، فتنبؤاته وتوقعاته العلمية صمدت في وجه أكثر من 100 عام حفلت بالتحديات العلمية. لقد غيرت أفكاره من طريقة فهمنا للكون جذرياً. بيد أن الناس على استعداد أكثر ليغيروا رأيهم فيه بل ويقتنعوا أيضاً بالعكس أنه لم يكن عالم فيزياء عظيماً، ولا استعداد لديهم لتغيير آرائهم بمواضيع مثل هجرة اللاجئين مثلاً أو عقوبة الإعدام.
ليس للأمر علاقة بذكاء المرء ولا بمصداقية أو جودة المعلومات والمعطيات التي يملكها حول آينشتاين أو سياسة الهجرة، بل يرجع الأمر إلى حقيقة تقول ببساطة إننا منفتحون ومرنون أكثر لنغير آراءنا في كل ما هو غير سياسي. لقد انشغل العلماء بهذا الأمر وعكفوا على دراسته لمعرف أسبابه لأنهم إن نجحوا وتوصلوا إلى السبب، عندئذِ ستفتح الأبواب الموصدة أمام أصعب تحدِ يواجه عالم السياسة حالياً، ألا وهو تغيير الآراء.
يقول موقع Vox الأميركي في مقالة إن علماء النفس بحثوا مطولاً وفتشوا طولاً وعرضاً عن سبب واحد يفسر صعوبة وعناد الأفكار والمعتقدات السياسية كأن لدى كل منا هوية متحيزة متعنتة ضمن ثنايا هويتنا الشخصية، فعندما نتعرض لهجوم على معتقداتنا التي نؤمن بها بقوة، نشعر وكأن الهجوم على ذاتنا شخصياً، وبدوره الدماغ مبني ومصمم ليدافع عن النفس.
عندما نتعرض لهجوم فإننا إما نتحاشى الهجمة وإما ندافع عن أنفسنا كأنما لدينا جهاز مناعة مضاد للأفكار غير المريحة نراه على رأس عمله في التو واللحظة.
يقول جوناس كابلان عالم النفس في جامعة جنوب كاليفورنيا “إن وظيفة الدماغ الأساسية هي رعاية الجسم وحمايته. إن ذات وكيان المرء النفسي هو امتداد دماغي لهذه الوظيفة، بمعنى أننا عندما نشعر بهجوم على الذات، عندها سيسخر الدماغ بعض دفاعاته التي يستخدمها في حماية الجسم”.
مؤخراً وجد كابلان أدلة أكثر على أننا نأخذ الهجوم السياسي على آرائنا بطريقة شخصية؛ ففي دراسة نشرت مؤخراً في Scientific Reports استعان كابلان وفريقه بـ40 شخصاً يسمون أنفسهم ليبراليين متحررين قالوا إن لديهم “قناعات راسخة”، ثم وضعوا هؤلاء في مرنان مغناطيسي وظيفي Functional MRI Scanner ثم بدأ فريق البحث بتحدي آراء ومعتقدات هؤلاء المشـاركين الـ40 فيما راقبوا على الشاشة أي أجزاء أدمغتهم كانت تلتمع، فكانت النتيجة أنه لدى تحدي أقوى قناعاتهم التي يؤمنون بها نشطت أماكن في أدمغتهم يُعتَقدُ أنها ذات صلة بهوية الإنسان وذاته والمشاعر السلبية.
ورغم أن الدراسة محدودة الأفق والإطار إلا أن أدلتها جديدة ومثيرة للاهتمام لأنها أثبتت أننا نخطئ في أخذ التحديات الإيديولوجية الفكرية على محمل إهانة شخصية، ما يعني أننا إن شئنا تغيير الآراء والعقول فينبغي علينا الفصل بين الآراء والذات، وهي مهمة تبدو عسيرة في مجال السياسة بالذات.
التجربة
السؤال الذي طرحته الدراسة كان: ترى ماذا يحدث في الدماغ لحظةَ نواجه رأياً معاكساً لشخصيتنا المتحيزة لرأي ما؟ للإجابة عن هذا السؤال قام كابلان وفريق زملائه الذين منهم عالم الأعصاب والكاتب سام هاريس بإجراء تجربة.
يقول كابلان “لم يكن هدفنا فهم ماهية العناد في الرأي في حد ذاته، بل أردنا أن نفهم ما الذي يحدث في الدماغ عندما نقاوم تغيير رأينا.”
بدأت التجربة بعرض سلسلة مقولات وعبارات على المشاركين كان الباحثون على ثقة من أنه المشاركين سيوافقونها ويؤيدونها، مثل “على الولايات المتحدة تقليل ميزانيتها العسكرية.”
ثم بعد ذلك عمد الباحثون إلى عرض عبارات أخرى مغايرة للأولى ومعاكسة لها في الرأي والاتجاه السياسي وذات صيغة تأكيدية مثل “تملك روسيا ضعف أسلحة الولايات المتحدة النووية تقريباً”. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الآراء المعاكسة تلك لم تكن كلها حقيقية، بل جرى تضخيمها وخلطها ببيعض الزيف بغية جعلها أكثر تحفيزاً وإثارة على حد قول كابلان الذي قال أيضاً إنه لا يهم في هذه التجربة إن كان المشاركون يعلمون زيف وكذب بعض هذه العبارات، فالتشكك “قطعاً جزء من العملية التي كنا قيد دراستها”.
كذلك شاهد المشاركون سلسلة عبارات وآراء غير ذات طابع سياسي مثل “توماس إديسون اخترع اللمبة” و”يعد ألبيرت آينشتاين أحد أهم علماء الفيزياء قاطبة”. ثم أُتبِعت هذه العبارات غير السياسية بآراء مضادة لها فيها تحدٍ لمصداقيتها خضعت هي الأخرى للمبالغة والتلاعب وخلط الحقيقة بالكذب أحياناً بغية مقارنة ردود الأفعال: ترى هل ثمة فرق بين طريقة أدمغة وعقول المشاركين في معالجة تحديات آرائهم السياسية مقارنة بالتحديات الموجهة لأمور تُعدّ أقل استفزازاً عاطفياً مثل إرث اكتشافات إديسون؟
الإجابة كانت بنعم، فقد لحظ كابلان وزملاؤه بصفة خاصة زيادة النشاط الدماغي مع حالة الآراء السياسية في منطقة تسمى “شبكة الوضع الافتراضي الاعتيادي” default mode network التي هي عبارة عن مجموعة هياكل وأجزاء دماغية ذات صلة بـ”تشتت الذهن والذاكرة والتفكر في الذات والنفس والهوية”، حسب قول كابلان. كما وجدت الدراسة زيادة النشاط في اللوزة الدماغية amygdala التي هي منطقة في الدماغ مرتبطة بالمشاعر السلبية.
باختصار لقد أشارت النتائج إلى أن المشاركين جميعهم استثيروا في مناطق دماغية هي نفسها المناطق التي نستخدمها لنتفكر في أنفسنا وذاتنا ونشعر فيها بالتهديد. والفرضية الآن تقول إن تلك المناطق والدارات الدماغية هي التي تضم داخلها معوقات تقبل الحقائق.
وتجلت النتائج في نموذج استطلاعي، حيث وجد كابلان أن المشاركين أبدوا تأثراً بالآراء المشحونة سياسياً أكبر من تلك التي تخلو من السياسة، وفيما يلي رسم بياني يوضح المواضيع التي عرضت على المشاركين ودرجة تقبل المشاركين لتغيير آرائهم فيها، ولا غرو أن من السهولة بمكان إقناع شخص بتغيير رأيه في إنجازات توماس إديسون فيما أن أحداً لا يتحرك ولا يتغير قيد أنملة إزاء قناعاته في مواضيع الإجهاض وزواج المثليين والهجرة.
(رسم بياني يوضح مرونة أو صلابة تمسك المشاركين بآرائهم السياسية (باللون البنفسجي) وغير السياسية (باللون الأخضر) حيث المحور العامودي الرأسي يوضح درجة تغيير القناعة. أما المحور الأفقي فيوضح المواضيع والآراء المتنوعة المطروحة في التجربة، وهي من اليمين إلى اليسار على التوالي: توماس إديسون ? القراءة المبكرة دليل ذكاء ? أمراض القلب والكوليسترول ? الفلور- النوم راحة ? الأكياس الورقية ? الجيل الحديث مثقف أكثر ? الاكتظاظ السكاني ? ألبيرت آينشتاين ? التدخين السلبي ? حبوب الفيتامينات المتعددة ? الثقة بمن يشابهونك ? فرض الضرائب على الأغنياء ? أجهزة كشف الكذب ? الرعاية الصحية والتأمين الاجتماعي ? التعليم مفيد ? الحرب على الإرهاب ? الحد من حيازة الأسلحة ? الميزانية الحربية ? عقوبة الإعدام ? الهجرة ? زواج المثليين ? الإجهاض).
ما معنى كل هذا؟
يقر كابلان بأن علماء الأعصاب لا يعرفون تماماً ما وظيفة “شبكة الوضع الافتراضي الاعتيادي” تلك، والأرجح أنها تؤدي عدة وظائف متشابكة تتقاطع مع بعضها البعض، ما يقودنا إلى مشكلة تشوب العديد من الدراسات العصبية، ألا وهي أنه من السهل مشاهدة أي مناطق الدماغ تلتمع وتضيء عند معالجة مهمة ما، ولكن الصعوبة التي تفوق ذلك بكثير هي الاستنتاج بشكل قاطع ومعرفة ما يؤديه كل جزء من تلك الأجزاء الدماغية من وظائف.
لكن الدليل الذي قدمته هذه التجربة هو أن تلك الشبكة الدماغية معنية بالتفكير بالمعتقدات الراسخة، وقد كان كابلان سابقاً قد وجد أن “شبكة الوضع الافتراضي الاعتيادي” تلك تتحفز وتنشط عندما يقرأ الناس قصصاً تعكس قيمهم الشخصية.
نتائج هذه الدراسة ما زالت بحاجة للتثبت والتأكد منها بتجربتها على عينة مشاركين أكبر تشمل أناساً يسمون أنفسهم محافظين، وذلك كي يتم الاعتداد بنتائج الدراسة أكثر، فـ40 مشاركاً فقط عددٌ لا يكفي، بل يتجلى ضيق أفقه خصوصاً بالنظر إلى بيانات الاستطلاع في الرسم البياني الموضح أعلاه، حيث من الأفضل طرح تلك الأسئلة على عينة من مئات المشاركين. نلفت النظر هنا إلى أن دراسات المرنان المغناطيسي عادة ما تكون أضيق إطاراً من الدراسات النفسية لأن تكلفة تشغيل المرنان ساعة كاملة تبلغ 500 دولار.
لكن هذه النتائج خطوة مثيرة، فالدماغ إذاً يعالج المعلومات المشحونة بالسياسة (أو المعلومات المتعلقة بالقناعات الراسخة) بطريقة أكثر عاطفية تختلف عن طريقته بمعالجة حقائق عادية مسلم بها. هذا يساعدنا في تفسير لماذا قد تفشل كلياً محاولاتنا في تصحيح المعلومات فشلاً قد يأتي بنتائج عكسية تماماً ترسّخ لدى الناس اعتقادهم الأصلي أكثر فأكثر.
كذلك فإن هذه النتائج تتوافق مع بحث كان كابلان وهاريس أجرياه على المعتقدات الدينية. يقول كابلان “عندما قارنا تقييم عبارات ومعتقدات دينية بأخرى غير دينية، خرجنا تقريباً بنفس مناطق الدماغ التي نشطت في دراستنا الحالية”. وهو أمرٌ منطقي جداً لأن الآراء والمعتقدات الدينية تصب في تشكيل هوية ذاتنا.
بيد أن ما لم يظهر مطلقاً في التجربة الجديدة هو أن “المعتقدات السياسية متجذرة” فينا حسب قول كابلان، إذ إنه يمكننا تغيير آرائنا. يقول كابلان حول تجربته الشخصية وبحثه إن وسيلة مثلى لتعزيز الحقائق هي بتذكير الناس أن هويتهم ومعتقداتهم أمران منفصلان.
الكلام سهل، لكن الصعوبة في التطبيق.
هافينغتون بوست عربي