حرب باردة بين ألمانيا واليابان? واشنطن مُسحت بالقنابل النووية? والولايات صارت نازيّة ويابانية

ندى حطيط

التاريخ البديل صنف أدبي يقدم رواية متخيّلة تعدّل توجيه مسار التاريخ المدرك، كما هو متداول من نقاط مفصليّة حاسمة، فيعاد تشكيل العالم، كما كان يمكن أن يكون أخذاً بمعطيات تاريخيّة وعلميّة ممزوجة بالخيال الأدبي.
وقد تداخل هذا النوع من الأدب الغربي الصبغة مع أعمال الخيال العلمي منذ الخمسينيات، فظهرت أعمال تتحدث عن عوالم موازية، وعن السفر عبر الأزمنة وحتى محاولة تعديل نتائج نقاط الحسم التاريخية لدفع التاريخ في مسارات مختلفة عمّا انتهت إليه الأمور بواقع حالها.
الفكرة بالطبع مثيرة للإهتمام، كما هي جديرة بفتح بوابات للخيال المتدفق، وقد أعادت خدمة «أمازون» للفيديو طرحها من جديد للشاشة الصغيرة من خلال مسلسل «الرجل في القلعة العالية»، والذي حظي موسمه الأول العام الماضي بنجاح دفع الشركة إلى إنتاج موسم ثان منه طرح هذا الشهر.
«الرجل في القلعة العالية» يعتمد في نصه الأدبي ? بتصرف ? على رواية بالإسم ذاته لفيليب كيه ديك كانت نشرت في الولايات المتحدة في العام 1962، يعيد فيها الكاتب تخيّل شكل العالم في ما إذا إختلفت نتيجة الحرب العالميّة الثانية فانتصر المحور النازي ? الفاشي على الحلفاء، وقسّمت إثر ذلك الولايات المتحدة إلى ثلاث مناطق. وهكذا نشهد في الموسم الثاني سباقاً للتسلح النووي ليس بين روسيا وأمريكا، بل بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية ألمانيا واليابان. فحسب الرواية البديلة للمسلسل فإن العام 1945 شهد مسح مدينة «واشنطن دي سي» ? العاصمة الرسميّة للولايات المتحدة ? عن الوجود من خلال هجوم نووي ألماني، أسقط الحكومة المركزيّة الأمريكية، وأوقع الجزء الشرقي من البلاد تحت سيطرة حكم فاشستي شبيه بنظام الحكم النازي في ألمانيا وتابع له، يقوده «الرجل في القلعة العالية» المشار إليه في إسم المسلسل، بينما تولى الإمبرياليون اليابانيون السيطرة على الجزء الغربي.

صراع ألماني ? ياباني مسرحه أمريكا

تتصارع شخصيات المسلسل على البقاء أو على تسلق مستويات النفوذ والسلطة في شرق أمريكا ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وتقدم مشاهد متقنة ومقنعة ? لحد القسوة ? عن وقائع الحياة اليوميّة فيها، وهي شخصيات في غالبها منطقيّة يمكن توقع وجودها فعلاً في أجواء من التحكم الشديد وفق تصور القصة، وإن كانت شخصية «الرجل» المقيم في القلعة العالية (يلعب الدّور ستيفن روت) تبدو أقل قيمة بكثير من التوقعات المرتبطة أقلّه باسم المسلسل.
نظريّة العمل الناظمة هي أن الأمل بعالم بديل سيولد رغم الأجواء النازيّة ? القاتمة، لكن هذا الأمل ? ووفق المسلسل دائماً ? يعتمد بشكل مطلق على «تأثير الفراشة» إذا شئتم، أي ربما قدرة الأفراد على تغيير العالم من خلال ? الحب ? الذي سيخلق نوعاً من تسونامي من النيات الطيبة تعيد «تصويب» مسار عربة التاريخ لتعود إلى سويته ? الأمريكية البحتة -! نحن جميعاً ندرك أن النيات الطيبة لا تبني إمبراطوريات ولا تشن ثورات، لكن الدراما الهوليوودية تشـاء غير ذلك.

«واشنطن دي سي»: هيروشيما التاريخ البديل

بالطبع فإن لعبة التاريخ البديل هذه، كما في المسلسل تبدو إشكاليّة في كل منعطف، إذ ينبغي خلق عالم متكامل مواز في كل تفاصيله المملة لاكتساب مستوى مقبول من الإقناع للسرديّة البديلة. ولذا كان لا بد في مشهد إستعادي لعاشقين يستعيدان ذكرياتهما من إظهار اللحظة التي شهدت فيها مدينة «واشنطن دي سي» الانفجار النووي، والذي أدى ? في ما أدى إليه ? إلى أسقاط الفيدرالية الأمريكية، وحوّل عاصمة الإمبراطوريّة المهزومة إلى عصف مأكول.
ينقلنا المسلسل منذ الحلقة الأولى في موسمه الأول إلى أجواء أمريكا بعد الحرب مباشرة ليروي سيرة تفاعل الأمريكيين مع رموز العهد النازي الجديد التابع للرايخ الثالث في برلين. لكن ذلك لا يقّدم تفسيراً مقنعاً لم قد تكون الولايات المتحدة والحلفاء خسروا الحرب العالمية الثانية، وماهية العامل الأساس في إنقلاب سيرة الحرب سوى ثيمة السلاح النووي، الذي لم يكن إلا بمثابة جزء من كل في تفسير إنتصار الحلفاء وفق التاريخ المدرك في روايته الحاليّة.
يقول المسلسل ? وفق سرديته البديلة ? إن الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت أغتيل عام 1933، مما خلق أجواء من عدم الإستقرار وفقدان الوزن تسببت في إستدامة فترة الركود العظيم، التي بدأت منذ نهاية العشرينات، وانعزال الولايات المتحدة الأمريكيّة عن العالم، بينما إنتصر وقتها النازيون على الإتحاد السوفياتي ووقعت معظم أوروبا تحت سيطرتهم، في حين إندفع اليابانيون عميقاً داخل آسيا عبر الصين والهند، ووُجه الإيطاليون إلى السيطرة على القارة الإفريقيّة. وهكذا لما إنتهت الحرب بإنكسار الأمريكي، تقاسم المنتصران ? ألمانيا واليابان ? الأراضي الأمريكيّة، بينما إنفرد الألمان بالسيطرة على أمريكا الجنوبيّة ? اللاتينية، وتحولت بريطانيا إلى دولة عنصريّة معزولة.
الموسم الجديد، فشل مبكرا والإلتجاء للمعجزات أفقد القصة سحرها الممكن. لم يحظ الموسم بقبول النقاد في ما يبدو، وأدان بعضهم فقدان كل الجوانب المضيئة في السردية، كما كانت في الجزء الأول من العمل، كما الإلتجاء إلى وصفات خيال علمي غير مقنعة، وشخصيات باهتة، وصور كاريكاتوريّة شديدة التسطيح للضباط النازيين.
وللحقيقة فإن لفكرة التاريخ البديل عمقا يتجاوز السرديات الأدبيّة والفنيّة ليطرح تساؤلات عن المنهج، الذي يحكم صياغة التاريخ المدرك نفسه، إذ لا بد من الإعتراف بأن التاريخ عمل يختلط فيه الذاتي بالموضوعي دون الوقوف على حدود أين إبتدأ هذا، أو متى إنتهى ذاك، لا سيما وأن التأريخ عمل أيديولوجي محض، وهو مما يدفع للإعتقاد ? على مستوى ما ? بأن الحدث التاريخي في نهاية المطاف ما هو إلا إحدى صياغات التواريخ البديلة المحددة، التي اختارتها السلطات وفق أيديولوجيتها المهيمنة السائدة في حينه. فكل ما يعرف بالسرديات الكبرى من أديان وقوميات، وما يحيط بها من تفاصيل وتحديثات مستمرة، هو في خلاصته نوع من إنتاج «تاريخ بديل» مواز للتاريخ المعلن لمرحلة ما، لا يمكن دونه تحريك التكتلات البشرية نحو فضاءات جديدة متمايزة عما سبق.
بالطبع فإن إختيار هوليوود لموضوعة التاريخ البديل في مسلسل «الرجل في القلعة العالية» جاءت تكريساً تهريجياً لرواية التاريخ المدرك ذاتها. فالحكم بالإدانة على النازيين ? واليابانيين ? مبرم، والأحداث تتجه بالتأكيد إلى إنتصار نهائي لأعدائهم ? لنعود ربما في النهاية إلى مسار التاريخ الحالي. هكذا أفرغت الممارسة في لعبة التاريخ البديل كما هي في «الرجل في القلعة العالية» من المحتوى، وإنتهت بِنَا هوليوود إلى قصة متوجة بالهنات والملل ما يجعل التاريخ المدرك أكثر إثارة وأقدر على إستدعاء الجمهور إلى الشاشة الفضيّة.
ومع تلك الأحكام القاسية، فإن «الرجل في القلعة العالية» يبقى رغم ذلك مبشراً بفكرة يملؤها أمل حقيقي بإمكان تقديم تواريخ بديلة للسرديات الكبرى، ويطرح تصوراً مستفزاً لتاريخ ممكن، منزاح عن الرواية الرسميّة للتاريخ كما يكتبه المنتصرون ? الآخرون.

إعلامية لبنانية تقيم في لندن
القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..