الباحث والكاتب د. النور حمد : النظام اكتفى بالهتيفة، والمُطبلين، وسائر من اشترى ولاءهم بالمال، وتلك غفلة كبيرة

وإذ يلخص د. النور حمد تفاصيل المَشهد الراهن بالسودان بمَقاييس مُوغلة في السوداوية والقتامة، على العكس تماماً من الحلقتين السّابقتين لحوارات المصير وأوشك الرجل أن يضع السلطة والمُعارضة معاً مُتساويتين في “قارب الفشل”، ويرى أنّ التغيير المطلوب لابد أن يناقش جدياً وبشجاعة إنهاء سيطرة “الوسط النيلي”.. حمد الذي أنفق سنوات طوال في رحاب الفكر الجمهوري قبل أن يهاجر الى المنافي البعيدة بعد الرحيل المُفاجئ لـ “الأستاذ”، لا يعول كثيراً على (مراجعات) قادة بارزين في الحركة الإسلامية، لكنه يذهب إلى أن لا حل سوى “إجراء مساومة تاريخية كبيرة”.
أجرته: شمائل النور
إذا طلبنا منك رسم (خارطة طريق) للخروج من الأزمة، فكيف تكون؟
لا أعتقد أن في وسع أي سوداني، أو غير سوداني، أن يرسم خارطة طريق واضحة المعالم، تتّسم بالعملية، للخروج من عنق الزجاجة الذي احتشدت وتكدست، فيه كل أمورنا، حتى تعطّل حراكها.
لماذا؟
الوضع الماثل الآن، وضعٌ بالغ التعقيد. وقد كان هذا الوضع نتاجاً لتراكماتٍ كثيرة مُتتابعة، تعود إلى مرحلة ما قبل الاستقلال، بل إلى أبعد من ذلك بكثير. غير أن الناس لا يميلون لأن يسمعوا، في مثل هذه الأوقات الضاغطة، فذلكةً تاريخيةً لأصل المشكلة، أو تحليلاً مطولاً، بقدر ما يحبون أن يسمعوا عن إيجاد مخرج عاجل، وهذا طبيعي. فحين تضغط أمور الحياة اليومية على جيوب وقلوب وأرواح وأجساد المُواطنين، وحين ينسد الأفق تماماً، يَصبح تدبير المَعيشة اليومية هَمّاً ضاغطاً، والدواء مُتعذِّراً، تنحصر العقول في مَجرد التفكير في أقرب مَخرج.
كأنّك لا ترى مَخرجاً؟
إيجاد مَخرج من عُنق الزجاجة الذي طال مكوثنا فيه، أضحى أعسر من أيِّ وقت مضى. فهذه ليست أيام أكتوبر 1964، وليست أيام أبريل 1985، أيضاً. لقد تغيّرت البنيات التي كانت قائمة آنذاك، فقد استتبعت السلطات العمل النقابي، ووضعته تحت جناحها، كما دجنت النقابات والاتحادات المهنية، بما في ذلك الاتحادات الطلابية، حتى لم يعد للشعب كيان مُنظّم مُرتبطٌ بجهاز الدولة، بحيث يكون له تأثير في بلورة الحراك الجماهيري، وتحويله إلى قوة منظمة ضاغطة تجعل الحكومة تستجيب لتحقيق المطالب، أو تجعله قادراً على إشعال الثورات التي تحقق بغيتها في إسقاط النظام القائم. وبالطبع بقيت بعض النقابات عاملة، وقامت ببعض المنافحات المؤثرة، لكن قوة العمل الجماهيري تكمن في اتساعه وشموله وتضامنه، وتماسكه، وهذا ليس موجوداً الآن.
كثيرون يرون أنّ من المُمكن تكرار سيناريو أكتوبر أو أبريل، فقط لم تحن ساعة الصفر؟
لا أعتقد أنّ ذلك ممكناً، أو سهلاً، على الأقل. لقد بقي النظام الحالي في السلطة لأكثر من ربع قرنٍ من الزمان، تمكّن عبرها من تفكيك البنى المُجتمعية، وضرب الأحزاب السياسية، وتشقيقها، وإفقارها، وإرهاق قياداتها بالمُلاحقات الأمنية. كما دفع بكثيرٍ من القوى الحية الفاعلة إلى خارج الحدود. نجح النظام فعلياً، في خلق واقع جديدٍ سِمَتِهِ الرئيسة تشظي وضعف القوة الفاعلة في الساحة السياسية السودانية، فأضحت لا تشكل قوة ضغطٍ حقيقيةٍ عليه. كما تفنن النظام في ضرب القوى السياسية المعارضة ببعضها؛ فقسّم الأحزاب، وقسّم الحركات المسلحة. ويشهد على ذلك، ما يزيد عن ربع قرن. يُضاف إلى ما تقدم، أن المؤسسات السيادية جرى إلحاقهما ببنية النظام، عبر غسيل الأدمغة بأيديولوجيا الإسلام السياسي، وشعاراتها الحماسية الجوفاء. وكذلك، عبر ربط الترقي في المناصب، بمنظومة المصالح المالية، التي أضحت المادة اللاصقة لكل القوى الداعمة للنظام. وهكذا فَقَدَ الشعب سند هذه المؤسسات التي سبق أن لعبت دوراً حاسماً في إنجاح كلٍّ من ثورتي أكتوبر وأبريل.
بشكل عام، لماذا تأخّر إنجاز تغيير في ظل نظام الإنقاذ؟
تأخّر التغيير لأنّ القوى التي تعمل له غير مُتّسقة، ولم تصل بعد إلى درجة الوعي التي تسمح لها بالتنازل لبعضها، والكَف عن الكَيد لبعضها، من أجل خدمة الهدف المركزي، كما أنّها لم تتعلّم العمل الجماعي بعد. وبطبيعة الحال هناك عوامل دولية وإقليمية ظلت في جانب بقاء نظام الإنقاذ. فهو نظام خدم بطريقة مُباشرة، وغير مباشرة، استراتيجيات إقليمية ودولية. من المشاكل القائمة التي لا تبشر بإمكان خلق قوة تغيير حاسمة، أن بعض الإسلاميين الذين خرجوا على الإنقاذ، أو أخرجوا منها، لم يتوبوا توبة نصوحاً بعد.
لكن الآن، هناك بعض الإسلاميين رفعوا أصواتهم بالمراجعات الجريئة؟
هم لا يزالون مُرتبطين عاطفياً بالتجربة، رغم فداحتها، وآثارها المدمرة. هؤلاء لا يزالون يظنون أنّها تجربة قابلة للتعديل. ولا يزالون يَظنون أنّ بوسعهم لقاء الإنقاذ في منتصف الطريق، وبوسعهم إنقاذ التجربة من أن تَذهب في التّاريخ بوصفها لعنة. ويكثر هؤلاء وسط جماعة الشعبي. هذه مُشكلة عويصة، تمنع تشبيك جسور التعاون بين القوى الساعية للتغيير. توبة الإسلاميين مما اقترفت أيديهم، شرط رئيس لكي يصبحوا جزءاً من مستقبل السودان. ودون هؤلاء تجربة الإسلاميين المصريين الذين سعوا لحتفهم بظلفهم. ودونهم، أيضاً، عودة الوعي التي جَسّدَها راشد الغنوشي وحزبه.
لهذه الدرجة ترى أنّ الواقع تَغَيّر؟
لمعرفة مَدَى تغيُّر الواقع السًّوداني عمّا كان عليه في الستينات والثمانينات، لا نحتاج سوى أن نقارن: كيف كان موت طالب أو طالبيْن في أكتوبر كافياً جداً لكي ينحاز الجيش إلى جانب الشعب الغاضب، ويُجبر النظام القائم على التنحي، في حين لم يعد موت 200 في المظاهرات، أو موت مئات الآلاف في دارفور وجنوب كردفان، والنيل الأزرق، يحدث أثراً يُذكر.
هل يعني هذا أنّه لا توجد وحدة كافية لإحداث التغيير؟
نعم، أعتقد ذلك. ولا أقول هنا، إن الثورة غير مُمكنة، ولكنني أقول إن الثورة الشاملة، المنظمة، مأمونة العواقب، أضحت في غاية الصعوبة. فقد تبدّل الشعور القومي العام الذي كان من قبل مُوحَّداً إلى حد كبير، فأنجز أكتوبر وأبريل. تضعضع الشعور القومي المُوحَّد بسبب ضرب النظام للقوى المجتمعية وبنياتها التي كان يُعرف منذ البداية، أنها سوف تُشكِّل خطراً عليه.
إلى أيِّ سَبَبٍ تُعزي ما سميته (تضعضع) الشعور القومي؟
تضعضع الشعور القومي الموحَّد بسبب نشاط القوى الجهوية المُهمَّشة، الحاملة للسلاح. فالهامش، أصبحت له قضاياه التي تعنيه بصورة مُباشرة. وأصبح من الناحية الواقعية في مواجهة الحكومة، وفي نفس الوقت أصبح بقدرٍ ما في مواجهة معارضيها من عموم أهل المركز في الوسط والشمال النيلي. هذا الوضع الذي ازدوجت فيه معارضة قوى الهامش، فأصبحت ضد الحكومة من جهة، وضد بنية الوسط النيلي المسيطر برمتها من الجهة الأخرى، هو ما أدى قبل سنوات عبر مسارٍ مرهقٍ ومعقد إلى انفصال الجنوب. ولا تزال هذه الحالة قائمة، ويمكن أن تؤدي إلى انفصال أجزاء جديدة من البلاد.
إذاً ما المخرج؟
المخرج أن تستمر المعارضة من جانب الجميع، لكن بعد أن تعيد قوى المُعارضة مُراجعة أمور عديدة بها تكتسب الفاعلية والمصداقية. فقوى المعارضة، المدني منها والمسلح لم تعد لها مصداقية. ولم تعد أغلبية الشعب توليها ثقةً تذكر أو تأخذها على محمل الجد. وبنظرةٍ كليةٍ غير منحازةٍ لمجمل مسارات الأمور، يمكن للمرء أن يقول إن ما حدث للمعارضة من ضعضعة يمكن أن يكون أمراً مفيداً، إن هو أحدث لها ذكراً. فالمعارضة بكل أطيافها ليست لها رؤية وتقتات على شعاراتٍ باهتة، منتهى غايتها إعادة تدوير الماضي الباهت. وهي أيضاً فاقدة للخيال الخلاق وللمهارات وتُحرِّكها النوستالجيا والحماس. والسيئ في الأمر أن النظام الذي يعرف ضعف المعارضة وقلة فعاليتها راهن كلياً على ذلك، وأصبح لا يقدم أي تنازلات، ولا يقوم بأي مراجعات. ساوى النظام بين تنظيمات المعارضة وبين قوى الشعب، في حين أن المعارضة لا تمثل كل الشعب. فموقف قطاع كبير من الشعب منها، سلبي، ولا يختلف، في مقدار سلبيته من موقفه من النظام. ولربما استثنى من قوى المعارضة حزب المؤتمر السوداني، الذي أظهر جدية ومصداقية.
لكن ضعف المعارضة لا يلغي حاجة النظام نفسه للتغيير؟
طبعاً، النظام اكتفى بجوقة الهتيفة والمطبلين وسائر من اشترى ولاءهم بالمال وبالوجاهة، واستغنى بهم عن شعبه وتلك غفلة كبيرة. فالشعب الآن بين خياريْن باهتيْن تمثلهما الحكومة والمعارضة معاً، وليس له في أيهما بارقة أملٍ لمستقبلٍ زاهر. ويبدو الآن أنّ الشعب، ممثلاً في فئة الشباب أصبح يتحرّك بعيداً عن هاتيْن الكتلتيْن. فالدعوة للعصيان التي جرت مُؤخّراً نبعت من قلب الشارع، وليس للمعارضة فيها يدٌ. بل إنّ محاولة ركوب قوى المعارضة موجتها، ومُحاولة اختطاف عجلة قيادتها من أيدي صانعيها وظُهُورها في الفضائيات الدولية، ربما يكون هو الذي جعل الاعتصام أقل قُوةً في المرة الثانية.
هل نفهم من هذا أنه لا فاعلية للأحزاب مُستقبلاً، مقابل القوى الشبابية النشطة؟
بطبيعة الحال لا يُمكن أن تقوم ديمقراطية بلا أحزاب. لكن أيضاً لا تقوم الديمقراطية، ولا تثبت إلاّ بأحزاب حقيقية وهذه غير موجودة. ينبغي أن تكون الأحزاب نفسها ديمقراطية داخل أجهزتها. فأحزابنا إما كيانات طائفية، أو عشائرية، أو شللية، تتسم ببطريركية معوقة للتطور. فهي أحزاب هرمت وفاتها قطار الزمن ولا يختلف في ذلك يمينها عن يسارها. لذلك، إذا لم تستطع هذه الأحزاب تجديد نفسها وإتاحة الفرص للشباب وللفكر الجديد والوجدان الجديد والخُلقية الجديدة، فإن إسهامها المُستقبلي إن حدث سيكون إسهاماً سلبياً مثل ماضيها. وسَيضيف رُكَامَاً جَديداً لركام خيباتنا التاريخية المدوية.
كيف تنظر لشباب الأحزاب الذين باتوا يُوظِّفون طاقاتهم خارج الأُطر الحزبية؟
كَانَ طَبيعياً جداً أن تفرز مُمارستنا السياسية الحزبية الخاطئة، التي ظلت سائدة منذ فجر الاستقلال، هذا التوجه بين الشباب الذين أصبحوا يقولون، إن الأحزاب لا تمثلهم. فقياداتنا الحزبية لم تتغيّر لا في الشخوص ولا في المفاهيم. ولا أعتقد أنها سوف تتغيّر بسهولة، فقد يبست على هذه الحالة وفات عليها الفوات أو كاد. ومع ذلك، لا نملك إلا أن نأمل في بروز قيادات شبابية تستطيع أن تعيد تشكيل هذه الأحزاب على نسق جديد يتسم بالديمقراطية. وواضح الآن أن للشباب المنظم داخل بنية الأحزاب وغير المنظم داخل بنية الأحزاب، معركة مزدوجة ضد النظام القائم وضد القوى والعقول القديمة وممارساتها القديمة، التي تتطلع لكي تخلف النظام القائم. وعموماً فإن مخاض إخراج أمة ناهضة من هذه الحالة السودانية المتردية والمعقدة في ذات الوقت، سيكون مَخاضاً طَويلاً. فليست هناك طلقة فضية نطلقها مرةً واحدةً، لتقضي على هذه الفوضى العارمة. ويهمني جداً أن أنبه في هذا الإطار، أن على شبابنا الرافضين للأحزاب أن يعتبروا بتجربة الشباب المصري الذي نظم ثورة سلمية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. لكن عندما وصلت الأمور إلى صندوق الانتخابات فاز الإخوان المسلمون. ثار الشباب مرة ثانية حين شعر أن ثورته سُرقت منه. لكن بؤس الواقع المصري وضيق الخيارات فيه، جاءت لهم بديكتاتور جديدٍ، وضح بعد وقت وجيز أنه أقل كفاءة من سابقه.
نسمع كثيراً أنّ سيناريوهات الانتفاضات قد تُكلف الكثير، خَاصّةً مع نظام استمر أكثر من ربع قرن، في رأيك، أي من وسائل التّغيير تَراها تُناسب حَالتنا؟
أعتقد لا يُمكن أن نستغنى بوسيلة دون أخرى. جاء في القرآن الكريم: (وقال يا بني، لا تدخلوا من بابِ واحدٍ وادخلوا من أبواب متفرقة).فالضغط يجب أن يأتي من مختلف الجهات. هناك ضغوط يجلبها النظام لنفسه بسبب سياساته الخاطئة. هذا النوع من الضغوط سوف يزداد في الفترة القادمة. فالنظام فَقَدَ كل أوراق اللعب. أيضاً هناك ضغوط الدولية والإقليمية، وهذه تزداد كلما تحرّك الشعب في الضغط على النظام.
أيضاً فتح التحول من نهج التظاهرات في الشوارع، إلى نهج الاعتصام في المنازل، نافذة جديدة. فالتأثير النفسي لمُحاولات الاعتصام هذه، على بنية النظام، وعلى مُؤيِّديه سيكون كبيراً جداً، لأنه سيقضي على الوهم أن لهم قاعدة شعبية داعمة. كما أنّه ذو تأثير كبير جداً على الإعلام الدولي، ما سيجعل الحكومات الغربية والمُنظّمات الدولية والقوى الإقليمية، ذات الصلة بالمشكل السوداني مُنتبهةً لضعف جماهيرية النظام، ومن ثم تجنب مغبة المواصلة في دعمه. ومن المحتمل أن تدفع الضُّغوط المُختلفة، النظام للدخول في مساومة حقيقية، تُمهِّد لانتقال تدريجي سلمي للسلطة ولتغيير المسار.
ما هو المطلوب من الحركات المُسلّحة في رأيك؟
تكمن المشكلة الكبرى في مدى قدرة الثوار على تثبيت أحوال البلاد عقب انحلال قبضة النظام. فمن يظن أن هذا النظام لن يسقط، إما مجنون وإما أنه لم يقرأ سطراً من التاريخ. ومن الأفضل لنظام أن يدخل في مساومة تجنب البلاد الكوارث. فإن هو لم يسقط بالحسنى فسوف يسقط بغيرها. ما بدأ الآن، له ما بعده، طال الزمن أم قصر. ولذلك، فإن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح في إطار وضعٍ سليم للأولويات لا يتعلق بكيفية إسقاط النظام بقدر ما يتعلق بكيفية تثبيت البلاد من الانزلاق في الفوضى، وفي دوائر من العنف المتسلسل.
هل بالإمكان تجاوز هذه التحديات؟
لا ينبغي أن نقلل من تحديات المرحلة المُقبلة لأنها تحديات مهولة. نحتاج لمعجزة لتجنب السيناريو الليبي. فالبلاد مليئة بالجماعات المسلحة، وهي بلاد شديدة الاتساع، ضعيفة الاقتصاد ومحاطة بدول غير مستقرة، بل بعض هذه الدول المحيطة ملتهب جداً. وضع السلاح عقب سقوط النظام يمثل تحدياً كبيراً جداً. هذا التحدي ليس مرتبطًا، حصراً بسقوط النظام عبر ثورة شعبية. فحتى لو قبل النظام الدخول في مساومة، ورسم فترة انتقالية، لاستعادة الديمقراطية، وحكم القانون، فإنّ إلقاء السلاح من جميع الفصائل المسلحة، سيبقى تحدياً خطيراً ماثلاً.
تحدثت عن السيناريو الليبي، وكأنّه واقعٌ لابد منه؟
سمعت من يقول، إنّ البلاد تعاني حالياً مما هو أسوأ من السيناريو الليبي، فلا تخيفوننا به، ودعونا نجرِّب السيناريو الليبي، كخطوة أولى للخُرُوج من هذه الحالة غير المُنتجة، التي سجنتنا فيها الإنقاذ لربع قرن من الزمان. فالضحايا يسقطون الآن، كل يوم، والنظام باقٍ ولا بارقة أمل تلوح في الأفق، تبشر بالخروج من مُستنقع الموت هذا. فلماذا نتحسّب لسقوط الضحايا وللخراب، بعد ذهاب النظام، وهاهم الضحايا يَسقطون الآن أمام أعيننا كل يوم، والخراب يجري عَلى قَدمٍ وَسَاقٍ؟ هذا القول لا يخلو من منطق، رغم قتامته. فقد حدث مثل هذا السيناريو الجهنمي في منعطفات عديدة في التاريخ. ويحدث شبيه له الآن في كل من سوريا والعراق، على اختلاف الكيفية. وهو ذات سيناريو “الفوضى الخلاّقة”، الذي رسمت معالمه إدارة بوش الابن وروّجت له كوندوليزا رايس.
إذاً ما العمل لتجنب مثل هذا السناريو؟
الوضع الأمثل في نظري، أن تمارس القوى المعارضة نقداً ذاتياً جدياً، غير أنّ هذا التطلع يبقى بالقياس لسوء الحال القائم، مجرد أمنية، بل لربما يكون مجرد أمنيةً حَالمةً. فقوى المعارضة لم تُعوِّدنا المُراجعات الجدية. يحتاج الجميع، خَاصّةً أهل الأحزاب أن يمسكوا بلجام أنفسهم أمام بوارق التغيير. تحتاج الأحزاب أن تعمل بجدٍ على تفكيك بناها القائمة، غير المنتجة وإعادة تركيبها من جديد.
ماذا تقصد بإعادة تركيبها؟
أعني إعادة تخليق ذاتها في صورة جديدة، تسمح بتغيير القيادات التّاريخية، وجعل الطريق إلى القيادة مفتوحاً أمام الشباب، وأمَام العُقول الأجد، والوجدانات الأجد، والبنيات الأخلاقية الأجد. فظاهرة “الكَنكشة” في السُّلطة وفي الزعامة ليست حصراً على الإنقاذيين، وإنّما تنطبق على جميع قيادات القوى السياسية بلا استثناء. الجميع يظنون أن الزعامة حقٌّ ثابتٌ لهم وُلد معهم يوم ولدوا ويموت معهم يوم يموتون. و”الكنكشة” تعني انعداماً كلياً للحس الديمقراطي، وتعني، من ثم، عدم الاستعداد للتخلي عن عجلة القيادة. وهذا داءٌ عامٌ ظَلّ يطحننا منذ مؤتمر الخريجين.
هل يُمكن جر جُزءٍ مِمّن كانوا في النّظام، أو لا يزالون فيه، ليصبحوا ضمن جُهود الخُروج من الأزمة؟
لا ينبغي أبداً أن نستبعد خيار المُساومة، رغم أن النظام لا يزال يتحدث بنفس الرعونة القديمة. لا يوجد، في تقديري، مخرج آمن من هذا الوَضع الشّائك، سوى إجراء مساومة تاريخية كبيرة، وشاملة. لكن لابد أن تتوفر لمثل هذه المساومة عوامل جوهرية. منها أن ينبثق من داخل النظام صوتٌ للعقل. وبنفس القدر أن ينبثق وسط قوى المعارضة الحزبية والمُعارضة الجماهيرية غير الحَزبية، صوت للعقل أيضاً. وينبغي أن تبدأ هذه المساومة بتشبيك القوى ولَم شَعث القافزين من سفينة الإنقاذ وما أكثرهم، إلى التَّيَّار العام. ولابد من القول هنا، إنّ الحوار الوطني الذي طرحته الحكومة، كان مجرد مُناورة سَاذجة لمزيدٍ من الشرعنة للاستبداد، ولا غرابة أن وُلد ميتاً، ولم يستقطب سوى أهل الإنقاذ، ودائرة أصدقائهم المُنتفعين بهم، وغيرهم ممّن لا يُعارضون أيِّ نظام مهما كان.
ما هي مطلوبات (المساومة) التي تتحدّث عنها، في نظرك؟
أولاً: تقتضي هذه المساومة التاريخية أن تُعلن القوى التي تحمل السلاح في مُواجهة نظام الإنقاذ، أنّها سوف تتخلى عن سلاحها حَالَ تَغَيّر النظام. فهناك جمهورٌ عريضٌ لا يحب النظام القائم، ويتمنى زواله اليوم قبل الغد، لكنه في المقابل، لا يثق في القوى الحاملة للسلاح. ومن الغفلة أن نظن أنّ حوادث التاريخ وما جَرّته من كَراهيات عِرقية وتوجسات، ومَخاوف، لم يعد لها تأثيرٌ، فهي مُؤثِّرة بأكثر مما نتصوّر. ولقد لعبت الحكومة على بطاقة تعميق خوف أهل الوسط من أهل الهامش، بكفاءة كبيرة.
ثانياً: تقتضي المُساومة تصور لدولة فيدرالية حقيقية، يجد فيها أهل الهامش أنّهم أسياد مصير أقاليمهم. لابد أن يُخرج المركز نفسه من هذه الدّوامة الشريرة التي أدخل فيها نفسه منذ الاستقلال، وهي دوامة الهيمنة على الجميع وهضم حُقُوق الجميع. إذا صفت العقول وطابت النفوس، واتسعت آفاق الحلم، يَصبح حل مَعضلة السُّودان المُزمنة أيسر ممّا نتصوّر بكثير. نحن الآن في مُنعطف يقتضي أن يتفوّق كل منا على نفسه، فيصبح قادراً على الاتفاق مع الآخرين، على الحدود الدنيا الضرورية، التي تجعل الحراك نحو المُستقبل مُمكناً. وهذا يقتضي استعداداً للتنازل ولتقديم بعض التضحيات.
التيار
المعارضة عندها رؤية وهذه الرؤية ما لازم تكون اقتصادية او غيرها لان هذا موضوع برنامج احزاب ولكن الرؤية هى دولة المؤسسات وفصل السلطات وسيادة حكم القانون والحريات للجميع وبعد كده الاحزاب السياسية برجالها وشبابها يمكن ان تمور بالتغييرات من ديموقراطية داخلها او اذا تعذر ذلك تتكون احزاب جديدة وتظهر قيادات جديدة شابة او مخضرمة وببرامج جديدة وواضحة وهيكلية وانتخابات داخلية وتحديد فترة رئاسة الحزب الخ الخ الخ بس كيف يا دكتور الديموقراطية تستمر بى سجم رمادها حتى تتطور وتبلغ سن الرشد لان فى انقطاعها ضرر كبير على البلاد والعباد وتخلق شعب من الجهلة سياسيا وهتيفة ومنافقين ومصلحجية الخ الخ الخ
كسرة:تشيرشل قال ان الديموقراطية نظام سيىء ولكن اى نظام آخر هو اسوأ منها!!!
ارجو من ادارة الراكوبة رفع هذا الحوار الى صدر الصفحة حتى يتثنى لنا الرد عليه قبل اندثاره لأهمية النقاط المثارة وتعرية ثور الخزف.