رحل جبل وبقى جبل من جبال النوبة ( 1 -2 )

الروايات المتعددة في أصل النوبة كلها تصب في وجود هذا الشعب في أرض السودان حيث أن كل الأبحاث أثبتت بأن هذا الشعب لم يأتي إلى السودان بل السودان وجد من اصل هذا الشعب وذلك من تعدد الاسماء التي أطلقت على هذه الرقعة من القارة الافريقية وأن الدراسات المنتشرة في هذا الصدد كثيرة إلا أن هنالك ثلاث دراسات هي الأقرب أو تكون الأوضح في رؤية الباحثين عن هذا الجنس البشري الذي ما زال مجالاُ خصباُ للبحث والتنقيب .
1 ? الدراسة الاولى التي تقول أن النوبة مجموعة متفرقة من القبائل تختلف وتجتمع ثقافة وجنساُ ولغةُ .
2 ? الدراسة الثانية كما ورد على لسان سي.جي.سلقمان في كتابه (القبائل الوثنية بالسودان النيلي ) وهي أن أصل النوبة هي أصل كل مجموعة تقطن جبلاُ خرج جدهم الأول إلى الوجود من نفس الجبل الذي يقطنونه .
3 ? الدراسة الثالثة التي قسمت النوبة إلى مجموعات لغوية لمعرفة أصولها وتتبع ثقافاتها وأعرافها وتقاليدها وقد ظهرت عدة أبحاث في هذه الدراسة .
●البحث الاول هو تقسيم النوبة إلى ثلاث مجموعات لغوية وهي : –
مجموعة النوبا ? مجموعة النوبيون ? مجموعة الداجو
●البحث الثاني وهي لعالم اللغات قرنبيرج وقسم النوبة إلى مجموعتين وهي : –
المجموعة الكردفانية – مجموعة شاري ?النيل
●البحث الثالث وهي لعالم اللغات الالماني كارل ماينهوف الذي قسم اللغات النوباوية إلى ثلاث مجموعات : –
لغة الجبال الستة – اللغات السودانية ? اللغات التي تستخدم بادئه في ألفاظها .
●البحث الثالث وهي للباحث والإداري البريطاني هارولد ماكمايل .
●البحث الرابع وهي للدكتور ناديل 1938 ? 1941 .
●البحث الخامس وهي للباحثة الألمانية ليني ريفنشتال في كتابها القيم عن قبيلة كاو ?نارو 1976 .
●البحث السادس الذي اصبح أو أعتمد بصورة شبه واقعية وعلمية لوجود النوبة وتقسيماتهم اللغوية من حيث التقارب في التقاليد والموروثات والاعراف فكانت دراسة الدكتور ستيفنسون 1938 ? 1960 الذي أتقن لغة الكاتشا الذي قسم النوبة إلى عشر مجموعات لغوية وهي : –
مجموعة الكواليب – مجموعة الأما – مجموعة تلودي والمساكين – مجموعة لفوفا – مجموعة تقلي -مجموعة كادوقلي ? مجموعة تيمين – مجموعة كتلا – مجموعة الاجانق – مجموعة الداجو .
هذه المقدمة القصيرة لتوضيح أين يقع هذا الجبل بين هذه المجموعات وجبلنا الذي نتحدث عنه يقع من ضمن مجموعة كادوقلي أو مجموعة تلشي ?كرنقو في بعض الابحاث هذه المجموعة التي ينتمي إليها والدي برشم موسى كودي موجو كمودو وهو من جبل أبوسنون الذي تتساقط منه الاحجار الجيرية البيضاء من داخله التي تعكس مدى بياض قلوب الخارجين من هذا الجبل الأشم وهم سواد البشرة كما الجبل كما تقول الدراسة أو الرواية الثانية في أصل النوبة ولنا شرف الإنتماء إلى هذه المجموعة التي ينحدر منها الزعيم الخالد فينا يوسف كوه مكي الذي علمنا وتعلمنا منه أن نقول نحن النوبة وأن نحمل السلاح رصاصاُ وقلماُ ونسطر ملامح وملاحم وتاريخ أبائنا وأجدادنا الذين قارعوا الإستعمار والظلم والإضطهاد والتي أبت كتب التاريخ المزيفة من تسجيلها فكان السلطان عجبنا والفكي علي الميراوي والاب فيليب عباس غبوش والقائمة تطول .
رحل هذا الجبل وترك لنا أرثاُ كبيراُ من المبادئ النبيلة والقيم الإنسانية التي كان يتحلى بها لقد ترك فينا أن نعيش بحرية وعزة وكرامة وثقة مع النفس في أحرج المواقف وأصعبها بل يقول أن الإرادة والعزيمة والضمير هي الفيصل في سير الإنسان وليس الدين لأنه مؤمن بالانسانية المجردة التي سطرها أجداده الذين أستقبلوا كل من أتى إليهم فلم يكن الدين في ذلك سبيلا بل يعرفون من كريم معتقداتهم بأن الله قد خلق الإنسان وكرمه وجعله خليفه على أرضه ولم يقل أن خليفته له دين بل قال إني جاعل في الأرض خليفة وعندما جادلته الملائكة في ذلك قال لهم إني أعلم ما لا تعلمون (( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون )) البقرة 30 .هكذا هي الحياة التي أحيا بها الله الأرض ومن عليها إذا كان رده للملائكة على هذا النحو وهم يسبحونه ويحمدونه إناء الليل وأطراف النهار وهم لا دين لهم فما بال الخليفة الذي تسكنه الوساوس والمخاوف والظلم والعنف والشر والحب كل هذه الخصال داخل هذا الخليفة الذي لا يمثل شيئاُ في خلق الله تعالى وأن فضله فقط به تتبوأ المخلوقات جنته وأن العبادة ليست هي وحدها الملاذ الأمن للأحياء بل أن الجمادات تعبد الله أيضاُ حيث قال في ذلك : –
( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون )) البقرة 74 . إذا كانت الأحجار تعبد الله وتخشاه فما بال هذا الخليفة الذي أعطاه العقل ونزل له الدين لكي يعرف الله ويعرف أن الله وحده هو الذي يحاسب ويغفر حيث قال (( إن الذين امنوا والذين هادوا والصبئين والنصرى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ شهيد )) الحج 17 . ولد هذا الجبل عام 1931 في قرية أبوسنون غرب كادوقلي من اسرة بها خمسة رجال وإمراة وهم بالترتيب : – الخير ? حماد ? علي ? سعيد ? برشم ? زينب بالإضافة لوالدهم موسى كودي موجو ووالدتهم خادم الله كوكو رمضان وقد إنتقلوا إلى مثواهم إلا زينب أمد الله من عمرها وأنعم عليها بالصحة والعافية . بعد عام من والدته 1932 بدأت سياسة المناطق المقفولة لجبال النوبة وطبقت أسوة بجنوب السودان وبعد خمسة أعوام ضمت مديرية جبال النوبة إلى مديرية كردفان 1936 وبدأت الاحداث تتوالى والتضيق بدأ مراحله كل ذلك كان نتيجة لمقاومة النوبة للإستعمار وعدم الأنصياع للغزاة والرؤية المغلوطة والمتعمدة من الأنجليز حول المناطق المقفولة وإذا كانت النظرة السلبية في ذلك في عدم إيجاد المنهج التعليمي الملائم مع جبال النوبة وكيفية المحافظة على تراث وتاريخ هذا الشعب فهنالك نظرة إيجابية جناها الأن هي تواصله مع تراثه وتاريخه القديم وأن الأجداد قد حافظوا على هذا الأرث العظيم برغم جور وظلم الغزاة وإنتهاكهم لسمو الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى فحاول الغزاة والرعاة طمس معالم وتاريخ هذا الشعب بكل الطرق بدءاُ من المدرسة الممنهجة والمسجد المؤدلج والتجارة السقيمة فلم ينجحوا ولم ينجحوا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لانه خلق الناس على إختلاف الوانهم والسنتهم واديانهم وهو اراد ذلك (( ومن أياته خلق السموات والأرض وإختلف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لأيات للعالمين )) الروم 22 . فوالده موسى كودي موجو كمودو كان واحد من أعيان القرية وشهرته في القرية وما جاورها أنه كان مزارعاُ من طراز فريد فكان يضرب به المثل في زراعته الواسعة وأرضه الممتدة وكرمه وعطاءه اللامحدود لأهله وضيوفه الذين يقصدون منزله من دون سابق معرفة بل شهرته تسبق معرفته وسط الغرباء الذين يقصدون مناطق غرب الجبال وكان الرعاة العرب الذين ياتون بسعيتهم إلى بحيرة كيلك ويقضون فترة الدميرة حول البحيرة ويذهبون إلى القرى المجاورة للتبضع والتبديل كانوا يتنادون بمنزل موسى كودي بأبوسنون كأحد المنازل التي يتناوبون فيها لقضاء تسوقهم وحاجياتهم المختلفة فلم يكن ذلك كافياُ بل أن صاحب هذا المنزل قد سمى بعض أبنائه بأسماء زواره وأصدقائه من أعيان العرب الرعاة وهم حماد وسعيد . نشأته في القرية مع إخوانه واقرانه منهم عمنا عليه الرحمة والمغفرة زكريا إسماعيل والد الدكتور والمناضل أمين زكريا والدكتور المقاتل في صفوف الجيش الشعبي أحمد زكريا ,كانت فترة زاخرة لتكوين وإكتساب الخصال الحميدة والشجاعة والكرم والمروءة وعرف كيف أن النوبة يرحبون بأي كائن أتى إليهم مستجيراُ ,هارباُ أو راعياُ ويقدمون له كل ما عندهم وهم أغنياء في أرضهم لا يعرفون العنف والكراهية والظلم بل كانت أرضهم معطاءة وخيرة لهم ولغيرهم وكانت الجبال الشامخة تقف صدأ منيعاُ لغوائل الطبيعة وجورها وأيضاُ لكل من يحاول أن يمسها بشر لذلك كانوا يتعايشون بسلام مع كل من أتى إليهم وهم له منفتحون . توفى والده وهو في الثانية عشر من عمره فخلف والده شقيقه الأكبر الخير موسى في رعاية شئون الاسرة والعائلة الكبيرة فكان صورة طبق الاصل لوالده الذي غرس فيهم المعاني والقيم الإنسانية النبيلة فكان كل واحد منهم يمثل جبلاُ بحد ذاته . وعندما إشتد وطأة إغلاق جبال النوبة خرج الشباب من القرى وتوجهوا إلى المدن فكانت كادوقلي وتلودي والأبيض هي الملاذ لأبناء النوبة في تلك الفترة وضربت جبال النوبة بسياج من التخلف والجهل والحصار الغرض منه العقاب الجماعي للنوبة على ما فعلوه بالمستعمر كما يفعل الغزاة والرعاة اليوم . إرتحل هذا الجبل هو وإخوانه حماد وعلي وسعيد وطاب المقام بهم في كادوقلي وأسسوا منزلاُ كبيراُ بحي كليمو حالياُ على شاكلة منزلهم بقرية أبو سنون وهذا المنزل يقف شامخاُ الان ويحكي قصة أجيال وأنا واحد منهم وقد ولدت فيه إلا أنه أصيب عند قيام الحرب الثانية 6-6-2011 ببعض التخريب . لم يكن التعليم النظامي والمدارس قد إنتشرت في جبال النوبة لأن التعليم النظامي دخل الجبال عام 1921 أي بعد عشرين عاماُ من دخوله السودان . أنشأت مدرسة كادوقلي الغربية الإبتدائية كمدرسة واحدة فقط يتنافس فيها كل أبناء النوبة من حول كادوقلي وداخلها فلم يسعفه الحظ بالدخول في التعليم النظامي وهو على ندرته في ذلك الزمان في ظل هذا الوضع المتجهل والمتخلف لجأ الكثير من الشباب إلى العمل في زراعة القطن قصيرة التيلة التي إشتهرت به جبال النوبة إبان الإستعمار وما بعده وبعضهم إلتحق بالعمل في محلج كادوقلي والأخر بالجندية التي بسببها ذهب الكثير من أبناء النوبة للحرب في كثير من انحاء العالم ولم يعودوا إما قتلوا أو طاب المقام بهم في بلدان الحروب بعد أن وضعت الحرب أوزارها وأسسوا أحياء سكنية في تلك البلدان على سبيل المثال حي العباسية وعين شمس في القاهرة وحي كيبيرا في نيروبي وغيرها . إلتحق هذا الجبل بالعمل في محلج كادوقلي الذي كان المؤسسة الإقتصادية الوحيدة في جبال النوبة أنذاك حيث يتقاطر إليه الشباب من كل حدب وصوب برغم صعوبة ومشقة العمل .عمله في المحلج لم يلبي طموحه كما أن العمل كان عبارة أن إستغلال لحوجة أبناء النوبة وتسخير هذه الايدي القوية والكثيرة بأبخس الأثمان , رجع الجبل إلى القرية ومكث فيها وترك إخوانه الثلاث بكادوقلي وكانت الظروف تزداد سوءاُ والإغلاق يعمل عمله ومرة أخرى سافر أخويه حماد وعلي إلى الأبيض للبحث عن عمل وكانت الأبيض حينذاك تعج بالنشاط والحيوية وذلك لإرتباطها بخط حديدي بمدن شمال السودان بالاضافة للحركة التجارية الواسعة بدءاُ بتجارة الماشية إلى المحاصيل وقديماُ تجارة الرقيق وسوق المحاصيل حالياُ كان قديماُ سوقاُ للنخاسة . بعد سنوات ثلاث قضاها في القرية رجع مرة أخرى مع والدته إلى كادوقلي وتركها مع شقيقه سعيد في منزلهم بكليمو ولحق بأخويه في الابيض ووجدهم قد إلتحقوا بالعمل في السكة حديد عمال الدريسة كما يعرف للعاملين في ذلك القطاع ويعتبر عملاُ شاقاُ حيث يقوم العمال بتصليح وصيانة خطوط الحديد وهم راجلين لمسافات طويلة عبر الادغال والغابات المتشابكة والحيوانات المفترسة ولذلك فان معظم العمال الذين يعملون فيه كانوا من أبناء النوبة وكان سبباُ في الذود عن بعضهم البعض في الأحراش حتى رجوعهم إلى أهليهم سالمين . حاول جبلنا أن يلتحق بهذا العمل إلا أن إخوانه رفضوا له ذلك وطلبوا منه أن يبحث عن عمل داخل الابيض بعيدأ عن هذا العمل الشاق ومن خلال تواجده في الابيض قد تعرف بالكثير من السودانيين وبالأخص أبناء النوبة وقد بدأت إرهاصات جلاء الانجليز من السودان والمباحثات بإعطاء السودان حكم ذاتي أو إستقلاله المزعوم تحديداُ عام 1954 عندها أيضاُ بدأت سودنة الوظائف المدنية والحاجة لزيادة القوات النظامية الاخرى فإلتحق جبلنا بقوات بوليس السودان وساعدته في ذلك ان شروط الإلتحاق لم تكن صعبة في تلك الفترة .
القيم تبقى على حالها في كل عصر وتتجلى الشخصيات الرئيسية لأول وهلة . فلا يمكن أن نتصور لأدوارها شخصيات سوى الشخصيات التي قامت بها فعلاُ .
نواصل …………………………………
[email][email protected][/email]
تحية لك من القلب يا برشم موسى كودي موجو كمودو فلقد أثلجت صدورنا وجعلتنا ننتظر مقالك القادم بشغف شديد لك الشكر
يا ريت يا استاذ برشم لو في ترجمة للعربية لاسماءك الثلاثة الاخيرة علق لينا هنا. اقسم لك بالله العظيم انى مهتم بهذه الترجمة لغرض اظنه نبيل على الاقل بالنسبة لي.
رحم الله ذلك الطود الأشم رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه وألهمكم يا أخي الصبر والسلوان وجعل البركة في ذريته. امثال المرحوم من الرجال الصناديد هم من بنوا لنا سودانا كنا نفتخر به بين الأمم. اللهم ارحمه واكرمه وأجزل له يا منان يارحيم يا رحمن.
نحيي الكاتب برشم وهو يبتدرنا بنوع من كتابة “تاريخ الأسر النوبية البارزة” التي تسلط الضوء على الطبيعة الخيرة في النوباوي وشيم الشهامة والتماسك والكرم والنجدة والشجاعة .. نوع من الكتابة لم نعهدها لدى أبناء النوبة .. وكانت نتيجة ذلك أن ظل غير النوبة من السودانيين يجهلون طبيعة شخصية النوباوي
وبسبب هذا الجهل ظل بقية السودانيون يعرفون النوباوي فقط بذلك الشخص الذي كان يتم جبره لحمل براز الآخرين في الخرطوم في ستينيات القرن الماضي!!
بسبب هذا الجهل عرف النوباوي بأنه شخصية عسكرية لا تحارب لحسابها أبداً .. وإنما تحارب فقط بالوكالة عندما يزج بها الآخر في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل .. فيبلي على أفضل الوجوه بإخلاص تفوق إخلاص وكيله (حرب الجنوب الأول) ..
بسبب هذا الجهل عرف النوباوي بأنه فقط ذلك الشخص الحرامي الذي ينط في البيوت ويسرق سقط المتاع من فرط ما به من المهانة والوضاعة ولا شيء بخلاف ذلك ..
ولا شك أن الجميع لاحظ كيف أن بعض السودانيين يتكلمون بدهشة إستغراب عندما يرون أن هناك نوبادي فاهم أو عمل شيء كويس أو أظهر شيء من المروءة أو حتى يتكلم بكلام ينم عن شيء من التعقل والفهم .. لأنه لا يعرف النوبادي إلا خلاف ذلك.
أتمنى أن نرى كتابات مماثلة خصوصاً عن الأسر التي كانت لها أدوار قيادية فاعلة في حياة القبائل سواء كانت في مجال الأنشطة الاقتصادية أو السياسية .. وهؤلاء كثر ولم نخطئ معرفتهم ..