الصناعة البشرية للدين

الصناعة البشرية للدين

رائد قاسم
[email][email protected][/email]

لم تكن الجاهلية جاهلية بالمعنى الحقيقي للكلمة ، فقد كان العرب يفتقدون فقط لنظام ديني وسياسي مركزي ، ينظم أمورهم ويدير شئونهم ، فمعظم العبادات والنظم الدينية والأخلاقية كانت موجودة في العصر الجاهلي، فالاغتسال من الجنابة ? مثلا- كان من عادات العرب ، وعمامة الرأس للرجال وتغطيته للنساء كانت مألوفة ودارجه، (يذكر أن الحجاب في الفقه الاسلامي مفروض على الحرائر دون الإماء من النساء) فالصيام والصلاة والحج وقدسية شهر رمضان والشهور الحرم كانت كلها من نظم المجتمع العربي قبل ألإسلام ، فقد كان العرب يحجون بنفس الطقوس الحالية من الطواف والسعي ورمي الجمار ، وكان لشهر رمضان قدسية ، فكان العديد منهم يصومونه ويطعمون في أيامه الفقراء والمحتاجين.
في هذا الصدد ينقل عن النبي الكريم (ص) قوله: إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق. في دلالة على وجود الأسس والقواعد المنظمة في المجتمع العربي، وكانت مهمة النبي الكريم تتركز في إعادة تدويرها وإنشاء بيئة ناهضة تديرها أنظمة مركزية محكمة، وهو ما كان يفتقده العرب في عصر الجاهلية ، علاوة على معاناتهم من طغيان الرموز الدينية والاجتماعية والسياسية الحاكمة ، والتي كانت تمارس سلطتها من خلال انظمة تقوم على الطغيان وسلب الارادة ، واحتكار الامتيازات والثروات.
ما جاء به النبي الكريم محمد (ص) كان عبارة عن إعادة صناعة لهذه القيم والأخلاقيات والنظم الدينية والروحية وجمعها في نظام ديني جامع اسمه الإسلام ، وفي إطار نظام سياسي اسمه الدولة العربية الإسلامية ، التي كانت عاصمتها في بداية تأسيسها في المدينة المنورة ، ثم انتقلت إلى الكوفة ، ومن ثم إلى دمشق ، وبعدها إلى بغداد ، حتى انهيارها على يد هولاكو في غزوه المدمر لبلاد العراق والشام.
من وجهة نظري فان الدين موجود في الطبيعة الأرضية والكيان الكوني اللامتناهي ، كأحد آلاف العناصر المكونة للوجود ، سواء كانت مما هو منظور او غير منظور ( بالنسبة للإنسان ) ، وهذا الوجود العظيم مخلوق من قبل قوة خارقة ليس لقدرتها حدود ، وهي ما يعرف بالإله أو الرب أو الله جل شانه ، فعندما خلق الله تبارك وتعالى هذا الوجود الهائل والكون العملاق ، أوجده بقدرته وعلمه المطلق اللامتناهي ، وقد احتوى في تركيبته العظيمة كافة هذه العناصر ، التي لم يستطع الإنسان النظر لها ككتلة واحدة مكونة للكون، فاضطر ان يتعامل معها كل على حده ، فاتخذها حقول علمية ذات مسارات مستقلة ، لها قواعدها وأركانها ونواميسها وسننها، كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والأحياء ، ومنها العلوم الناشئة من وجود الإنسان ذاته أو المرتبطة بوجوده في الدرجة الأولى ، وهي ما يطلق عليها بالعلوم الإنسانية ، كالاقتصاد والفلسفة والقانون والتربية ( ومنها العلوم الدينية) ، وقد تحولت إلى جزء من كيانه الحضاري الممتد منذ مليون عام ، هي سنوات وجوده المفترض على سطح ألأرض ، التي هي كوكب من ضمن كواكب لا متناهية في هذا الكون العملاق الذي لا يعرف له بداية أو نهاية.
فالدين عنصر من الالاف العناصر المكونة للوجود ، موجود كباقي العناصر الاخرى ، وجاء الانسان بما وهبه الله من عقل وإرادة لاكتشافه وسبر اغواره والاستفادة منه في حياته ، ويعتبر الدين منذ القدم احد الانظمة المركزية المسيرة للحياة البشرية ، ويعتبر جزء من الحقول المهمة في النظام العلمي البشري ، اذ يحتوي على مئات الفروع التي تتناول كل منها مجالات علمية غاية في العمق والأصالة ، فمن حقول دراسة تاريخ الاديان وروحانيتها والمقارنة بينها ، الى العلوم الخاصة بالأديان كالإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية ، التي بواسطتها تحافظ على تراثها وتاريخها ، وتستمر في حيويتها وقدرتها على العطاء والبقاء ( تماما كباقي العناصر الوجودية والحقول العلمية) ففي الاسلام علوم القران والسنة والعقائد والفقه والاستنباط، علاوة على العلوم المرتبطة بها كاللغة والنحو والبلاغة وغيرها.
وفي المسيحية علوم الكتاب المقدس واللاهوت والتاريخ المسيحي ، واللغة والفن القبطي ، والترنيم والأيقنة والموسيقى المسيحية والإيمان المسيحي .
وفي اليهودية تبرز الدراسات الحاخامية ( تاريخ اليهودية والشعب اليهودي ) واللغة العبرية ، وتعاليم وأحكام ومذاهب الديانة اليهودية.
فالعلوم او المعارف الدينية ليست سوى حقل علمي ينتمي الى غيره من العلوم الانسانية والتطبيقية كالاقتصاد والآداب والفنون والطب والفلك ، والتي من خلال تدوينها وتبويبها وحفظها وإنشاء بيئتها الاصطناعية ( معاهد وجامعات ومدارس) ازدهرت وتطورت ، اذ تتم الاضافة عليها من خلال الاكتشافات والاختراعات والنظريات والآراء والأفكار الحية والمتحركة .
ان هذه العلوم التي لا حد لفروعها وتخصصاتها ، في اصلها ليست سوى عناصر جعلها الله بقدرته الخارقة مكونات للوجود والطبيعة ، من التي يمكن ولا يمكن مشاهدتها وإدراكها ، وقد نسجها الخالق جل شانه مع بعضها في نسيج هائل ليس له بداية او نهاية ، لذلك ومنذ ان أكتشفها الانسان وهو يدرك انها سر من اسرار الوجود وبها يستمر ، وقد سعى لاكتشافها وإزالة غوامضها وتسخيرها ، فدون ما عرفه عنها ، وعلى مر العصور اصبحت هذه التداوين حقول علمية راسخة في الكيان الحضاري البشري وجزء من منظومة حياته الانسانية في مختلف جوانبها، وحتى اليوم فان هذه الحقول في تطور مستمر ، وكل يوم يكتشف الانسان المزيد منها ويسخرها في اوجه حياته المختلفة .
انه يتعامل معها على انها علوم لا نهاية لها ، ولم ولن تصل بعد الى منتهاها المطلق لأنها جزء من خلق الله وعلمه الذي لا ينفد ، وجزء من هذا الوجود المترامي الهائل الضخم ، الذي ليس له حدود ، والدين كعنصر وكعلم ليس سوى جزء منه .
ولو تتبعنا تاريخ كافة الاديان لوجدنا انها تتشابه في نظمها العامة وقيمها الاخلاقية وقوانينها العقائدية والقانونية ، وإنما بينها ثمة اختلافات صورية ورمزية تبعا لعوامل ظهورها التاريخي وهوية المجتمع الذي ظهرت فيه ، ومدى الشوط الحضاري الذي قطعه ، فالأديان جميعها تشترك في قواسم مشتركة ، تعبر عن الدين كعنصر وجودي دا كيان وهمي في مخيلة العقل البشري، اهمها الايمان بوجود اله او قوة خارقة للطبيعة ، وعبادته من خلال الصلاة ( وعبادات اخرى) التي تعد قاسما مشتركا بين اتباع الاديان كافة ، والإيمان بوجود عالم غير مادي وغير مرئي، وممارسة الطقوس الدينية ، والالتزام بقانون اخلاقي وروحي معين، كما تشترك كافة الاديان في امتلاكها لرؤية وتصور في كيفية خلق الانسان والكون.
كما تتشابه الاديان في الكثير من العقائد والقوانين والمفاهيم ، فالإسلام والمسيحية واليهودية تشترك في وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، ولكل منها نبي مبجل وكتاب مقدس ، ومعظم تعاليمها الاخلاقية متشابهه ، كما انها تتفق على الكثير من القوانين ، فجميعها يقول بحرمة الزنا والفواحش الجنسية والربا والقتل والسرقة، ويشترك المسلمون واليهود في حرمة لحم الخنزير والميتة والدم.
من ناحية اخرى يمكن القول ان العقل من الله ، وهو يتحرك في الوجود وفقا لقوانين وسنن ونواميس الوجود ذاته، ولا يمكنه ان يختلق نظاما مضادا له ، إلا بصفة قهرية مؤقتة ، سينهار حتما، لأنه لا ينسجم مع السنن والنواميس التي تسيره، وكل ما يحكم به العقل صحيح نسبيا وخطا نسبيا، لأنه لا يتحرك إلا وفقا للمعطيات المتوفرة لديه ، فكلما اكتشف المزيد تغيرت حساباته ، وبالتالي احكامه ونظرياته، ومن هذا ان بعض العلماء في الاونة الاخيرة اعلنوا انهم بدئوا بالشك في النظرية النسبية لاينشتاين ، وذلك بعد ان قاموا بإجراء تجارب نتج عنها سبق جسيمات للضوء الذي يعتبر اعظم سرعة في الكون.
فالدين اذن ليس سوى حقل من الحقول ونظاما من الانظمة وجزء من كل ، ولم يكن ولن يكون حاكما على الوجود والأشياء ، ووظيفته تتعلق في كونه منظما لجزء من حياة الانسان المادية والمعنوية في اطار سلطة الوجود ونواميسه ، وفي نطاق سلطة الإنسان على ذاته .
بيد ان المجتمعات الدينية تنخر فيها فكرة متوارثة ملخصها ان الدين هو كل شي ، وانه مركز الحياة الانسانية وقلبها النابض ! من ذلك ما وقفته على امرأة تقول ان عمرها تجاوز الثلاثين ولم تتزوج بعد ، ورغم محاولاتها الحثيثة للزواج من خلال قراءة الادعية والالتزام الدين والروحي ! إلا انها لم تفلح! بيد ان رجل الدين الذي اجابها استنكر قولها وتساءل قائلا: ما علاقة الدعاء والصلاة في مسالة ألزواج؟ في ذلك ينقل عن الامام محمد الباقر قوله ( الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر).
ان لكل نظاما من انظمة الحياة المسيرة للحياة البشرية نواميسها وقوانينها الخاصة بها، فان اذى المسلم فريضة الحج ، فان هذا لا علاقة له بمشكلة اقتصادية او اجتماعية او صحية ، فالمشكلة الاقتصادية يجب التعامل معها وفقا لمعطياتها ومتطلباتها ولا علاقة للدين كنظام بها، نعم هناك علاقة ما وروابط متجددة بين الانظمة المسيرة للحياة الانسانية ، فالنظام الاقتصادي له علاقة بالنظام السياسي ، والنظام الديني له علاقة بالنظام السياسي ، والنظام الاجتماعي له علاقة بالنظام القانوني، والنظام القانوني له علاقة بالنظام الحقوقي ، وهكذا دواليك ، تماما مثلما ان الكيمياء والفيزياء والفلك لها علاقة مع بعضها كعناصر مكونة للوجود وكحقول علمية ، بيد انها تبقى عناصر وتخصصات علمية مستقلة عن بعضها البعض.
وان انقسام الاديان الى مذاهب وفرق والتطور الطبيعي لها ، وظهور حركات الاصلاح الديني في مختلف الأديان ( اخوان الصفا في الاسلام ، والحركة البروتستانتية في المسيحية ، وحركة مندلسون في اليهودية) وكون الدين جزء من كافة الحضارات البشرية منذ فجر التاريخ ، يدل على كونه علم بشري من جهة ، وجزء من الانظمة المسيرة للبيئة البشرية من جهة ، وجزء من الخلقة الكونية من جهة اخرى ، وليس له تلك الطبيعة الشمولية المركزية المحورية في حياة الكائن البشري كما يقول بذلك المتدينون الشموليون .
يمكن القول ان الدين صناعة بشرية وعلم بشري في مقامه الثاني والأخير ، بيد انه في مقامه الاول جزء من الكون ، كغيره من الانظمة والكيانات التي تكون الوجود المادي والمعنوي الظاهر وغير الظاهر والمنظور وغير المنظور ، ودور الصناعة البشرية للدين تتمثل في اكتشافه وتحويله الى مواد صناعية قابلة للتحول إلى أدوات يمكن الاستفادة منها في حياة الامة الانسانية المتجددة والمتغيرة باستمرار، تماما كغيره من جوانب حياة الإنسان ، وكغيره من الحقول العلمية التي اوجدها لتكون مدار متحركا ومتجددا قابلا للاكتشاف والتطور والاستمرارية الى الأبد ، ولو كان الدين تنزيل الهي مطلق لما تعدد واختلف ولبقي غير خاضع للإرادة البشرية، لأنه منزل من الحكيم المطلق والقوة الخارقة الحاكمة في هذا الوجود ، والتي لا يعتريها أي نقص او ضعف او خلل ، إلا ان الحكمة الالهية المطلقة حكمت بان يكون جزء من الحياة الكونية ، ومنها الحياة البشرية ، كغيره من العناصر ، ليكون في نهاية الامر احد معجزات الخالق واحدى نعمه التي انعم بها على مخلوقاته وفي مقدمتها الكائن البشري.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..