مقالات سياسية

عبر النيل الأزرق من سنار إلى بني شنقول وبالعكس، 1854 ? 1855م

عبر النيل الأزرق من سنار إلى بني شنقول وبالعكس، 1854 ? 1855م
Up the Blue Nile Valley from Sinnar to Bani Shanquil and back, 1854 – 1855
جيوفاني بيلتريم Giovanni Beltrame
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة مختصرة لبعض ما جاء في كتاب The Opening of the Nile Basin? فتح حوض النيل”، والذي هو مجموعة مقالات كتبها بعض قساوسة البعثة الكاثوليكية لوسط أفريقيا عن جغرافية واثنوجرافية السودان بين عامي 1842 و1881م. وقام بتحريرها المؤرخ والأب الإيطالي الياس توناولو والمؤرخ البريطاني ريتشارد هيل. وصدر الكتاب في الولايات المتحدة عن دار هاربر وراو عام 1975م.
ونعرض هنا لجزء يسير من مقال “عبر النيل الأزرق من سنار إلى بني شنقول وبالعكس، 1854 ? 1855م” للأب جيوفاني بيلتريم (1824 ? 1906م)، والذي ولد في قرية قرب فيرونا بشمال إيطاليا (وكانت حين ولادته تتبع للإمبراطورية النمساوية). وجاء إلى السودان عام 1853م وجاب كثيرا من مناطقه حتى بني شنقول. ثم عاد للسودان في عام 1857م قائدا للبعثة التبشيرية التي بعث بها معهد مازا في فيرونا، وعمل لعام كامل على التبشير في أوساط الدينكا في النيل الأبيض. وظل يكتب للصحف والمجلات الأوربية ، حيث اجتذبت كتاباته الكثير من القراء لجودة صناعتها وغرابة ما ورد فيها . غير أنه اشتهر أكثر بقدراته ودراساته اللغوية ، فقد نشر (بالاشتراك مع جوزيف لانز) مخطوطة عن نحو لغة الدينكا في نشرة الجمعية الجغرافية الإيطالية بفلورنسا في عام 1869م بعنوان. ?Grammatica della lingua Denca? والنص التالي هو جزء من كتاب للقس بيلترام عن السودان بعنوان “Sennar II e lo Scaiangallah” صدر في فيرونا عام 1879م.
وأتى المؤلف هنا على زيارته للمنطقة التي تسكنها جماعة أبي جريد. وللأستاذة محاسن زين العابدين رسالة ماجستير عن “الزبالعة” وهم أتباع الشيخ الصوفي أبي جريد . وقد سعى بعض من كتب عن تلك الجماعة ? بدوافع شتى – لتبرئتهم مما نسب إليهم من رقة الدين أو الخروج عنه بالكلية . بينما يرى آخرون أن هؤلاء لا يزالون “يأتون السحر وهم يبصرون”، وأن إرثهم في تلك الأفعال لا يزال باقيا حتى يوم الناس هذا ، وأنه لم تعرف لهم طريقة صوفية ينسبون إليها حتى يعاديهم أقرانهم في الطرق الأخرى وينسبون إليهم المنكرات.

المترجم

*********** ************ ****************
يقدم هذا الفصل من الكتاب أول وصف لرجل أوربي لأتباع أبي جريد (الزبالعة) ، وهم مجموعة صغيرة من السودانيين يقطنون في المنطقة الواقعة على الشاطئ الأيمن للنيل الأزرق بين كركوج والروصيرص. وورد ذكر أتباع الشيخ أبو جريد (أحد شيوخ الصوفية في نهايات القرن السابع عشر) في كتاب “الطبقات” لمحمد النور دفع الله، والذي جمع فيه سير شيوخ الصوفية والعلماء في حوالي عام 1800م. (لعل الصحيح هو أن ذكر أتباع الشيخ أبو جريد جاء في “الطبقات” عرضا في ترجمة حمد النحلان أمره (أى حمد) بترك الزبلعة، وعلق محققه بروفيسور يوسف فضل بالهامش ص 162 شارحا الكلمة بإقتضاب مضيفا أن الزبالعة هم أتباع أبى جريد (الخارجون على الدين) كما قال. المترجم).
ولا تقتصر ميزة مقالة جيوفاني بيلتريم على أنها دقيقة التفاصيل فحسب ، بل لأصالتها أيضا. فقد كان كل ما عرف عن أبي جريد مجرد شهادات سماعية وإشاعات. ولم يسلم من ذلك حتى التاجر الفطن جي. أي. فاسيري، والذي سجل الآتي في مفكرته (التي نشرت بباريس في العدد رقم 80 من المجلة الجغرافية الفرنسية): “علي أن أعثر على اسم قبيلة أصلها في السودان (من دار دنقلا، كما أعتقد)، تعيش الآن بالقرب من القلابات على الحدود مع الحبشة. وتنكر هذه القبيلة كل ما يدعو له الإسلام، وليس لهم منه إلا الاسم، إذ أنهم يسبون النبي، و(لكنهم) يوقرون عائشة، ويومنون بمشاعية كل شيء ، حتى النساء، ويجرون اختبارات طويلة ودقيقة وثاقبة لكل فرد يريد أن ينتسب إلى قبيلتهم”.
وهذا الجزء الذي أورده التاجر الفرنسي فاسيري عن جماعة أبي جريد (إن صح أنه كان يعنيهم فعلا) مختلف جدا عما ذكره القس الإيطالي بيلتريم في المقال هنا. وبعد أربعين عاما على صدور هذا المقال نشر س. هيللسون (في العدد الأول من مجلة “السودان في مذكرات ومدونات ، 1918م”. المترجم) مقالا متعاطفا وشديد الحساسية عن سكان أبي جريد بحسبانهم فرقة من الفرق الصوفية التي تقدس شجرة النخيل ، ويضع أفرادها شيخهم (أبو جراد) في مقام النبوة .
وما يلي نورد مقتطفات من كتاب المؤلف المذكور أعلاه:
— — —

كانت دولة سنار في الماضي تضم غالب مناطق السودان التي يحدها النيلان الأبيض والأزرق. وهي تقسم الآن لجزئين ، جزء شمالي يكون منطقة الخرطوم، وجزء جنوبي أطلق عليه الأتراك اسم (سنار)، وعاصمته مدينة سنار، والتي يبلغ عدد سكانها الآن 10 ? 12 الفا. ويتحدث الناس في هذه المنطقة العربية ويدينون بالإسلام.
وطقس سنار حار وغير صحي، بيد أنه أفضل من الطقس في الخرطوم. ويبدأ موسم الأمطار في المنطقة من مايو وقد يمتد إلى أكتوبر. أما نوفمبر وديسمبر فهما موسم الحصاد للذرة والقمح. وفي هذين الشهرين يأتيها تجار الخرطوم لشراء المحاصيل.
وتظل سنار أرضا جرداء كئيبة لستة أو سبعة شهور، ولكنها تخضر في بقية الشهور عقب هطول الأمطار، فتربتها شديدة الخصوبة. غير أن سكانها لا يزرعون إلا جزءا يسيرا من المساحات التي يمكن لهم زراعتها، ومحصول العام يكفيهم لثلاثة أعوام على الأقل. ومن أهم محاصيلهم الذرة والقمح والذرة الشامية والعدس والبقوليات والتبغ. ويزرعون في السهول التي يرويها نهر الدندر أجود أنواع القطن والسمسم. أما مزارعهم التي ترويها يوميا مياه النهر فيزرع فيها الرمان والبرتقال والليمون والتين. ويعمل غالب سكان سنار الذين يعيشون على شاطئ النهر بالزراعة ، غير أن وسائلهم بدائية متخلفة.
وهنالك غابات كثيفة تمتد على الشاطئ الأيمن للنهر، وتعيش فيها مختلف أنواع الحيوانات البرية من الجواميس والأفيال والفهود والزراف ووحيد القرن والثعالب والقرود والنعام والغزلان والأبقار الوحشية.
ولسكان سنار مواصفات عادية regular features، فهم متوسطي القامة ونحاف البنية، ولهم مِزاج بارد لا مبال phlegmatic temperament. ويندر جدا أن ترى بينهم أحدب أو أعرج أو قزما. وربما يعزي ذلك للطرق الصحية التي ينشئون بها صغارهم. فالنساء يعرضن مواليدهن فور ولادتهم للضوء والهواء، ويداومن على غسلهم، بإمساكهم من أرجلهم وتغطيسهم (الرأس أولا!) مباشرة في مياه النهر . ويتركونهم يحبون على التراب من سن باكرة جدا، ولا يدعونهم يخلدون للنوم حتى يشعروا بالنعاس، وحينها يلفون بفروة من جلد المعز أو الغنم ويعلقون بين حبلين على الحائط أو على جذع شجرة. وعندما تريد المرأة أن تخرج لمكان ما، تلف رضيعها في قماش وتربطه خلف ظهرها، مثل حقيبة الظهر. ولما يكبر الطفل، تحمله أمه فوق أحد كتفيها، وتدعه يثبت نفسه بالإمساك برأسها. وبمثل تلك الرعاية ينشأ الطفل عندهم قويا مكينا.
وشهدت وأنا بسنار في ديسمبر من عام 1854م حفلتي ختان لأربعة من شباب المدينة. أركب كل واحد منهم على حصان جميل ، وبيده سوط من جلد فرس النهر. ومضوا يضربون بعضهم بتلك السياط على ظهورهم العارية ، ويختبرون من فيهم يحتمل أكثر من صاحبه لسعات تلك السياط الدامية، بينما يصيح النظارة جذلين: “هلا … أخو البنات”. بينما تقبل خلف موكب هؤلاء الشباب ثمانية من الإبل مزينة بالأكاليل الخضراء وقطع القماش الخضر والخُشخيشات، وعلى ظهرها أخوة وأصدقاء الشباب المراد ختانهم. ثم تأتي جوقة من الطبالين وعازفي الصنوج النحاسية وآلات النفخ. ثم يأتي الراقصون والراقصات ، وهن من حسان صبايا المدينة في أجمل ثيابهن ويحملن على رؤوسهن مزهريات (مباخر) صغيرة تفوح منها روائح البخور المعطرة. وفي وسط الفتيات ترى صبيين على ظهر فرس مغطى بأوراق الشجر والأشرطة ، ولا تكاد تري من بين كل ذلك إلا وجهيهما الأسمرين ، إنه منظر لا يعوزه السحر والجمال.
وشهدت أيضا حفل عرس لفتاة وهي تزف في صحبة والديها وثلة من أهلهم إلى منزل زوج المستقبل. ولفت نظري التشابه بين طقوس الختان والعرس. غير أن العروس لا تركب على جمل أو حصان ، بل تسير على قدميها في رزانة وعزة وفخر تحت ما يشبه الخيمة canopy التي تشد صويحباتها من أطرافها وهي معطرة ، وترتدي زيا أبيض اللون ، وعلى رأسها تاج من الأغصان الخضراء ، وتضع صبغة على أظافرها ، وعلى شفتيها وحواجبها لون أزرق. وتقوم فتاة صغيرة بالسير إلى الخلف أمام العروس وهي تَمَرْوُح وجهها بمروحة من ريش النعام. وتتبعها فتاة صغيرة أخرى وهي تحمل مقعدا خشبيا لتجلس عليه العروس بين كل فينة وأخرى. ثم تتجمع حولها الفتيات ويضربن الدربوكة والصناجات ويرقصن على أنغامها، ويتغنين بجمال عروسهن. وتتخلل تلك الطقوس إشارات استعجال من أصحاب العريس تدل على نفاد صبرهم على تطاول تلك الأغاني. وعند وصول موكب العروس لدار العريس، تدلف بمفردها، ويقف أمام الباب اثنان من الشباب وبيد كل منهما سوط عنج لمنع كل متطفل أو متطفلة من الدخول. بل ويمنع العريس نفسه من تخطي عتبة الدار، ويدخل العريس (المتشوق لدخول داره) في صراع يدوي قد يطول حتى يعلن الحارسان عن قبولهما بالهزيمة، ويدعانه يدخل داره فخورا منتشيا بانتصاره وفوزه بعروسه. حينها تتعالى الزغاريد وصيحات الإعجاب من النظارة من على البعد، ويعاود الطبالون وعازفو الصنوج النحاسية وآلات النفخ عملهم فيغني ويرقص الجميع. وبعد ساعة أو نحوها يتوقف الحفل وتمد أطباق الكسرة والملاح، والدجاج المشوي، ولحم الضأن، وأصناف أخرى. ويمتد حفل العشاء لنحو منتصف الليل.
ويعد الزواج أمرا لازما على كل رجل، وإلا فسيعرض من يعرض عنه نفسه للسخرية من المجتمع. ويتطلب الزواج موافقة الطرفين، وقد يحدث أن يزوج الرجل ولده وهو دون سن البلوغ. وما أن يبلغ الولد الحلم، حتى يدخل بزوجته، وإلا أعتبر ذلك الزواج باطلا. ويعقد الفكي القران بحضور شاهدين، ويحدد في العقد شروط الزواج. وتقع على العريس كل تكاليف الزواج من مهر وغيره ، بينما تأتي المرأة بأقل القليل من الأثاث ، إن كان أهلها يملكون منه شيئا.
وبحسب القانون الإسلامي فلا يسمح بزواج الأقارب (هكذا؟!. المترجم) ولا يسمح للرجل بالزواج من المرأة التي زنا بها ، أو من أمة ، إلا إذا كان قصده عتقها . ويمكن للطلاق أن يقع بموافقة الطرفين ، أو عن طريق القاضي. وتنال المرأة (والتي كانت قد أعطيت نصف الصداق) عند الطلاق النصف المتبقي منه.
وفي سنار تقوم كل عروس في مساء اليوم الذي يلي يوم عرسها بالذهاب إلى النهر في صحبة عدد من رفيقاتها وتخلع ملابسها وتغطس في مياهه ثلاث مرات، وذلك بقصد التطهر في عيني زوج المستقبل.
وفي المدن والقرى تتعرض كل الصبيات قبل سن البلوغ لعملية شديدة الإيلام يسمونها في سنار “ختان” (أوردها المؤلف هكذا: ختات Kheitat!) وهي تمثل “الضمانة” لزوج المستقبل. وبعد أن يتم الزواج تقوم الخبيرات في هذا الشأن النسوي بـ “إعادة الوضع لما كان عليه”. وسمعت القاضي يقول إن تلك “عادة شيطانية ذميمة، وتعارض روح الدين. غير أنه لو لم أختن بنتي فسيكتب عليها أن تظل عانسا للأبد”.
وتقوم النساء (خاصة المتزوجات) في جنوب مديرية سنار بعمل وشم في الأجزاء الظاهرة من أجسادهن. ولا تتحمل، فيما يبدو، بشرتهن جروح الوشم، فيغدو مكانه ندوبا واضحة. وهذه الندوب المعمولة على الوجه (الشلوخ) تستخدم في التمييز بين القبائل المختلفة.
وعند الوفاة يقوم المشيعون بالإسراع بدفن الميت تنفيذا لتعاليم الإسلام. وفي مدينة سنار يتم الدفن في مقابر عامة ، وتنال تلك المقابر احترام الجميع بحسبانها أماكن مقدسة. ويهتم سكان المدينة بغسل الميت ، ويعتنون بالمقابر ويزينونها بصبر بحصى ملونة تجمع من الصحراء ، وتوضع على القبر بتصميمات بالغة الروعة (راجع مقال “حول عادة وضع الحصى على المقابر عند النوبيين” من تأليف كافندش، والمنشور بمجلة السودان في مذكرات ومدونات والصادر في العدد 47 عام 1966م. ولعلها من الموروثات الشعبية التي بقيت إلى الآن في ولاية الجزيرة. المترجم).
وعند موت الشخص، تدعى النائحات (سماهن الكاتب الراقصات! المترجم) وينادي على أقرباء الميت وأصدقائه. ويغسل الميت ويكفن في قطعة قماش جديدة ، ويوضع الجثمان على يمينه ورأسه متجه لجهة الشرق، ويحمل على نعش ويسار به للمقابر. وفي أثناء مسيرة المشيعين ينشج الرجال في صمت بينما تنوح النساء ويصرخن بصوت عال، ويأتين بحركات تدل على الجزع واليأس وقلة الصبر على المصاب ، فيحثين التراب على أنفسهن ، ويخدشن أوجههن وصدورهن . وتمعط كل واحدة منهن شعر من تجدها بجنبها. وبعد قليل يقوم أقرب الأقربين للميت بالجلوس قرب جثمانه ويبكي ويتذكر أيامه معه ، ويطلب منه الغفران والمسامحة ، ويعده بأنه سيزور قبره باستمرار ولن ينساه أبدا ، ويرتل بعض الأدعية (في الأصل الأغاني. المترجم).
ويؤمن سكان سنار بتناسخ الأرواح (transmigration of souls). وسبق لي أن زرت عديد المرات ، في صحبة الفريد بيني حكيمباشي الحكومة المصرية بالسودان ، شيخا كبيرا بالغ الثراء تجاوز الثمانين من العمر اسمه شاندلاوبا وذلك ليكتب لنا خطاب توصية لمقابلة الفكي مساعد (وهو أحد أقربائه) ولشيوخ الشناقلة الذين يعرفهم جيدا. وبعد العشاء تناقشت مع الشيخ الثري عن أشياء كثيرة كان منها تناسخ الأرواح. وسألته: “أين تذهب روح المرء بعد وفاته مباشرة؟” أجابني بالقول: “عندما يموت المرء تبقى روحه ساكنة خامدة إلى أن يبلى جسده. وبعد ذلك تبحث روحه عن جسد آخر تتلبسه ، حتى تطهر تماما من كل الذنوب التي اقترفتها في الحياة . ولعل هذا هو “البرزخ” الواقع بين الموت والقيامة”.
وعندما سألته عن أين تذهب روح الميت إن لم يكن قد ارتكب ذنوبا في حياته. ابتسم وكأنه يريد أن يقول إن ذلك مستحيل ، وأضاف بأن “الروح حينئذ تذهب مباشرة للجنة التي وعدنا بها النبي العظيم. أما إن كان الميت طفلا ، فإن روحه تبقى بجوار القبر أو في السماء إلى حين تقوم القيامة ، حيث تذهب للجنة . أما إذا كان الميت قد ارتكب آثاما قليلة في حياته ، فبلا شك ستتلبس روحه في جسد حيوان غير وحشي ، مثل قرد أو طائر. أما إن كان الميت قد أرتكب بعض الكبائر، فستذهب روحه في جسد حيوان مفترس مثل تمساح أو فرس النهر أو ضبع أو أسد أو غير ذلك”.
وسألته: “لماذا تقتلون الحيوانات إن كنتم تؤمنون بأن أرواح بعض أهاليكم تتلبسها؟”
بدا عليه الارتباك والحيرة ، ولكنه واصل القول بأنهم لا يقتلون القرود أبدا، لأنهم يؤمنون بأن أي جزء منها فيه روح واحد من موتاهم. ولا يقتلون الحيوانات الأخرى إلا لغرض الدفاع عن النفس أو من أجل الطعام.
…..
وفي يوم 22/12/ 1854م غادرت سنار بعد أن ودعت المسئولين الأتراك بها بمركب متجها إلى الروصيرص. وافتتح صاحب المركب عمله بقراءة بعض الأدعية للنبي ثم بدأنا رحلتنا. وتبلغ المسافة بين سنار وكركوج نحو 80 كيلومترا . وبلغناها عند منتصف نهار يوم 27/ 12. وتعذر علينا السفر لأبعد من كركوج. ودونت في مفكرتي اسماء القرى التي مررنا بها، وشملت من جهة اليمين دونتاي Dontai وبنزوكة BunzuqaومؤمنMumin ، وخيرانKayran ، وأم برد Umm Baird ، وسليل Saoleil، وحمدةHamda ، وبادوس Bados، وأبو القرف Abu El Garef (الجريف al Juryf؟). أما من الجهة الأخرى من النهر فمررنا على قرى سرو (Siru) وأبو حجار (Abu Hajar). وكنا كلما اتجهنا جنوبا نلاحظ تناقص الأرض الزراعية. فكل عائلة هنالك تزرع ما يقيم أودها ، وما تدفعه للحكومة من مكوس ، فحسب . وقطاطي السكان رديئة الصنع ، ويقيم بها الرجال والنساء والأطفال وحيواناتهم المستأنسة معا. وفي تلك القرى لم أجد أثرا لمقابر ولا لمساجد . ولم أشاهد أحدا يقيم الصلوات الخمس ، أو يتذكر عملية الوضوء.
وفي يوم 2/1/1855م بلغت الروصيرص التي تقع على الشاطئ الأيمن للنيل الأزرق . ويبلغ عدد سكان هذه المدينة نحو 7000 نسمة. وبقيت بها حتى يوم 13/1. وطفت بأحيائها في صحبة رجل عجوز اسمه “أبو شنب”، وسألت الأهالي عن بعض الأشياء. وسجلت بدقة كل ما سمعته من إجاباتهم في مفكرتي.
ومن الروصيرص اتجهت جنوبا نحو فازوغلي وأرض الشناقلة وكان الطريق إليها جبليا صعب المراس. ورأيت في المنطقة الكثير من الأشجار المدارية مثل أشجار الصمغ العربي والباؤوباب (القونقلويس Adansonia digitata ).
وألوان سكان الروصيرص أشد سوادا من سكان سنار. ولاحظت أن مواليد السكان بالروصيرص أقل سوادا من آبائهم ، وفسر لي الأمر بعضهم بأن لون الأطفال سيسود أكثر بعد أن يتعرضوا للشمس أكثر وللعمل تحت حرها طوال اليوم وهم يرعون ماشيتهم.
والحياة في الروصيرص غاية في البساطة. ففي الصباح يستيقظ السكان ويحلبون بهائمهم، ويصنعون من ألبانها السمن ويشربون الرَّوْب ويأكلون اللقمة ، ويشربون من أقداح صغيرة مصنوعة من سعف النخيل ، ثم يخرج الرجال والصبيان ببهائمهم للرعي ولا يعودون إلا قبيل المغرب. أما النساء فيعملن في جلب الماء وجمع الحطب، ويطحن الذرة لصنع الدقيق الذي تصنع منه اللقمة، ويخيطن الملابس القطنية لسد حاجة أسرهن. وقبيل المغرب يقمن بتحضير طعام العشاء للرجال والصبيان العائدين من المرعى ببهائمهم ، والتي تتولى النساء أيضا سقايتها. وبعد العشاء يقوم بعض كبار السن بالجلوس على العناقريب وترديد بعض القصص القديمة على مسامع بقية أفراد العائلة لساعات. ولا يرتدي الأطفال شيئا حتى سن البلوغ (والتي يبلغها الأطفال هنا في سن مبكرة)، بينما يكتفي الكبار بوضع قطعة من القماش (المتسخ) حول أجسادهم.
ولا يحلق الرجال شعورهم هنا كما يفعلون في سنار، بل يدعونها تنسدل على مؤخرة أعناقهم. أما النساء فيبدين اهتماما كبيرا بزينتهن، ويضعن كمية كبيرة من ودك الإبل على شعورهن. ويقمن أيضا بوشم أجسادهن من منطقة الكتف حتى السُّرَّة.
ولا تمارس هنا عادة الختان. ويتم الزواج بحضور شهود من عدد من كبراء القرية. وقليل جدا من الرجال من يتزوج زوجة ثانية، ربما لقلة الامكانيات المادية.
وطباع الناس هنا هادئة جدا ، غير أنهم يثورون عند إصابة أو قتل واحد منهم ، ويسعون للنيل بثأرهم ، ليس فقط ممن أرتكب الجريمة ، بل من كل الذكور في بيته ، مما يولد ثأرات متسلسلة في المنطقة دعت بعض رجالها للهجرة بعيدا عنها. وأفادني أبو شنب بأن الناس هنا لا يهاجمون القبائل الأخرى ، غير أنهم يدافعون عن أنفسهم ببسالة عندما يهاجمون ، خاصة من قبائل القمز Gumuz في الجنوب الشرقي، وسكان جبل التابيTabi في الجنوب الغربي، والذين كانوا يهاجمونهم بدافع الجوع في المنطقة بين الروصيرص وفازوغلي. وكانت قوافل التجارة بين سنار والروصيرص الحاملة للحبوب تسير في حماية ما لا يقل عن 200 ? 300 من الحراس خوفا من النهب.
ولا تري بعد أن تتعدى كرجوج أي أثر لمقابر. فالميت يدفن في تلك المناطق في المكان الذي يروق لأقرب الأقربين إليه. وتقرع الطبول عند وفاة شخصية مهمة. ولا يتم غسل الميت، بل يكفن مباشرة، ويحمل في صباح اليوم التالي إلى مكان دفنه دون موكب تشييع.
وغادرت الروصيرص في صباح يوم 13/1/ مع خادمي وثلاثة من “الأبالة”. وبلغنا الدمازين عند الثانية من ظهر نفس اليوم. وفي اليوم التالي وصلنا إلى قرية البارس / البريش al Baris / – Al Buraysh ، التي لا يتعدى عدد سكانها 300 نسمة. ولا يمكنني وصف الحفاوة التي قابلنا بها هؤلاء السكان. ورقص حولنا الصبية والصبايا عراة تماما، وكانوا في قمة المرح والحيوية والجمال.
وتحركنا في صباح اليوم التالي إلى أبي زغلو. وفي الطريق عبرت لمرافقي عن أملي أن نلقى في أبي زغلو ذات الترحيب الذي لقيناه في قرية الباريس، فقال لي: “لا أمل في ذلك”. ولما رآنا رجال القرية ونحن قادمون نحوهم تفرقوا، كل إلى قطيته ليحرسها من القادمين ، ورفضوا مساعدة رجالي في إنزال أمتعتنا من على ظهور الجمال ، فغادرنا قريتهم بأعجل ما تيسر.
…..
ومضى الكاتب يروي تفاصيل رحلته إلى أن بلغ مجموعة من الرعاة الرحل عرف منهم أنهم من جماعة أبي جردة (الزبالعة). ورحب زعيمهم به وبمن معه. ودار بينهما حوار جاء فيه:
– “أخبرني أيها الزعيم ، ما هو اسم قبيلتكم؟”
“الكل يسمينا بـ “أبو جرد”، أما اسمنا الحقيقي فهو الزبالعة”. (أشار الياس توناولو وريتشارد هيل إلى أن الكاتب (بيلتريم) قد عكس الاسمين. فنقادهم يسمونهم الزبالعة بينما هم يسمون أنفسهم “ناس أبو جرد”.
– “وكم يبلغ عددكم؟”
“ليس أكثر من 300 رجل وامرأة. وننقسم إلى ثلاثة أقسام متساوية العدد تقريبا. نحن قسم واحد وهنالك قسمان آخران يعيشان في الغابة”.
– “كم من السنوات مرت عليكم وأنتم في هذا المكان؟”
“في أوساط العرب ، نحن أقدم قبيلة عربية هنا. نحتفظ بلغة سليمة ، ودماء (عربية) خالصة، وحياة بسيطة (في الأصل متخلفة. المترجم)”.
– “ومن أين أتى أسلافكم؟”
“أتوا من حيث تشرق الشمس”.
– “ولم تركتم بلادكم؟”
“كان آباؤنا رعاة مثلنا الآن ، ويحبون حريتهم أكثر من أي شيء آخر، ويعيشون في الصحراء. وتعرضوا لانقسامات وصراعات وغزوات لأجانب زعموا أنهم انتصروا عليهم. وقاوم اسلافنا الأجانب الغزاة، ولكنهم سئموا من تلك الحروب الدموية فهاجروا وأتوا لهذه الغابات”.
– “هل أنتم مسلمون؟”
“لا. لسنا بمسلمين”
– “وما هو دينكم؟”
“نحن على دين آبائنا”
– “هل تؤمنون بالله؟”
“نعم نؤمن بإله واحد ، الله الواحد ، الذي يتجلى خاصة في النار وفي النجوم”.
– “لذا تحبون النار والنجوم؟”
“بالتأكيد. في حب النار والنجوم نحب الله”.
– “من خلق كل شيء؟”
“الله خلق كل شيء”
– “ومن خلق البشر؟”
“الله هو من خلق البشر”
– “وكيف خلق الله البشر؟”
“لا أحد يدرى ، ولكننا نعلم أنه قد كتب على الإنسان أن يعيش حياته في كبد مستمر ليدافع عن حريته وسلامه اللذين خلقه الله من أجلهما. ولهذا فصل آباؤنا حياتهم عن مجتمع البشر، حيث لا يوجد في مجتمعهم حرية ولا سلام”
– “وكم عدد الذين خلقهم الله في البدء؟”
“لا علم لنا بذلك.”
– “وهل خلق الله الأرواح.”
“بلا شك خلق الله الأرواح التي توجد في السماء / الجنة (heaven)”.
– “وهل تؤمن بأن هنالك روحا أكبر هي سبب الشر، وإن كان الأمر كذلك ، فماذا تسمونها؟”
” نعم . هنالك روح أكبر هي سبب الشر نسميها (الشيطان الأكبر). وهنالك أرواح أصغر تعتمد عليه. وعلينا أن نسترضيهم ونستعطفهم بالقرابين”.
– “وما هي القرابين التي تقدمونها؟”
“نذبح بعض الكباش ، ونذبح ثورا كل عام للنار وللنجوم لأن الله يظهر في النار وفي النجوم”.
– “وأين تصلون؟”
“نصلي قرب النار ، ونحن نرنو إلى النجوم”.
– “وهل سيفني هذا العالم يوما ما؟”
“نعم ، سينتهي هذا العالم يوما ما ، وسيدمر هذا العالم بالنار. ولكن سيولد كل شيء من جديد”.
– “عندما نموت ، ماذا يحدث لنا؟”
“حين نموت سنكون سعداء إن كنا نحبب السلم ، وإلا سيعاقبنا الله . ولا نعلم إن كان العقاب أبديا أم لا”.
-“وهل لله جسم؟”
“لا. ليس لله جسم . هو في كل مكان ، ويتحكم في كل شيء.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. تخلف ما بعده تخلف الناس تذهب الى القمر والمريخ وهؤلاء البؤساء يعيشون عرايا بلا ملبس ولامسكن

  2. Correction

    وربما يعزى ذلك للطرق الصحية

    not
    وربما يعزي ذلك للطرق الصحية

  3. تعليق من قاريء
    ——–
    “الموضوع بجد يشمل أغلب جوانب وأشراط حياة الإنسان. فالقارىء للموضوع خاصة نهايته يتذكر كتاب الله الذي ضرب الله سبحانه وتعالي فيه لنا فيه أمثالاً كثيرة لأقوام خلت….منها من عبد الشمس، والنجوم والأصنام إلخ…فجماعة “الزبالعة” محور الموضوع الرئيسي لهم معتقدات وممارسات شبيهة بتلك التي اعتنقها أسلاف بعض القبائل السودانية.

    مقارنات ومقاربات وأسئلة:
    – التين والرمان والبرتقال من زمان في المنطقة؟ . واه عجباه في أفكار نساء سنار المتقدمة عن أهمية عرض المواليد لاشعة الشمس وتربيتهم عموماً.

    – الجلد بالسياط شبيه بطقوس رقصة الكمبلا عند النوبة.

    – يشبه سير الصغيرات خلف العروس بما يجري عند بعض المجتمعات اليوم وكما في الغرب!!

    – عادة محاولة المتطفلين أيام العرس ومحاولات طردهم ومنع العريس من الوصول إلى العروس متجذرة في نمط حياة قبائل كثيرة في السودان خاصة التي كانت على علاقة بمملكة سنار.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..