تداعيات ما قبل وبعد استقلال السودان والغرق في وحل الميكافيلية و(الميمات الخمسة)1/3

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد أيام معدودات نحتفل جميعاً ونبتهج بمرور 60 عاماً على تحقيق الاستقلال الذي تم في الأول من يناير 1956م. ستون عاماً بالكمال والتمام وماضينا مازال أفضل من حاضرنا حيث مازلنا نتعثر لتحقيق الإستقرار السياسي ونكتب دستور يتفق عليه الجميع . سعينا لنيل الإستقلال لنقود به تطورنا وازدهارنا ونعيش في سلام وأمان ورفاهية ولكن ربما رجعنا إلى الوراء أكثر فكثرت الحروب وتفشي التمرد المسلح في ربوع البلاد وتدنت أسباب المعيشة و الإنتاج وتدهورت الخدمة المدنية والخدمات الحكومية . فقد ذكر أن ابن أحد القيادات الأهلية التاريخية سأل والده الناظر الحكيم “لماذا رجعنا للوراء عما كنا عليه؟” فرد الوالد الناظر :” البرجع للوراء ممكن يمشي للأمام … ولكنا غطسنا تب” . لعلنا غطسنا في وحل سياسي ملئ بالمكابرات والمهاترات والمكايدات والمؤامرات والمزايدات (الميمات الخمسة) وهي بالتأكيد من مخرجات المفهوم السياسي الغربي المعروف بالميكافيلية والمؤسس على ” أن الغاية تبرر الوسيلة ” بمعني أن تحقيق الغاية يتطلب إتباع وسائل حتى ولو لم تتفق مع المبادئ الأخلاقية وبذلك تخالف المبادئ الدينية والخلق الحسن الذي يجب أن يتحلي بها السودانيون من حاكم ومحكوم. وبالتالي لا بد من التخلي عن الميكافيلية و(الميمات الخمسة) في ممارستنا السياسية قاطبة وهذا هو ربما استقلالنا الحقيقي .
وفي اعتقادنا أن إعادة تحليل تاريخ السودان السياسي الحديث منذ الحكم الثنائي عام 1898 م مروراً بالاستقلال عام 1956م وحتى يومنا هذا نجده دائر في حلقة “الميمات الخمسة” المفرغة . فالمكابرات السياسية غالباً ما تخلق جواً مليئاً بالمهاترات التي تقود إلى نصب المكايدات والتي بعدها تتحول إلى حبك المؤامرات التي غالباً ما تطفئ نيرانها بالمزايدات عبر شراء المواقف السياسية وهكذا الدوامة.
فبالرغم من أن كثير من الحِكَّم الشعبية تستنكر وتسخر من إزدواجية الرئاسة . مثل “ريسين بغرقوا المركب”. وهذا التعبير يطلقه سكان النيل ويعبر عن أن استحالة سير المركب في حالة وجود أثنين من الربان بها فيوجها أحدهم يميناً والآخر يساراً فلا تبرح مكانها وحتماً سوف تتقاذفها الأمواج فتغرق . أما لأهلنا الرعاة مثلاً آخر شبيه المعني وهو “تورين ما بقعدوا في زريبة واحدة” لأن الأصل في وجود الثور بالزريبة هو تعشير عبر المزاوجة للبقر لتتوالد وتتكاثر وتدر ألبانها ليتغذي أيضاً منها الإنسان . أما في حالة وجود “تورين” فسوف يتعاركا ويتناطحا منشغلين عن مهمة التزاوج والتعشير لبقية الأبقار. وحظنا العاثر في السودان وقدرنا أن مرحلة الحكم الثنائي قبل الاستقلال يوجد “ريسين” في مركب حكمنا أو ثورين في زريبتنا.
فبريطانيا فرضت إرادتها السياسية على حُكام مصر بدفع تكلفة الحكم في السودان فهي صاحبة القرار الأول بالرغم من أنها لا تدفع شيئاً أي لا تملك قوتها والمفروض أن الذي يملك قوته يملك قراره. فهو إذا وضع مقلوب ومكابرة. وهذا الوضع جعل الجو السياسي ملئ بالمهاترات بين الطرفين فالحاكم العام البريطاني ومعه كبار ضباط الجيش الغزاة من البريطانيين يقودون الحكم وأفراد الجيش المصري في السودان بينما بقية أفراد الجيش من المصريين وغيرهم يأتمرون بأوامر من تدفع الحكومة المصرية رواتبهم فهذا الوضع غالباً ما يولد غبن يؤدي لمهاترات فيما بينهم ثم المكايدات أو كما تقولون ” يحفروا لبعض” حفراً ليقعوا فيها . والوضع حتما يقود إلى المؤامرات كما حدث في مقتل السيرلي ستاك الحاكم العام للسودان الذي أغتيل في مصر عام 1924م حيث قادت تلك الحادثة الي تداعيات منها إنسحاب قوات الجيش المصري من السودان والذين بدورهم تآمروا في مكايدتهم مع البريطانيين بأن حرضوا وشجعوا الضباط السودانيين على التمرد بقيام ثورة 1924م علماً بان هؤلاء الضباط السودانيين تخلي عنهم أفراد الجيش المصري ليلاقي البعض منهم حتفه ويعتقل آخرون حيث كان الضباط المصريون أخلوا بوعد دعمهم ومساندتهم.
نجد أيضاً (الميمات الخمسة) في تعاملهم مع السودانيين فنجدهم تارة يوسعوا في النفوذ الاقتصادي والاجتماعي للسيد/ عبد الرحمن المهدي وتارة يقلصوه وبالمثل مع السيد/ على الميرغني حليف المصريين ، ثم نجدهم يقومون بتوسيع النفوذ الصوفي الآخر وتارة يقلصوه، ثم يوسعوا نفوذ الإدارة الأهلية ثم يحدوها، وكذلك الحال بالنسبة للخريجين والموظفين (الأفندية) ، وكذلك في تعاملهم مع إخواننا الجنوبيين عبر سياسات المناطق المقفولة والبعثات التبشيرية المختلفة .فالميكافيلية السياسية الغربية تحتم عليهم التمادي في إستعمال وسائل الميمات الخمسة بهدف (فرق تسد).
واقعة الاستقلال نفسه عام 1956م وأحداث العقود الزمنية التي سبقتها نجد آثار نظرية )الميمات الخمسة-إذا ما جاز لنا تسميتها- أو فلنقل داء )الميمات الخمسة( العضال حاضرة بشدة حيث لا تخلوا جميع تلك الفترات من المكابرات والمهاترات والمكايدات والمؤامرات والمزايدات والتي على ضوئها يمكن إعادة كتابة التاريخ لنستشف بدقة شواهدها وهذا موضوع علمي وبحثي كبير جداً مكانه مراكز البحوث العلمية ولكن يمكن أن نشير إلى بعض الأحداث المهمة بإقتضاب شديد.
فالحكام البريطانيون في السودان يرغبون في منح السودان استقلاله من مصر بشرط أن يكون السودانيون قادرون على حكم أنفسهم . فوفقاً لكثير من المراجع التاريخية التي من بينها كتاب الدكتور موسي عبد الله حامد ، استقلال السودان بين الواقعية والرومانسية (ص 286) أشار فيه إلى رأي الحاكم العام للسودان السير/ هربرت هدستون في عام 1946م بأنه في تقديره بأن الحكم الذاتي في السودان يتطلب 20 عاماً (أي في عام 1966) إذا ما تم الإسراع في السودنة.
وقد أوضح لاحقاً السير لي دونالد هولي بأنه إستفسر ثلاثة من كبار الموظفين البريطانيين العاملين في السودان عن المدة التي تقتضى قبل أن يصبح السودان بلداً مستقلاً ذا حكم ذاتي كامل. فكانت الإجابات هي 120 عاماً و 80 عاماً و60 عاماً .

[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..