عمدة قرية الصفيراء : هنا النساء ينجبن أطفالهن في النهر!أبناء القرية يدرسون على ضوء الشموع ، والكهرباء مجرد ( ترف )

تحقيق وتصوير : سلمى عبدالعزيز
ظهر ذاك اليوم ، تعمدت الشمس أنّ تتوسط كبد السماء ، أو هكذا خُيل لي ، لفرط ما ألهبت أشعتها الحارقة رؤوسنا ، لعلها أرادت أنّ تسرد معاناة هؤلاء الناس بدلاً عنهم ، أنّ تُشير إلى هذه الأرض القاحلة الجافة ، الخالية من الأشجار ، نعم ، كانت خالية من أيّ غصنا أحضر تلوذ به من هذا الجحيم ، ليتراء إليك بوضوحِ تام الحكمة من ذاك الحديث القائل ( إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا ) .
طريقُ وعر
تقع قرية ( الزليط الصفيراء ) التابعة لمحلية السلام الحدودية بولاية النيل الأبيض على بُعد (36) كيلو من عاصمة الولاية (ربك) ، إلا أنّ الطريق إليها وعر ، حيث يتخلى عنك ( الزلط ) بعد قطع أقل من ربع المسافة ، لتواصل العربة المسير قاطعة كل هذه الكيلومترات على أرض رملية ، وطريق عبدته ( إطارات) السيارات جيئةً وذهابا ، الشئ الذي يجعل مسافة كانت قد تُطوى في دقائق قليلة ، تستغرق (90) دقيقة .
رياح موسمية
الرياح العاتية إذ لا غطاء نباتي يُروضها ، تتحرش بالأرض الرملية ، فتثور مخلفة ذويبعات ترابية كل حين ، الأمر الذي جعل من مهمة التنقل بين أنحاء القرية على بساطتها أشبه بالمستحيلة ، سألت واحدة من فتيات القرية ، والتي ظلت مرافقة لنا طوال تواجدنا هناك ، تُجيب على أسئلتنا اللحوحة بصدرِ رحب ، عن إذا ما كان هذا المناخ السائد ، أم إنّه حظنا الردئ ، لتؤكد أنّه مناخهم الطبيعي في فصل الصيف ، بيد أنّ الأمطار إبان فصل الخريف تضع حداً لتلاعب الرياح بالرمال وتُروض جنوحها .
مدرسة الصفيراء الثانوية
في قلب القرية التي تحتضن قُرابة (500) منزلاً مشيداً من كل ما جادة به الطبيعة من ( طين ، قَنا ، مخلفات الحيوانات ، شولات ، وثياب بالية ) توجد مدرسة الصفيراء الثانوية المشتركة ، وقد بدت بصورة جيدة ، سيما بعد أنّ اكتست جوانبها الأربعة بطلاء أصفر فاقع اللون ، بيد أنّه كما يقولون ليس كلما يلمعُ ذهباً ، انقشع ذلك بعد جلوسنا مع مدير المدرسة البشير عبدالرحيم الخليفة البشير ، حيث كشف لـ(المستقلة) سؤاءة التعلم في ولاية كانت تحتضن فعاليات الدورة المدرسية ، و مكست فيها وزيرة التربية والتعليم د. سعاد عبدالرازق ووزيرها بالدولة عبدالحفيظ الصادق أيام عدة .
لا فصول علمية هناك
يقُول الرجل إنّ المدرسة الثانوية اليتيمة بالقرية تضم مابين حوالي (125 إلى 130 ) طالب وطالبة جميعهم من أبناء القرية ، مشيراً إلى أنّ عددا كبيرا منهم كان يحلم بإنتهاج المسار العلمي ، ويسمح مستواهم الأكاديمي بذلك ، إلا أنّ عدم وجود فصل (علمي) حطم أحلامهم ، فإطروا مكرهين للقبول بالمسار ( الأدبي )، حيث لا خيار آخر ، مضيفاً نُعاني من إنعدام في معلمي المجال العلمي ، وشُح في معلمي المجال الأدبي وبقية الفصول كذلك ، لذلك يُجبر المعلمين على تدريس كافة الفصول في اليوم الواحد . موضحاً أنّ رواتب هؤلاء المعلمين يُسددها الأهالي من حُر مالهم ، فيقومون بجمع مبالغ شهرية يستقطعونها من قوت يومهم ، لتعليم فلذات أكبادهم ، وبالرغم من قلتها إلا أنّها تُسكت إحتجاجات المعلمين وأفواههم .
جامعة النيلين نفر
إبنة عمها التي أحرزت (73) % العام قبل المنصرم متفوقة بذلك على زملائها في المدرسة كافة ، وحلقت نحو الخرطوم للإلتحاق بجامعة النيلين ، باتت قدوتها التي تدحر بها كافة العقبات المتدحرجة أمام طريقها ، مرددة وصوتها الخفي (هي أحسن مني في شنووو؟!) ، كلما زارها اليأس محاولاً الإقتصاص من حلمها ، تُقول مرشدتنا وطالبة الصف الثالث بمدرسة (الصفيراء) ـ فضلت حجب إسمها ـ إنها ليست المرة الأُولى التي ستجلس فيها لإمتحان الشهادة السودانية ، إلا أنّ الحظ لم يُحالفها أنذاك فقررت إعادة الكرة مرة أخرى ، وكُلها أمل بأنّ تجربتها هذه المرة ستُكلل بالنجاح ، كيف لا وقد إتخذت من ( الشمع ) الذي يأتي به والدها يومياً ، رفيقاً يُضئ عتمة الليل ، ويكشف إختباء الحروف في الكتب ، قائلة بتصميم العازم ( حالفة أعوض أبوي تعبو ده كلووو ) ، فحمدت الله على عدم سؤالي وإستفساري عن الكهرباء ، فقد بدت لي وكأنها ( ترف ) لاحاجة لهم بها .
مغارة المعلمين
أنا الآن أمام ( ميز ) المعلمين ، أيّ السكن المخصص لإيوائهم ، وتحديداً السكن الخاص بالمعلمات ، والذي تفصله مسافة ضئيلة عن (ميز) المعلمين ، ولأن الأمر أفظع من أنّ يُكتب ، تركت الصورة تُقول ما تريد ، فهي لاتكذب ولا تتجمل ، هذه ( المغارة ) التي تحتضن أجساد من كاد أنّ يكون رسولا ، آيلة للسقوط تحت أي لحظة ، وقد أكد لي مدير المدرسة ، أنّ مهمة ترميمها تقع على عاتق الأهالي ، والذين يقومون بصيانتها ، إلا أنّ كثرة ( المصاريف ) حالت دون ذلك منذ فترة ، لافتاً إلى أنّهم ـ أيّ سكان القرية ـ يتكفلون بوجبتي ( الغداء والعشاء) للمعلمين يومياً .
رد جميل التعليم
وزير التربية والتعليم بولاية النيل الأبيض حامد عمر حامد الخليفة في رده على سؤال طرحته عليه (المستقلة) ، أقر بوجود نقص في معلمي الميثاق (العلمي) بعدد من قرى الولاية ، بما فيهم قرية ( الزليط الصفيراء ) ، إضافة إلى وجود نقص في الإجلاس في عدد من المدارس ، أشار ” حامد ” إلى عزمهم سد هذه الفجوة ، مُطالباً أبناء الولاية مِن منْ نالوا حظهم من التعليم بضرورة سد الفجوة التي يُعاني منها الميثاق العلمي ، أقلوا من باب ( رد الجميل ) فقط .
مركز صحي يتيم
هناك مثل صيني قديم يقول فيما معناه ، إنّ أردت قياس بؤس شعب ما إذهب إلى مشافيهم ، وهذا بالضبط ما ينطبق على أهالي قرية ( الصفيراء) ، الذين إنّ أراد وزير الصحة بالولاية د. طارق البريقع أنّ يقيس حجم معاناة هؤلاء القوم فليُسجل زيارة إلى مركزهم الصحي اليتيم القابع في وسطها , ولمزيد من التوضيح فإنّ المركز عبارة عن غرفة واحدة مبنية من الطوب الأحمر يتقدمها سقف معروش هو عبارة عن إستراحة تضم (كنبة) واحدة ، يجلس عليها المحظوظون فقط من من وجدوا مساحة خالية ، بينما يتخذ بقية المرضى من الأرض ملاذاً في إنتظار الطبيب ، والذي إكتشفت أنّه ليس بطبيب وإنما مساعد طبي ، وهذا ليس بالأمر الجلل ، على الأقل حسب وجهة نظرهم .
مركز الصفيراء الطبي
المُساعد الطبي الوحيد في القرية جبريل أم بليل خليفة قال في حديثه لـ(المستقلة) إنّ هذا المركز لم يكن على هذا الحال قبل فترة ليست بالبعيدة ـ في إشارة منه إلى أنّ الوضع كان أسوء ، ويُضيف أنّ معاناة أهالي القرية تتمثل في إنعدام الأدوية المهمة ومنقذات الحياة ، إضافة إلى أدوية الأمراض المزمنة ، ويُشير ( أم بليل ) إلى أنّ القرية خالية من ( الكوليرا ) المنتشرة في بعض القرى ، إلا أنّ الإلتهابات والملاريا موجودة وبكثرة ، باعثاً في ختام حديثه برسالة إلى وزير الصحة بالولاية بضرورة زيارة القرية ومد يد العون لمواطنيها إذ أنّهم في أشد الحاجة لذلك .
حادثة مؤسفة
( هنا النساء ينجبنا أطفالهن في النهر ) ، بهذه الجملة إبتدر عمدة القرية وكبير مشايخها النعمان عبدالرحمن حديثه لـ(المستقلة) ، وعندما علت وجوهنا الدهشة ، قال مسترسلاً تُعاني نساء هذه القرية الأمرين ، حيث لا مستشفى بإمكانيات مقبولة ينجبن فيه ، ولاطريق معبد يمكننا من إيصال من داهمها المخاض إلى إحدى مشافي ( كوستي ) ، ويُضيف إنّه في خريف العام قبل المنصرم ، داهم إحدى النساء بالقرية المخاض ، ولسوء الحظ ذهبت ( القابلة ) الوحيدة بالقرية إلى قرية مجاورة لإنقاذ إمرأة أخرى وضعها أكثر صعوبة ، وفي الخريف ننفصل عن كافة من حولنا ، حيث تُحيط بنا المياه ، وينقطع هذا الطريق الوحيد الذي يُوصلنا إلى (كوستي) وغيرها من المدن الأخرى ، فلم نجد حل غير ركوب المركب وقطع النهر للوصول إلى القرية الأخرى ، وإنقاذ المرأة والطفل ، إلا أنّها أنجبت في وسط النهر ، واصفاً هذه الحادثة بالمؤسفة والمأساوية في الوقت ذاته .
مطالب مشروعة
طريق يربط القرية بحاضرة الولاية ويحول دون إزهاق أرواح الأمهات والحالات الحرجة ، فصل علمي يُحقق أحلام فلذات أكبادهم ، مستشفى يليق بإنسانيتهم ، مطالب لا تندرج تحت قائمة المستحيل ، إنّ عزم كُلاً من أصحاب الاختصاص بالولاية تحويلها إلى حقيقة ، إلا أنّ أبو علي محمد ـ أحد أبناء القرية ـ يراها بعيدة المنال وعصية ، وعندما سألته لماذا ؟ ، رد قائلاً : هذا السؤال يجب أنّ تُجيب عليه حكومة الولاية إن أرادت !.
المستقلة