الفن واهميته في إعادة تشكيل الواقع

رزان إبراهيم
«إنك تقرأ شيئا تحسب أنه جرى لك وحدك، لكنك سرعان ما تكتشف أنه حدث قبل مئة سنة خلت، أي منذ زمن ديستويفسكي».
تلك عبارة لبولدوين الروائي الأمريكي الذي تنقل عنه آذر نفيسي في كتابها «جمهورية الخيال» إسهاماته في حركة الحقوق المدنية، وكذلك تعاطفه الشديد مع معاناة الجزائريين المقيمين في فرنسا، كما تنقل عنه بإسهاب شديد عذابات إذلال وكراهية عاشها في فترة من زمن كانت المطاعم الأمريكية فيها ترفض حتى تقديم الطعام لمن هم على شاكلته من أصحاب البشرة السوداء، إلا أن هذا لم يمنعه من حب أمريكا، رأى فيها وطنا من حقه أن ينتقده إلى الأبد. وكان الفن أو الرواية سبيلا من من سبل تحريره وهو المعذب الذي يحسب دوما أنه وحيد. لذلك يصح القول إن في الفنون ما يعين على استمرارية وحياة لا تعين جمهورها أو مستقبليها وحسب، وإنما تعين صانعا لها أراد أن يبقى حيا، فاختار المضي نحو قصته يسردها كلها، أو على حد تعبير بولدوين اختار أن يتقيأ الألم الشديد الذي يصطخب في أعماقه من خلالها.
إذن الفن مهم لأنه كما قدمنا هو السبيل لمداراة الألم، أو حتى رتق شقوق الروح، لذلك ارتأى كثيرون أن أدبا يمليه وقع قلب أنهكه الحزن، أو حتى المرض سيمتعنا لو كان قادرا على قراءة التفاصيل في عمقها الخفي. وهنا تتأكد حقيقة يظهر فيها أن الفن كثير ما يرتبط بقسوة الحياة، ويكون قادرا عبر رهانات اللون والتشكيل على الانتقام من سطوة الموت وجبروته، بل إن للفن أو للألوان والموسيقى امتيازا يمنحه لصاحبه، في لحظات يتعذر فيها التواصل مع الخارج بحرية، فيغدو كفيله للتسامي على الألم، وهو ما ينطبق على أعمال كثيرة تحمل قيمة لا جدال فيها، مثل تصوير جويا للحرب، بما يعد سجلاً جمالياً كان قادراً على تصوير الألم بصوره المختلفة، ومثل السيمفونية الخامسة لبيتهوفن حين حرمته ضربة القدر الظالمة من عالم الأنغام والأصوات، فمضى متسائلا عن الألم وكنهه ليفاجئ العالم بعمل موسيقي بسط فيه آلاما مبرحة، وغيظا مكظوما، ليستحق من بعدها ما يصفه به فاغنر من «أن يده ما فتئت مجاهدة، وجبهته عالية، ووجهه في مصابه يقابل وجه الشمس».
والحق أن الفن لن يكون مهما إن لم تكن الحياة مهمة، والحياة مهمة فعلا، وحين يشوبها نقص، أو حتى حالات عوز شديدة منهكة، يصبح بإمكاننا اللجوء إلى حكايات تصبح وقت الضنك وسيلة مثلى للشعور بأن الحياة مستمرة؛ أعطي مثلا على هذا مشهد تعذيب كان الروائي الفلسطيني عاطف سيف قد رسمه في رواية «حياة معلقة»، وفيه رأينا البطل وقد جابه تعذيبه من خلال تخيلات منحته فرصة إعادة تركيب العالم بما يرضيه، وهو ما اعتاد أن يفعله تماما في بيته أثناء فترات حظر تجوال يفرضه اليهود على الحارات الفلسطينية، فيسرع إلى فرشاته ومخداته يجمعها جاعلا منها بيتا تسكن فيه حيوانات يومية، يرى معها المخدة وقد صارت قطة، والمكنسة زرافة، والخرقة أرنبا، لتصبح حكايات يصنعها بمخيلته وقت الضنك وسيلة مثلى للشعور بأن الحياة مستمرة، وليكون المتخيل هو الملاذ وسبيل الخلاص من ملل يفرض نفسه على البشر، فثمة أحلام مخنوقة تريد أن تخرج، فليكن الفن متنفسنا لها». فمن ذا الذي يوقف الحلم حين تقسو الحياة ويجمد الواقع؟ من يمنع البوذي من تأمل بريق الضوء النافذ من جوف الظلام في لحظات العذاب؟ من يمنعه من أن يرسم الشمس في الهواء بإصبعه؟ يرسمها برتقالة لها عينان وفم مفلطح وأنف جزرة ببهجة القادر على التخيل» ؟
الفن إذن يمنح صانعه متعة إعادة تكوين الواقع أو بنائه من جديد، وفقا لقواعد لعبة يحددها هو لا الآخرون، خصوصا حين يتعاظم العذاب، وما أدق هذه الحالة في رواية «مخمل» لحزامة حبايب، حين جعلت بطلتها تطور عبر سني عمرها الصعبة قدرة بعيدة على تخيل الأشياء بكثير من تفاصيل لونية وصوتية وشمية تملأ صدرها، تفعل ذلك كي تستطيع أن تعيش حياة لم تكن كريمة معها، فكان عليها الإمساك بسعادة ممكنة من خلال فنون موسيقية كانت بالنسبة لها أداتها لمحاربة وخز في القلوب، بل ومنحتها فسحة من أفعال حرة قادرة على خفض مقدار التوتر والعاطفة الحبيسة داخلها.
يبقى أننا نجد من الدارسين من يعزف عن المنظرين السياسيين أو المؤرخين للتعرف على حقيقة الأوطان، ويستبدلهم بخميرة من أدباء وشعراء وفنانين تفرزها المجتمعات بطريقة بارعة، ومن هنا لا غرابة في أن يستشهد محمد حسنين هيكل بالدبلوماسي والأكاديمي ثابت العريس في عبارة يقول فيها: «عندما أريد أن أبحث عن الحقائق الأولى في حياة أي بلد، وعن القواعد السياسية القادرة على تفسير توجهاته، فإنني لا أعتمد كتب التاريخ الموثقة، ولا المذكرات السياسية الصافية، وإنما أتوجه مباشرة إلى الأدب، أسمع من الشاعر والقصاص والروائي أولاً، وبعد ذلك يجيء الدور على المؤرخ والسياسي والدبلوماسي». وفي هذا تأكيد على فنون بإمكانها أن تصبح مدخلا يعيننا ويقتادنا نحو حقيقة يقتضي فعل الوصول إليها معايشة مختلف صنوف الآلام الإنسانية، وبالتالي فإن إنكارا لقيمة فنون أو رواية تقتحم مدارات القسوة الإنسانية يحمل في طياته إنكارا لآلام آخرين اعتدنا من الفنون أن تلفتنا إليها، وأختتم بمعنى تطرحه آذر نفيسي في» جمهورية الخيال» تؤكد فيه على أهمية فنون تعلمنا كيف نعترف بالألم والرعب، وتجعلنا نعرف أننا لسنا وحيدين، وأن ما يتعين علينا أن نفعله في وجه رعب نعيشه، هو أن نعيش، أن نعيش الحياة بطولها وعرضها، وحتى آخر لحظة فيها.
٭ كاتبة أردنية
القدس العربي