عبد الغني كرم الله : الثقافة السودانية مُهمشة لأن النفس أمّارة بالسياسة

يقول في مطلع روايته “آلام ظهر حادة”: “أنا زوج حذاء رجالي، مقاس 42، مشكلتي بدأت مساء الأحد الموافق الأول من إبريل1987 أي قبل ثلاثة أعوام، كنت قبل هذا التاريخ، ممتلئ الوجنات، ولين البطن والظهر، وتمشط شعري سيور جميلة، وأقطن فترينة هادئة، في شارع الجمهورية، يحرسني زجاج قوي مصقول من فضول بني آدم وتوقهم لاسترقاقي، ولمس جسمي الناعم”.

وفي هذه الرواية، الكاتب السوداني عبدالغني كرم الله، أحد الأصوات السردية البارزة في الساحة الثقافية السودانية، مسكون بالبطل “حذاء”، كما يروى لــ”بوابة الأهرام”، والحذاء في التراث رمز لحظ صاحبه، فلا يعرف لم خلق، وما دوره، وما شكله، ولا حتى عصره، وعليه مواجهه هذه القدر، العجيب، والحذاء كان حيًا من قبل “في بقرة في إقليم الأنقسنا الخصيب جنوب النيل الأزرق”، أي هويته الأولى بقرة، ثم هويته جلد، ثم هوية الحذاء “لاشك سخرية من الهويات المؤقتة، والألوان”، حين كان لونه أحمر في البقرة، ثم بنيا في الجلد، ثم أسود كحذاء.

قصة “الحذاء” طويلة، يظنها فلسفية، في ثوب حكي، أي يحكي كي يرمي حجرًا في باله، وفي بال القراء، عن كل شيء، فالحذاء حكى عن نفسه، وعن الجنس، وعن التعري، وعن النوم، وكلها كانت غريبة في عينيه.

يحب “كرم الله” الأسطورة، كخيال واقعي في البال الصوفي، ففي التصوف كل شئ ممكن، بلى كل شيء ممكن، حيث الثراء المعرفي والفكري، وحين تذكر الكرامات في قرية “كرم الله” التي وُلد فيها بالسودان، لا تذكر لمجرد الحكي، والتسلية، ولكن تذكر كحقيقة.

إن الثقافة في السودان، كما يراها “كرم الله” مهمشة تهميشًا عظيمًا، بل تحارب هذه الثقافة، لأن جوهرها يقوم على الحرية، والتنوع، والحكومة الحالية شمولية الاستبداد، بتبرير إسلاموي كذوب، وبسببها ثارت النعرات والفتن وشكوى الأقاليم، كشأن كل العالم الآن المضطرب.

العلاقة بين المثقف السوداني والسلطة، يشوبها عداء سافر، سوى بعض الكذبة، من تآمر على قدسية الثقافة، ومحاربة القبح، ولكن دوما الثقافة ضد السلطة، أي سلطة، ناهيك عن السلطة السياسية، فالأدب ضد سلطة العرف، والتقاليد البالية، بل ضد الجاذبية الارضية نفسها، أي يحن “لجنته، لخياله العظيم، وحيث المنتهى، شد الرحال، في قافلة الأدب، بلا انتهاء.

فهي ثقافة واسعة ومتعددة، جمعت بين الأفرقة والعروبة والتصوف، حيث الدين مشروع اكتشاف ذاتي بلا انتهاء، ثم جاءت الثقافة الأوروبية عبر الاستعمار، فصارت البلاد، في كل شارع منها، عوالم في عالم، مع الثقافة الأولى، الإفريقية حيث هي حواء العالم، وأول من رفع رأسه وحدق في السماء، وهي صاحبة أكثر أهرامات في العالم، في “البجرواية” بلى أكثر أهرامات وأقدم.

والسياسة، يتصورها “كرم الله” أضعفت الاهتمام بالتراث، لأن الشعوب العربية “شعوب سياسية النفس أمارة بالسياسة”، للقمع الطويل الذي وقع عليه، بل لم تمر المنطقة العربية بأية ديمقراطية منذ خلقها، ربما شهور، وينقض عسكري أو حزب شمولي، أو ملك، فصار العقل الباطني للشعب يحن “للحرية، ويحب المقالات الصحفية وأعمدة المجلات التي تتعاطى السياسية وبصورة مباشرة”.

بل حتى الجوائز الأدبية للأدب صارت تمنح لمن يكتب في السياسة، ولكن الأدب له عدة أوجه، ويميل الناس للأدب السياسي، الذي يصور الحروب الأهلية، والعنصرية، والتطرف الديني، والفساد، والسجون، والمجون، كما نشأ أدب يغازل الغرب، ويصوره له البلاد “بعينه هو”، وليس عيننا.

لكن مع هذا هناك أدب سياسي رصين، قوي، حرض الناس على المقاومة ولو في قلوبهم، وكما قال إبراهام لينكون، الرئيس الأمريكي الأسبق، عن قصة “كوخ العم توم”، إنها أشعلت العاطفة الراكدة في القلوب ضد الظلم الذي يقع على الزنوج”، فهناك روايات سياسية ممتعة، لبركة ساكن، وعماد البليك، ورانية مامون، وحمور زيادة، وأمير تاج السر، ساهمت بتطوير الأدب السياسي، وحولته إلى أدب فكري وفلسفي وسياسي رصين، ونالت إعجاب العقول والقلوب معا.
البشائر

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..