سقط عن أجندة الحكومة “حي العمايا” بكسلا.. ثنائية الفقر وفقدان البصر

قصص وحكايات تعج عزيمة وتحدياً يرويها أبطالها

تسعون مواطناً لم يعودوا يبصرون ضوء الشمس

قيادي بالمؤتمر الوطني: المنطقة تحتاج لاهتمام خاص

مواطنون: نعاني العمى والسكن في حي عشوائي

بشير يحيى: ظروف فاقدي البصر أجبرتهم على ممارسة التسول

كسلا: صديق رمضان ــ سيف الدين هارون

عبر ممرات ضيقة لا تزيد مساحتها العرضية عن الثلاثة أمتار وأحياناً مترين فقد سلكنا دروباً متعرجة تحكي عن بؤس قاطني هذا الحي، كان شوقنا إلى مقابلتهم والاستماع إلى حكاياتهم يسبق أعيننا، لجهة أن يجتمع تسعون فاقداً للبصر في حي واحد لا تتجاوز منازله المائتين وخمسين يعتبر أمراً نادر الحدوث وغير موجود في مكان آخر بالسودان، كان العمدة يحيى آدم يحيى القيادي البارز بحي الوحدة بكسلا يسبقنا بخطوات وهو يلقي التحايا على قاطني الحي البائس الذي يحمل حي المساليت، وفي رواية أخرى اسم حي العمايا، ويبدو أن ثمة مودة وعلاقة وجدانية تربط القيادي يحي بسكان الحي ، عموماً قصد الرجل عدداً من فاقدي البصر في منازلهم ولم يجدهم فقد كانوا في ذلك الصباح الباكر في أعمالهم.

حكاية آدم

غير أن منزلاً رابعاً طرقنا بابه وجدنا عائلة موجودة، منزل في غاية التواضع يحاكي تلك التي يقطنها النازحون بغرب البلاد ولا يختلف كثيرًا عن سائر منازل الحي المشيدة من القش والحطب فقط، دلفنا نحوه فوجدنا أسرة بسيطة تعد وجبة الفطور على إناء وضع فوق موقد بلدي يعمل بالحطب، ألقى يحيى التحايا على رجل فعل الزمن فعلته في جسده الهزيل ووجه المليء بالتجاعيد، ولكن حينما آخبرنا آدم بركة إسماعيل أن عمره وصل عتبة السبعين عاماً أعدنا البصر كرتين في ملامحه لأنه يبدو أصغر بكثير عن العمر الذي ذكره غير أنه قطع ضاحكاً بأن عمره الحقيقي، يقول السبعيني آدم الذي كان جالساً على الآرض متحلقاً مع زوجته وابنته وعدد من الأطفال حول إناء الطعام أنه فقد جزءاً من بصره في سن باكرة بمسقط رأسه بغرب دارفور بدار أندوكا جراء حصبة تمكنت منه ، وبعد ذلك انتقل إلي منطقة أبوحجار الزراعية بوسط البلاد وكان يعمل في قرية أبوعرضة في صناعة الطوب، وذات نهار قائظ ذهب مع زملائه الى الاستحمام في النيل إلا أنه خرج منه وقد فقد نظره كلياً بعد أن كان يرى بعين واحدة وكأنما أرادت الثانية التوقف عن الإبصار تضامناً مع رفيقتها الأولى، أصابه حزن عميق وتقاذفته الأفكار غير أنه يقول: لم أعد استطيع العمل ورغم وقوف زملائي بجانبي إلا أنني قررت البحث عن العلاج حتى أتمكن من الإبصار وبعد رحلة طويلة أخبرني طبيب صيني في مستشفى الشوك بالقضارف باستحالة عودة بصري، فيممت وبرفقتي أسرتي قبل ثلاثين عاماً ناحية مدينة كسلا التي ما أزال مستقراً بها، ويصف بركة حياتهم في الحي العشوائي بالقاسية لافتقادهم لكل شيء وأبرزها مياه الشرب، ونفى وقوف جهات حكومية أو منظمات بجانبهم، وقال إنهم يواجهون صعوبات الحياة رغم عدم إبصارهم دون سند وجهة تقف بجانبهم، إلا أن الرجل الذي يحفظ أجزاء كثيرة من القرآن ويتقدم المصلين ظل لسانه يلهج بالشكر لرب العباد رغم ما يعانيه.

شريكة حياة

المفاجأة التي ألجمتنا وأصابتنا بالدهشة أن زوجة آدم بركة أيضا فاقدة للبصر، وفاطمة أرباب المولودة في منطقة مستريحة بشمال دارفور حضرت إلى كسلا قبل عشرين عاماً وهي الزوجة الخامسة لآدم بركة أو فلنقل الوحيدة التي لا تزال في عصمته، في منتصف العقد الرابع من عمرها تتمتع بجمال دارفوري لم يخصم منه عدم إبصارها، أيضاً مثل زوجها تتمتع بحس فكاهي وحس الطرافة، وجدناها تصنع في الطعام وحينما سألناها عن كيف تفعل هذا وهي لا ترى قالت ضاحكة (أحفظ موقع التوابل والزيت والبصل في مطبخي، بل أشعل النار في الحطب وأستطيع صناعة كل أنواع الطعام والجميع بقولوا إني طباخة ماهرة وأهم شيء أن أبو العيال يستمتع بطبيخي)، تقول إنها فقدت بصرها في منتصف العقد الثاني من عمرها وتزوجت ببركة وكلاهما لايرى، قلنا لها كيف اختارك ضحكت خجلاً وأجابت (بالوصف بس)، وتقول إن إعاقة فقدان البصر لم تقف حائلاً بينها والإقبال على الحياة بهمة ونشاط وتفتخر بأطفالها وابنتها عرفة ذات التسعة عشر عامًا التي تزوجت وأنجبت عدداً من الأبناء إلا أنها ظلت ملازمة لوالديها غير المبصرين، قلنا لها (بختك والله لأن أجرك عظيم عند الله) فرغم بساطتها وعدم حصولها على التعليم الكافي إلا أنها أكدت سعادتها بخدمة والديها وإخوانها وأبناءها وقالت إنها نذرت نفسها لخدمتهم جميعاً، وتجد في ذلك متعة نفسية، تعود والدتها للحديث وتؤكد أن فاقدات البصر في الحي يلتقين بصورة راتبة وشبه يومية في تواصل اجتماعي لا يخلو من طرافة و(شمارات)، كما تقول، وتتمنى أن توفر لهم حكومة الولاية مواقع سكنية جيدة لأنهم كما تعتقد يعانون كثيرًا من ضيق منازل الحي العشوائي الذي تقطنه، وعبرت عن بالغ حسرتها على عدم ارتيادها المدارس وهي صغيرة للتعليم وتؤكد أنها لن تترك أطفالها يواجهون ذات مصيرها لقناعتها بأهمية التعليم.

حريق وتكاتف

بعد أن جلسنا إلى أسرة التسعيني آدم بركة الذي ما يزال يذهب يوميًا إلى سوق كسلا الكبير (ليسترزق) توجهنا رفقة العمدة يحيى آدم إلى أسرة أخرى، وكان علينا ونحن نسير بين الأزقة الضيقة أن نتوخي الحذر حتى لا نجد أنفسنا داخل منزل دون استئذان، وذلك لأن معظم البيوت المشيدة من مواد محلية في مساحات ضيقة لا يوجد بها أبواب وأخري بدون سور، لذا كنا نسير خلف العمدة يحيى ونحن نسرع الخطى حتى لا نفقد أثره ، ولجنا إلى منزل ووجدنا مجموعة من الشباب منهمكين في تركيب غرفة جديدة من الحصير والحطب وكنا نعتقد أنه نفير لمساعدة شاب يتأهب لدخول القفص الذهبي، إلا أن عشرينياً كشف عن أن حريق اندلع قبل يوم من زيارتنا قد قضى على ستة منازل بعضها لفاقدي بصر، غير أنه لم يصب أحد بأضرار جسدية، حمدنا الله كثيراً على محدودية الحريق رغم الأضرار التي أوقعها على الأسر الست، وذلك لأنها إذا استمر دون السيطرة عليه لقضى على كل منازل الحي القشية والمتلاصقة، يحكي الشباب بفخر كيف أنهم نجحوا سريعاً في إخماد لهب النيران وحالوا بينه والتهام المزيد من المنازل.

أثناء تواجدنا معهم ومشاركتهم عمليات تركيب الغرفة القشية علمنا أن سكان الحي وفي تجسيد للتكاتف والتعاضد والسوداناوية، تكفلوا بشراء مواد كافية لإعادة الحياة إلى المنازل، وإزاء هذا اجتاحتنا لحظتها مشاعر مختلطة جمعت بين الفرح لهذا التماسك المجتمعي الفريد رغم الفقر المشترك وفي ذات الوقت اجتاحنا الأسى لسقوط هؤلاء البسطاء عن أجندة حكومة تدعي أنها استولت على السلطة من أجل إنقاذ الشعب من الفقر إلا أنها تبدو قد زادته فقرًا.

ذات المشاهد والتفاصيل

بعد أن قضينا مع الشباب الوثاب وقتا قصيراً، وفي ذات الموقع التقينا إدريس عيسى آدم عبد الله الذي كشف عن أنه فقد نظره حينما كان في ريعان شبابه حيث لم يتجاوز وقتها عمره العشرين عاماً، وقال إنه كان يعمل في اقتلاع الأشجار وتكسيرها وأن (عوداً) أصاب إحدى عينيه، وبمرور الزمن فقد بصره كلياً، ويقول الرجل الذي يبلغ من العمر تسعين عاماً إنه تزوج من تسع زوجات، وقال إن لديه عددا مقدراً من الأبناء والبنات، كنا نعتقد أن الرجل التسعيني قد أناخ راحلته، ووضع عصا الترحال، ولزم داره إلا أنه يؤكد ذهابه بصورة راتبة إلى سوق كسلا الكبير، ولما سالناه عن مهنته شعرنا بالندم حينما صمت برهة، وقال: (لا يمكن أن نعمل بداعي فقداننا نعمة البصر ولكن يوجد من يساعدنا، وصدقوني كل فاقدي البصر يمدون أيديهم طلباً للمساعدة ودواخلهم تتقطع ألماً ولكنهم مجبرون)، ومثل غيره فقد شكا من سكنهم في حي عشوائي يفتقد أبسط المقومات، وقال إن كل ما يتمنونه أن يسكنوا مثل غيرهم مواطنين سودانيين في منازل تحترم إنسانيتهم.

نورا ونور البصر

كانت تجلس داخل الراكوبة نورا عبد الكريم وهي أم لعدد من الأطفال، وفي الثلاثين من عمرها قالت بكلمات خافتة وجدنا صعوبة في فهمها وسماعها أنها خرجت إلى الوجود وهي مصابة بالعمى الكلي، غير أنها قطعت بأن هذه الإعاقة لم تحل بينها وأداء كافة واجباتها المنزلية، أما عبد الكريم محمد عبد الرحمن الذي يبلغ عمره 67 عاماً فقد أشار إلى أنه فقد بصره قبل أربعين عاماً وأرجع السبب إلى عمله قي قطع (القش) مبيناً أن له عدداً من الابناء في أعمار مختلفة.

وحيد في غربتو

أما أكثر قصص فاقدي البصر إيلاماً فقد تجسدت في حكاية جمعة إدريس صالح الذي وجدناه يجلس وحيداً في منزل به غرفة من القش وراكوبة، تبدو عليه آثار المرض، قال إنه يقطن وحيداً بعد وفاة اثنين من أبناءه وذهاب الابن الثالث بعيدًا عنه بحثاً عن العمل، مبيناً أنه فقد بصره في العام 2006 بعد ?صابته بالتهاب في عينيه، موضحاً أنه يقضي كل الأعمال المنزلية وحيدًا دون مساعدة أحد، لم نشأ أن نسأله عن زوجته حتى لا نزيد من أوجاعه.

الحزن والعمى

فاطمة عبد الله محمد وجدنا صعوبة بالغة في التواصل معها لتحدثها بلهجة محلية تخص قبيلة المساليت ولم نجد غير الاستعانة بابنة من تحدث لنا أولاً آدم بركة فأدت الشابة عرفة مهمة الترجمة، وهي توضح أن فاطمة فقدت بصرها بسبب البكاء المتواصل عقب وفاة ابنها الذي كان في الثانية عشرة من عمره، موضحة أن لديها ابنة متزوجة أما شريك حياتها فقد وافته المنية.

جفاف وتصحر

العمدة يحيى عبد الله يحيى القيادي بولاية كسلا وحي الوحدة يرجع وجود حي العمايا الى منتصف عقد الثمانينيات، وقال في حديث لـ(الصيحة) إنهم الوافدون الى كسلا بداعي الجفاف والتصحر الذي ضرب الإقليم الغربي، استقروا بمنطقة تقع على مقربة من سوق حي الوحدة الذي يقع في الضفة الغربية لنهر القاش موسمي الجريان، ويستدعي العمدة يحيى تفاصيل الماضي، وقد ارتسمت على محياه ابتسامة حينما أشار إلى أن السكان المحليين بحي الوحدة وهي المنطقة التي يقطنها ــ وساهم مع آخرين في توفير كافة خدماتها ــ احتضنوا القادمين من خارج المدينة التي انصهرت فيها الكثير من القوميات بترحاب وتعامل إنساني بوصفهم أشقاء وشركاء في الوطن، ويشير إلى أنهم بعد ذلك استقروا في أرض ساقية تقع شمال الوحدة وذلك منذ عشرين عاماً ويزيد، مبيناً أنهم باتوا جزءا من حدود الحي يتمتعون بكافة الخدمات المتوفرة ويتواصلون مع الجميع بأريحية، وقال إن منطقتهم تحمل أكثر من اسم منها بئر ياي وأن حي العمايا أيضا له اسم آخر وهو حي المساليت ، وقال إن معظم الأحياء في كسلا تحمل أسماء قبائل، ويلفت إلى أنهم في اللجنة الشعبية بحي الوحدة عملوا على توفير مساحات سكنية ثابتة لسكان حي المساليت ووجدوا ساقية المواطن حسن محمد شيخ إدريس الذي وافق على التنازل عنها مشكورًا وهذا ما جعل وزير التخطيط العمراني السابق يؤكد إسهامهم بتحويل غرض الأرض إلى سكنية، الى أن يحيى يكشف عن أن الحصول على أرض الساقية يتطلب تنازل ورثتها، لكنه يقطع بإجرائهم مسحاً اجتماعياً شاملاً توطئة لانتقالهم إلى حي سكني جديد يكون مخططاً وتتوفر فيه الخدمات، مبينًا أن عدد الأسر يبلغ 250 .

أسباب متفاوتة

وحول إصابة عدد مقدر من السكان بالعمى أشار العمدة يحيى الى أن عددهم في الحي الصغير المساحة والمحدود المنازل يبلغ تسعين مواطناً ومواطنة في أعمار مختلفة، وقال إن أسباب فقدانهم البصر تتفاوت بيد أن الإصابة بالحصبة في سن باكرة بغرب البلاد تعتبر عاملاً مشتركاً جعلهم لا يبصرون، ويرفض العمدة يحيى الذي في ذات الوقت قيادي بالمؤتمر الوطني اتهامنا للجهات الحكومية وأذرع الحزب الحاكم بعدم الاهتمام بقضايا سكان حي المساليت الذين يحكم الفقر قبضته عليهم، ويوضح أن وزير الشؤون الاجتماعية السابق محمد طاهر موسى سجل زيارة للحي وأسهم في تنفيذ يوم صحي عبر مؤسسة مكة لطب العيون، غير أن يحيى يعترف بعدم مساعدة ديوان الزكاة لستة مرضى تقرر إجراء عمليات جراحية لهم حينها ولم يسدد المبلغ المالي المطلوب، ويقول إن ديوان الزكاة رغم ذلك منحهم في أكثر من مناسبة دعومات عينية خاصة في شهر رمضان.

ظروف وتعقيد

وبأسى، يشير يحيى الى أن ظروف فاقدي البصر الحياتية غاية في الصعوبة، لذا فإنهم يلجأون مكرهين إلى ممارسة التسول من أجل الحصول على ما يسد رمقهم، ويعتقد أن كل سكان الحي وفاقدي البصر على وجه الدقة يبدون في أمس الحاجة لدعم الدولة ووقفتها بجانبهم، وقال إن النساء المصابات بالعمى بالحي يعتبرن أنموذجاً في قوة الإرادة وذلك لأن المتزوجات منهن يؤدين واجباتهن المنزلية كاملة، وقال: (أتناول معهم الطعام كثيراً، وسبحان الله فإن طبيخ النساء المصابات بالعمى مذاقه جميل)، ويتحدث العمدة آدم بشيء من الفخر والإعزاز عن فاقدي البصر ويؤكد أنهم يتصفون بعزة نفس وكبرياء وأن المتسول منهم لا يلح في طلب المساعدة ويرضى بما قسمه الله له، مشيداً بتكاتف سكان حي المساليت أو العمايا كما يطلقون هم أنفسهم عليه بشي من الطرافة، وقال العمدة آدم إنهم ما يزالون يتناولون وجباتهم في جماعة، ويجدد العمدة يحيى آدم مناشدته للجهات الحكومية والمنظمات بالوقوف بجانب سكان حي المساليت خاصة فاقدي البصر ويثق في أن والي كسلا آدم جماع سيخصهم بزيارة لتفقد أحوالهم.

الصيحة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..