جدل التهام الآلهة وأكل النفس!!

جدل التهام الآلهة وأكل النفس!!
تيسير حسن إدريس
[email][email protected][/email]
(1)
التهم الكفار في الجاهلية الآلهة التي صنعوها بأيديهم من التمر حين مسغبة، وكذا تفعل “الهرة” بأبنائها إذا مسها الجوع ولم يتبق من “ملهاة” شيوخ “الإنقاذ” المستمرة منذ ربع قرن سوى المرحلة الحاسمة من المسيرة “القاصدة” وهي مرحلة “أكل النفس” أم حسبتم أن بين المولى عز وجل ودعاء المظلومين من حجاب؟!.
(2)
ما تم فجر الخميس الماضي، وأعلن على أنه محاولة تخريبية ما هو إلا تدرج طبيعي لمسيرة التآكل الداخلي في جسد جماعة الإخوان المسلمين التي بدأت بمفاصلة الشيخ حسن الترابي لشيوخ الدعوة والإرشاد مجموعة الشيخ الصادق عبد الله عبد الماجد ومفارقة النهج الإصلاحي والدعوي والانغماس في السياسة مرورًا بمشاركة الدكتاتورية المايوية عبثها، ومن ثم ارتكاب جرم هدم النظام الشرعي بانقلاب عسكري في 30 يونيو 1989م سعيا وراء حلم “الإمارة” لتصل ملهاة الشيوخ قمة تجلياتها الدراماتيكية بالمفاصلة الشهيرة في نهاية القرن الماضي التي أكل فيها المؤلفة قلوبهم من الحواريين إله التمر، وتنكروا لفضله بعد أن ذاقوا الثمرة المحرمة.
(3)
ستظل لعنة الانقلاب المشؤوم على النظام الديمقراطي تطارد “الإخوان” وتلاحق الكيان الذي تضخَّم وترهَّل بما اكتنز من أموال الشعب وستتواصل مسيرة التآكل الداخلي العاثرة بصور وأشكال متفاوتة في العنف والسفور حتى تجهز “الهرة” على كافة بنيها، ومن ثم تشرع في أكل النفس جزاءً وفاقًا لما اقترفته الأنفس الشقية من جرائم وآثام في حق الوطن، فما أتعس مآل الجماعة التي تجد نفسها اليوم عاجزة عن إيقاف مد التآكل إذ غدا قدرًا مقضياً حين أضاع الشيوخ من فرط التكالب على متاع الدنيا الغرور كل الفرص التي لاحت لإنقاذ النفس الأمارة بالسوء من سوء هذا المنقلب.
(4)
إن تقليب أمر المحاولة الانقلابية أو التخريبية على حد زعم السلطات الرسمية على كافة الأوجه والتمعن في المعطيات الشحيحة التي توافرت لا يقود إلا لنتيجة واحدة مفادها أن المحاولة هي استمرار لصراع مراكز القوى داخل النظام الحاكم التي أغراها مرض الرئيس البشير فاستعجلت أمر “الخلافة” خاصة والمناخ العام مهيأ يرقب التغيير بعد أن غرق الوطن في طوفان من المعضلات السياسية والاقتصادية والمهددات الأمنية التي تكاد تعصف به وتذهب بريحه.
(5)
كما لا يمكن تجاهل عامل آخر أضحى يشكل قوة ضغط على النظام ويرمي بظلاله السالبة على منسوبي الحزب الحاكم الذي تضخمت عضويته الانتهازية والنفعية في ظل شح واضح في الموارد المالية نتيجة لشيوع الفساد والسياسات الاقتصادية العشوائية ما أدَّى لتقلص الكيكة التي كان الجميع منشغلا بنهشها في الأيام الخوالي التي تدفقت فيها عائدات النفط، الشيء الذي قاد لتململ العضوية الشرهة الراكضة وراء مصالحها ليس إلا.
(6)
وبتوقف عائدات النفط الذي ذهب مع الريح بدأت تدب الخلافات وتتعقد بين شيوخ الزهد، وأصبح كل فريق يرصد حركة الآخر رصدا دقيقا ويكيد له كيدا عظيما، واحتدم الصراع على ما تبقى من فتات فكل مركز من مراكز قوى السلطة يريد التكويش على أكبر قدر من الامتيازات تؤهله لإكمال إمبراطوريات منسوبيه التجارية الخاصة قبل أن تنضب بقية موارد الدولة.
(7)
فالأعمال التجارية والشركات الخاصة غدت من أهم ميادين التنافس بل التفاخر بين شيوخ السلطة الرسالية، وأمسى من الطبيعي أن تجد الشيخ منهم وزيرا للخارجية وتاجرًا للأسمنت في نفس الوقت، أو وزيرا للدفاع وصاحب شركة للبناء والتشييد أو وزيرا للزراعة ومالك لمجموعة شركات تعمل في مجال توريد مدخلات الإنتاج الزراعي، وهكذا ضرب بقانون الخدمة المدنية الذي يحرم مثل هذه النشاطات عرض الحائط، واستشرى الفساد ونخر عضد الدولة، وفقهاء السلطان دائما على أهبة الاستعداد لطبخ الفتوى المحللة لكل من التبس عليه أمر الحلال والحرام وشابه الشك في الأمور المتشابهات “وخلوها مستورة”.
(8)
في ظل هذا المناخ الذي تفوح منه روائح الفساد المنتنة التي كشفت ظهر الشعارات البراقة وهزمت حناجر التهليل والتكبير اندفعت مجموعة من “الإخوان” تبحث عن مخرج يحفظ للجماعة بعض من ماء وجهها، فجاءت فكرة بعث الحركة الإسلامية من لحدها عبر المؤتمر الثامن على أمل إنقاذ ما يمكن إنقاذه ولكن خاب فال المصلحين وأصيب أصحاب المبادرات من القيادات أمثال د. غازي صلاح الدين، ومن الشباب “السائحون” بخيبة أمل كبيرة في مخرجات المؤتمر الذي تحول لمهرجان خطابي فارغ ولم يتطرق لجوهر المأزق الذي تراه قلة من العضوية وتعمى عن رؤيته الأغلبية المتشبثة بمصالحها وامتيازاتها ومنكفئة على الذات.
(9)
أصابت مخرجات المؤتمر الثامن للحركة الإسلامية التيار الإصلاحي بغصة في الحلق، فقد جاءت فقيرة كرست الصورة المقلوبة وجعلت من الحركة الإسلامية تابعا مهيض الجناح لحزب المؤتمر الوطني، واختير لأمانتها رجل يعتبره كثير من “الإخوان” ضعيفا وليس عنوانا صحيحا لهذه المرحلة الخطرة ليكتمل تدجينها وتظل قابعة تحت “إبط” السلطة الحاكمة وحزبها وبهذا أسدل الستار على المبادرات الإصلاحية السلمية وسدت سبل ومنافذ الحوار ولم يتبق أمام الداعين لها سوى خيار “ركوب الصعب” فجاء الإعداد للمحاولة الانقلابية في هذا السياق.
(10)
من السخف تجريم كافة القوى الإسلامية وبينهم أفراد ومجموعات صادقة الوطنية ولكن نهج الجماعة المعطوب القائم على الاستعلاء وتجهيل المجتمع جعل هذه الوطنية بحجم الكيان التنظيمي للإخوان فقط بحيث يتماها الوطن كليا، ويتلاشى في الجماعة حتى لا يكاد “الأخ” منهم يبصر أبعد من أرنبة أنف التنظيم رغم ادعاء العالمية!! وهنا تكمن العلة المنهجية التي أجهضت وأقعدت مبادرات “الإصلاحيين” التي انصب اهتمامها على المعضلات الداخلية وأهملت الشأن العام ولم تهتم بمعضلات الوطن إلا بالقدر الذي يبقي السلطة حكرا في الأيادي “الطاهرة” فالنهج الإخواني يكرس لمبدأ “الجماعة هي الشعب والشعب هو الجماعة” وهو لعمري نهج قادر على تمزيق وهدم أي مجتمع بشري ولو كان أفراده من الملائكة دع عنك “فسيفساء” المجتمع السوداني.
(11)
لذا فمن العبث قراءة وتحليل المحاولة الانقلابية، أو التخريبية كما تسميها السلطة الحاكمة سياسيا بعيدا عن هذا الفهم والنهج الإخواني فالصراع الدائر اليوم وسط القوى الإسلامية المختلفة مرتكزه الأساسي كيفية المحافظة على السلطة المطلقة حكرا لا يبلى ومنع تسربها من بين أنامل كرادلة التنظيم، ومهما اختلفت الرؤى والمقاربات إلا أنها في نهاية الأمر تتفق على ضرورة التمسك بهذا المكسب وعدم إتاحة الفرصة لأي قوى سياسية أخرى للمشاركة إلا عبر رؤيتهم الإسلامية العروبية وفي هذا تتجلى مأساة الوطن، وتكمن حقيقة مأزقه الوجودي.
(12)
إذن هو صراع ليس لشعب السودان ناقة فيه ولا جمل ، فآخر اهتمامات الجماعة المنشغلة بأمر إنقاذ المركب الذي تناوشه أنواء الفشل هو الوطن المنكوب والمواطن المغلوب، والتيارات المتصارعة تعمل كل وفق رؤيته من أجل هدف واحد هو تأمين بقاء السلطة وامتيازاتها من الضياع وهم على يقين راسخ من أن غرق المركب يعني ضياع الملك وذهاب ريح المكاسب وانهيار تجربة الدولة الثيوقراطية، لذا فمن العبث أن تنشغل الجماهير بمثل هذه الصراعات التي تصرفها عن قضاياها الحقيقية وصراعها الأهم مع النظام الفاشل وقديما قيل “شهر ما عندك فيهو نفقة ما تعد أيامه”
** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون.
تيسير حسن إدريس 28/11/2012م
صديقي تيسير
شكرا على هذا التحليل الجميل كما عودتنا دائما بارك الله فيك.
المشكلة في ان هذا سيؤثر علينا بتردي الحال أكثر. الأفيال تتعارك وتتأذى الحشائش.
ومعضلتهم الكبرى تكمن في أنهم يرون أن لديهم الحق ويملكون الحقيقة المطلقة. لأنهم يظنون أن منهجهم رباني وجاءوا لتطبيق شرع الله والدولة الإسلامية وهكذا. فسقطوا في وهم إمتلاك الحقيقية. وأجعص جعيص منهم أو كما ذكرت الوطني يمكن أن يعترف لك اليوم بالفشل ولكنه يعود ليرى ان التطبيق كان خطئا. فندخل ثانية في جدلية. ان الذين طبقوا المنهج انحرفوا عنه ونبدأ جدلية الآلهة الجديدة من جديد.
وهذا ما تستشفه من مقالات الدكتور عبد الوهاب الأفندي والبروفيسر الطيب زين العابدين، فبالرغم من إعترافهم بالفشل لكن سويداء قلوبهم تقول ان الخطأ في التطبيق وليس في المنهج المعطوب نفسه.
وفي رأيي إن هؤلاء أخطر من العرفناهم خلاص والناس كلها عرفتهم. فالجدد ينتظرون دورهم لندخل في دوامة ثانية. فيجب أن يقلع منهجهم إقتلاعا.