«قمر المشترى» لكورنيل موندروتسو: مهاجر سوري له قدرات خارقة!

نسرين علام
كان ـ : في فيلمه «قمر المشترى»، الذي يشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان في دورته السبعين، يقدم المخرج المجري كورنيل موندروتسو ما نحسه واحدا من أغرب التناولات التي شاهدناها لأزمة المهاجرين السوريين في أوروبا. فيلم طموح في فكرته، مرتبك في تنفيذه، ومربك تأويلا. نشاهده فنتساءل: أهو تعبير عن التعاطف مع اللاجئ السوري المظلوم؟ هل هو تسطيح وتبسيط لقضية شائكة مثل اللجوء؟ هل يقدم رؤية ناقدة رافضة لهستيريا لوم المهاجرين واضطهادهم؟ هل هو قصة دينية عن الخلاص والغفران؟ هل تعود أصوله إلى قصص الأبطال الخارقين للعادة؟
قد لا تنتهي التساؤلات عن الفيلم، وقد لا نجد لها إجابات شافية، ولكن ما يسعنا قوله هو إن الفيلم مشتت، رغم طموحه الفكري والإخراجي، وإنه جاء مطولا أكثر مما تحتمل الفكرة. يقدم الفيلم فكرة تقف على أعتاب الخيال العلمي أو الخيال
الأسطوري الديني: الطرح الرئيسي في الفيلم يرتكز حول لاجئ سوري شاب يطلق عليه ضابط مجري النار مرارا أثناء محاولة عبور الحدود، ولكنه يبقى حيا معافى لم يمسسه سوء رغم الرصاصات القاتلة التي تخترق جسده، ويكتسب إثر ذلك قدرات خارقة، أقرب إلى قدرات الملائكة. يصبح قادرا على الارتفاع عن الأرض والطيران.
جوبه الفيلم ببعض صيحات الاستهجان بُعيد انتهاء عرضه الصحافي في كان، وعلنا نجد للاستهجان بعض التبرير، فالفيلم يقدم خليطا غريبا مشوشا من الأفكار والطروحات، فيلم لا يحلق بنا فى ذرى الفكر والأحاسيس ولا يسقط تماما في الإخفاق، ولكنه يبقى معلقا في الهواء متأرجحا بين النجاح والفشل.
يستقي الفيلم عنوانه من حقيقة علمية، وهي أن لكوكب المشتري 64 قمرا، من بينها قمر يدعى «يوروبا»، كما لو أن اللاجئين السوريين يواجهون من الصعاب ومن المخاطر والأهوال الكثير للوصول إلى هذا القمر بعيد المنال: أوروبا.
أريان دشتي (الممثل المجري الشاب زوسمر ييغر) هو الشخصية للمحورية في الفيلم، شاب عشريني سوري من حمص، يصل إلى الحدود المجرية في قارب يحمل أعدادا ضخمة من المهاجرين، ينقلب القارب وينفصل أريان عن والده وسط الذعر والفوضى والصراخ، الذي يسود الأجواء بعد انقلاب القارب. يصبح بعدها لأريان هدفان: أن ينجو بنفسه من رصاص شرطة الحدود المجرية، ثم أن يلتقي والده في المكان الذي كانا اتفقا على اللقاء فيه إذا ضاعا عن بعضهما بعضا، أو إذا تقطعت بهما السبل.
يبقى الفيلم وسط الواقع المعاش لمعاناة اللاجئين ومحاولاتهم النجاة والفرار، ومحاولات الشرطة لتعقبهم نحو عشرين دقيقة، ويبقى الفيلم محافظا على واقعيته خلال هذه المدة. تتعقب الشرطة اللاجئين وتقبض عليهم، ليجدوا أنفسهم محاطين بالكثير من التعسف والظلم والاضطهاد والفساد والاستغلال لوضعهم. يضطرون مجبرين لدفع الرشى من مالهم القليل، حتى يتمكنوا من الفرار إلى داخل الأراضي المجرية. ويبدأ التحول نحو البعد الخيالي والأسطوري، بعدما يصاب أريان برصاصات يفترض أنها قاتلة من ضابط شرطة، نعرف لاحقا أن اسمه لازلو (غريغور سيهالمي). يسقط أريان على الأرض متأثرا بالرصاص، الذي نظن للوهلة الأولى أنه ارداه قتيلا، ولكننا نراه إثر ذلك ينهض من رقدته ليكتشف أن الرصاص لم يقتله، بل إنه اكتسب القدرة على الارتفاع عن الأرض والتحليق، ثم الهبوط دون أن يمسسـه أذى.
يكون الشاهد الأول على قدرة أريان الخارقة على الطيران غابور شترن (الممثل الجورجي ميراب نينيدي في دبلجة غير مقنعة للإنكليزية والمجرية)، وهو طبيب مجري فاسد يعمل في مخيم ضخم للاجئين، ويتلقى رشى من اللاجئين لتمريرهم إلى المستشفيات بدواع طبية، ومنها إلى داخل المجر. شترن ليس متدينا، فهـو في الواقـع قد هـجر الديـن والله تمــاما، ولـكن التفسير الوحـيد الذي يطـرأ على باله لقـدرة أريـان علـى الطيران، وعلى أن الرصـاص الـنافذ لم يقــتله، هو أن هذا الشاب السوري معجزة إلـهية حقة أو مـلاك في صــورة بشــر.
علاقة ملتبسة تجمع بين شترن وأريان، علاقة تتراوح بين التقديس والاستغلال. فشترن يقر بأنه شهد معجزة حقة في قدرة أريان على الطيران، ولكنه لا يتورع عن استغلاله لجمع الأرباح. يصحب شترن الشاب السوري الذاهل في جولة في الكنائس والمشافي وبيوت من أصابهم مرض عضال، أو من يعانون من سكرات الموت، ليظهر في هذه الجولة قدراته الخارقة، ويجني الطبيب على إثرها الأرباح من وراء هذه الأعجوبة. كما أن شترن، رغم فساده، يفتك به إحساس قوي بالذنب والألم، فهو لخطأ طبي ارتكبه كان السبب في وفاة مريض شاب في غرفة الجراحة.
أريان إذن هو نموذج للاجئ الذي يواجه كل صور الاستغلال والاضطهاد، ولكنه أيضا المخلص من الخطايا والذنوب. إنه الضحية الذي استحال يسوعا مخلصا، والذي يدير الخد الآخر مهما تلقى من صفعات أو تعرض لاستغلال.
لعل أكثر ما يجذبنا في الفيلم هو هذه القدرة على التحليق التي اكتسبها أريان، تجذبنا بإبهارها البصري وكفكرة. طالما تقف الحواجز والحدود والجنود والأسوار في وجه اللاجئ، فهو محاصر في بلده الذي لم يعد قادرا على العيش فيه، ومرفوض إذا حاول دخول أرض جديدة. يبدو أحيانا أن حلم الطيران هو المعجزة الوحيدة، حتى يمكن للاجئ الذي ضاقت به الدنيا على رحبها، من خلالها أن ينفذ عبر الحجب إلى أرض الحلم، حيث يجد السكينة والراحة.
ليت المخرج اكتفى بهذا الحلم السعيد عن تخطي الحواجز والحدود والتعنت بالتحليق إلى ما هو أرحب، لكن الفيلم يأتي متشظيا متشعبا مليئا بالقصص الفرعية، من بينها هجوم إرهابي ومطاردات من شرطة مكافحة الإرهاب. يدخل الفيلم في دائرة من التطويل والضياع في متاهات فرعية، فيفقد الكثير من زخمه، ونفقد نحن الكثير من حماسنا لمتابعته.
«القدس العربي»