الجيل الأخير
الجيل الأخير
سعيد حمدان
محظوظ أنت- عزيزي القارئ- لأنك تعيش اليوم لحظة تاريخية، فعند كل صباح تمر بالشارع تشعر فيه بالناس والحياة والأخبار من خلال رزم الجرائد (الطازجة) المكدسة عند مختلف التقاطعات، وترى بائعاً يؤشر لك من بعيد يدعوك للمطالعة، تجلس في المقهى وتجد أنواع الصحف في استقبالك، تذهب إلى عملك وتجدها تنتظرك على المكتب، وهي معك في البيت والسيارة والطائرة والمزرعة والبر ووسط البحر ، إنها تصاحبك في كل مكان.
محظوظ لأنك قد تنتمي إلى آخر جيل عاصر الصحافة الورقية، فاليوم يمكنك أن تتصفح هذه الجرائد وتقرأ لهؤلاء الكتّاب الذين عاشوا معك زمناً وأضافوا لك فيه شيئاً من علم أو ثقافة أو بهجة أو ساهموا في تحديد مسار فكرك أو غيروا درب حياتك، تستمتع بهذه اللحظة التاريخية، فأطفالك الصغار قد لا تكتب لهم مثل هذه الفرصة!.
ليس ذلك تطرفاً أو إغراقاً في التخيل أو ترديداً لنظريات المتشائمين، إنه جزء من الحقيقة التي نعيشها في الحاضر، فقبل سنوات قريبة كنا نناقش ظاهرة الصحافة الإلكترونية وتأثيرها على الورقية، ندرس بكل جدية في ذلك الزمن هل نفرض رسوماً على الدخول إلى مواقع الصحف الإلكترونية، أو نتركها كخدمة دعائية للجريدة، وهل تكون على شكل نص أو مجرد صورة، وبعضهم كان يناقش إذا وضعنا الصفحات كاملة هل نضعها بالإعلان التجاري، أم نفرض رسوماً أخرى على المعلن الذي يرغب في أن يظهر إعلانه إلكترونياً، أو هل نضع الجريدة بأكملها أم مجرد مقتطفات منها، ومتى يتم بث المادة، هل مع صدور الصحيفة أم في ساعات متأخرة حتى لا تؤثر على التوزيع والمبيعات الورقية.
اليوم عندما نتأمل الواقع الذي وصلنا إليه ونتذكر تلك النقاشات والدراسات والنظريات المتشائمة أو الجريئة في تحمسها للثورة التكنولوجية، لا نملك إلا الضحك، كيف أن التقنية ضحكت علينا جميعاً وتجاوزت كل تخوفاتنا وتطلعاتنا، وساقتنا إلى واقع آخر، وتطور لم يخطر على بال أحد.
ذلك الجيل الذي كان يناقش قبل عشرين عاماً تأثير التكنولوجيا على الصحافة الورقية يبدو أنه انقرض أو أحيل إلى التقاعد، فلم يعد له صوت، لا تبرير عنده ولا مزيد من التنظير، ودعوات الانتظار والترقب واكتشاف الحلول بعد وقوع الحدث أو الأزمات. لقد غرد إعلام القرن الجديد بعيداً.
مستقبلًا سنضطر إلى الذهاب للمتاحف ومراكز الوثائق لنشرح لأولادنا، ماهية الصحيفة في العصر الماضي، وكيف كنا نكتب أو نقرأ جريدة ضخمة في شكلها وحجمها، ونضطر أن نلفها لكي يمكننا حملها، سنخبرهم أننا كنا نكدسها لتكون مرجعا أو نعود لقراءتها يوماً، لكن الطبيعة في حالات كثيرة تقضي عليها فيصفرّ لونها ويبهت حبرها، أو تتغذى عليها الحشرات أو يتلفها المطر سريعاً إذا جاء إلينا ووجدها في طريقه.
لو بقيت الصحافة الورقية عقداً آخر من الزمن، فإن جيل الكبار والذي لا يزال آخر رجالاته ونسائه يعيشون بيننا في هذه الصحافة، سينقرض ويتخلى عن مكانه، ولا يوجد له امتداد أو شبيه، فهذا الجيل عاش زمن العمالقة وتأثر بهم ومثّل تكملة لهم في الثقافة والأخلاقيات والمهنية. صقلته الممارسات وأنضجته تجارب ومماحكات السنين، وأخذ الخلاصة. إنه المدماك الأخير الذي لا بديل عنه في عالم الصحافة والإعلام عموماً.
سعيد حمدان
الصحافة