شاهد على تجربة تحديث الإمارة..أحمد آدم: دبي بدأت تسجيل الأراضي قبل أكثر من نصف قرن

إعلان طلب وظائف نُشر في إحدى الصحف السودانية: مطلوب خبير في تنظيم وإدارة وتسجيل الأراضي، في دائرة الطابو بدبي. قرر أن يجرب فعسى أن يحظى بالوظيفة، وسرعان ما جهز مغلفاً يضم سيرته الذاتية وشهادات خبرته، وأرسله إلى صندوق البريد المرفق بالإعلان، وما هي إلا خمسة عشرة يوماً، حتى كان يحزم حقائبه متأهباً للرحيل عن وطنه السودان، إلى وطنه الثاني الإمارات.

كانت دائرة الطابو آنذاك تتبع دائرة محاكم دبي، وهي تعد أول دائرة خاصة تتعامل مع شؤون الأراضي وملكيتها، ومنذ التحق العم أحمد آدم بالعمل بها، سنة 1959 وحتى الآن لم تنقطع علاقته بالدولة، وهو يعبر عن هذه العلاقة بقوله: حينما غادرت السودان قادماً إلى الإمارات، لم أحسب أنني سأمكث هذه الفترة الطويلة، غير أنني وجدت في الإمارات وطناً ثانياً، ولم أشعر ذات مرة بالغربة، فعملت في دائرة الأراضي في بداية الأمر ثلاث سنوات، ثم عدت بداية 1974 لأتولى إدارة أراضي وأملاك مجموعة شركات الغرير، وهكذا شاءت الأقدار ألا تنقطع علاقتي بأراضي دبي.

وفي هذا الحديث، حديث العمر والذكريات مع «عم أحمد» يترك الرجل العنان لذكرياته كي تنساب وتتدفق، ويروي حكايات تعود لأكثر من نصف قرن مضى، هو شاهد عيان عليها عاصرها وشارك فيها، ولم يمحها الزمان.

يقول: جئت إلى دبي أول الأمر لأعمل خبيراً في دائرة الطابو، التي تسمى الآن بدائرة الأراضي، وبعدما باشرت عملي بأيام، التقيت بالمغفور له بإذن الله الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، حيث أطلعني على رغبته في تنظيم قطاع الأراضي والأملاك في الإمارة، وقد شعرت للوهلة الأولى من المقابلة، أننا أمام رجل فذ ذي بصيرة نافذة ورؤية سباقة، وإنه يرحمه الله، سيقفز بالإمارة قفزات واسعة، وسيسير بها مسيرة واسعة على دروب التحديث والنهضة.

لجنة الأراضي

وبعدها شكل الشيخ راشد لجنة شؤون الأراضي، وأعطى هذه اللجنة صلاحيات لتدقيق الوثائق والمستندات والكشف على الأراضي ومسحها واستخراج خرائط لها.

ووافق الشيخ راشد على أن تطبق اللجنة في إجراءاتها نظاماً محدداً، مع مراعاة الظروف الخاصة بإمارة دبي.

وشملت أعمال اللجنة مناطق: الراس والبطين والسبخة وأبو هيل والرقة شرق وغرب وسكة الخيل، وغيرها من المناطق القديمة في المدينة.

وسارت اللجنة في أعمالها بحيث تقبل أي طلب أو وثيقة لتسجيل أي قطعة أرض، بحيث تقوم بتسجيل الطلب أو الوثيقة وتعطي صاحبها إيصالاً تكتب له فيه التاريخ المحدد للكشف على الأرض.

وفي الموعد المضروب لمعاينة الأرض تقوم اللجنة بمعاينتها بحضور صاحب الطلب وجيرانه وشهوده.

وبعد أن تنتهي اللجنة من إجراءات الكشف على الأرض وتحديدها ومسحها تستخرج لها خريطة (أولية) وتعطيها رقماً ثم تفتح لها صفحة سجل توضح فيها اسم المالك ووصف الأرض وجيرانها ويوقع على ذلك المالك وجيرانه وشهوده أمام اللجنة.

وبعد الانتهاء من التحري والتدقيق في الأرض تستكمل الإجراءات ويكتب تقرير مختصر عن كيفية امتلاك الأرض، وتحرر شهادة ملكية ويرسل الملف إلى صاحب السمو الحاكم للاطلاع على أقوال الشهود والوثائق ثم التوقيع على شهادة الملكية.

ومن ثم تسلم شهادة الملكية والخريطة التي توضح مساحة الأرض وأبعادها للمالك. وعندما ينشأ نزاع حول ملكية أي قطعة أرض تسمع اللجنة شهادة أطراف النزاع وجيرانهم وتستعين بالخبراء وتعاين الأرض على الطبيعة مرتين أو ثلاث مرات إلى أن تتحقق من صحة الدعوى وصاحب الحق ثم تصدر قرارها وتبعاً له تصدر شهادة ملكية للطالب المستحق.

وتم الكشف عن عدة محاولات غير سليمة وبعض الشهود غير الموثوقين أو الذين أدلوا بمعلومات خاطئة لم تثبت صحتها، وهذا أمر طبيعي، غير أن الآليات القانونية التي كانت تستخدمها اللجنة، وأساليب التحري للتأكد من صحة المزاعم كانت من القوة والصلابة، بحيث لم يكن من السهل الالتفاف من ورائها.

تجارب قانونية

ويوضح أن تأسيس الدائرة وتحديد آليات عمل قد تم بالاسترشاد بتجارب قانونية عربية سابقة في مجالات تنظيم قطاع الأراضي نقلاً وتطبيقاً واعياً، مع مراعاة الفروق بين الظروف والأحوال السائدة في بلاد هذه التجارب والظروف المحلية في إمارة دبي واتبع نظام التسجيل الإجباري، وتم اعتماد نظام إصدار شهادة البحث التي تكفي لتوضيح اسم المالك المسجل ووصف القطعة ورقمها وتاريخ تسجيلها وبيان الرهونات وأي معاملات أخرى مانعة للتصرف واردة في السجل، وهي شهادة بسيطة يستخرج المعلومات الموضحة فيها موظف التسجيلات من واقع السجل.

ويضيف: باشرت دائرة الطابو القيام بالمهام المنوطة بها على أكمل وجه، وكانت تطبق نظام الإعلان العام للجمهور، عند إتمام معاملاتها بحيث يتم الإعلان لمدة ستة أشهر، عن تفاصيل المعاملة وإذا لم يتم الاعتراض عليها، يتم إصدار وثيقة الملكية باسم صاحبها، والحقيقة إن استحداث الدائرة ونجاحها في تأدية مهامها، قد كان بمثابة الإرهاصة الأولى للنهضة الحضارية والعمرانية الهائلة التي شهدتها دبي، هذه النهضة التي تشكل معجزة حقيقية بكل ما للكلمة من معانِ.

كما اتبعت الدائرة نفس الأسلوب للإعلان عن معاملات البيع، وكان يعلن عنها لمدة شهرين، حيث يكتب في الإعلان اسم البائع والمشتري ووصف الأرض، ويوضع الإعلان عند مدخل سينما الوطن قرب ميدان بني ياس حالياً «جمال عبدالناصر آنذاك» وهي من الأماكن المشهورة وقتها وعند محطة عبرة ديرة المعروفة بعبرة بن فطيم آنذاك.

كما شهدت تلك المرحلة وضع أسس تحديد الإملاك العقارية والشروع في توفير أسلوب منظم لتسجيل الأراضي والعقارات وحماية حقوق المواطنين وضمان الإجراءات القانونية لعمليات بيع وشراء الأراضي وبالتالي حماية حقوق أطراف المعادلة كافة وضبط إجراءات تسوية الأراضي وتسجيلها في أوائل منذ عام 1960 مع بداية التطور العمراني وارتفاع قيمة الأراضي وتخطيط المدن تخطيطاً حضارياً بشكل يكفل وجود شوارع وطرق واسعة وتراعي فيها النواحي الصحية والخدمات العامة.

وبعد انتهاء هذه المرحلة اضطر أحمد آدم إلى العودة إلى عمله رئيساً لدائرة المحاكم في السودان، بناءً على طلب الحكومة السودانية، وبقى هناك حتى تلقى عرضاً للعمل من رجل الأعمال المعروف سيف بن غرير كي يتولى مسؤولية إدارة مجموعة أملاكه العقارية، ومن ثم عاد إلى دبي في العام 1974 واستمر في عمله إلى أن وصل إلى مدير عام مجموعة شركات الغرير قبل ان يتقاعد لظروف تقدمه في السن في العام 2008.

الشيخ راشد كان شخصية فذة

يروي أحمد آدم انطباعاته عن دبي القديمة قائلاً: حينما أتيت إلى الإمارة، لم تكن قد شهدت ما تشهده الآن من نهضة عمرانية واقتصادية وسياحية شاملة، لكني كنت واثقاً من أن هذه الإمارة ستكون ذات شأن كبير في المستقبل، وذلك لما لمسته خلال مقابلتي للمغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم.

كان يرحمه الله رجلاً من طراز فريد، سباقاً في رؤيته، يسمع أكثر مما يتكلم، ويحب التعرف على كل فكرة تساهم في التطوير، ويؤمن بأنه لا شيء مستحيل، وكان، طيب الله ثراه، محباً لشعبه ومؤمناً بأن وطنه يستحق أن يرتقي أرفع المراتب.

قبل النفط، اهتم الرجل بالتجارة، فبدأ في تنظيم برنامج لتشجيع كبار التجار، الذين كانوا يعتمدون على ميناء لنجة في إيران، على اتخاذ دبي مقراً لها.

ورويداً رويداً تحولت دبي إلى ملاذ للتجار في الخليج، وبدأت تخطو نحو المستقبل خطواتها الثابتة والواثقة.

آدم في سطور

ولد أحمد آدم في شندي داخل السودان، وأكمل الدراسة الأولية في شندي والدراسة الوسطى في أم درمان بمدرسة أم درمان الوسطى، والمرحلة الثانوية بكلية غردون التذكارية بالخرطوم.نال شهادة الدراسات العامة من جامعة أكسفورد عام 1952.درس الاقتصاد والإدارة العامة في معهد الدراسات الاقتصادية بالخرطوم وتخرج عام 1954.

عمل كاتباً في الدامر ثم نقل إلى شندي، وفي عام 1948 انتقل إلى الخرطوم وعمل مساعد المسجل العام للأراضي واستمر في العمل إلى أن ترقى لدرجة مسجل عام الأراضي بالخرطوم.في أواخر عام 1959 وأثناء فترة عمله في منصب مسجل عام الأراضي في الخرطوم تم انتدابه من حكومة السودان للعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة بدبي بطلب من حكومة دبي لتأسيس مكتب الأراضي في دبي.

استمر في العمل مديراً لدائرة الأراضي والأملاك (دائرة الطابو) في الفترة بين (1960-1963).وفي عام 1963عاد إلى السودان بطلب من الحكومة السودانية للعمل في منصبه السابق كمسجل عام الأراضي في الخرطوم ثم تمت ترقيته إلى رئيس إدارة المحاكم بالمجموعة الثانية بالخرطوم واستمر في العمل حتى طلب الإحالة إلى المعاش الاختياري من عمله في السودان بعد موافقته على طلب شركات الغرير بدولة الإمارات العربية المتحدة للعمل معهم.

عاد إلى دبي في ديسمبر عام 1974 وعمل بمنصب المدير العام لمجموعة شركات الغرير.

تشكيل أول لجنة للأراضي

«نظراً لما تقتضيه المصلحة العامة، نعلن للعموم أننا قررنا تأليف لجنة للنظر في شؤون الأراضي والأملاك في بلادنا، تمهيداً لإنشاء دائرة لتسجيل الأراضي والأملاك على نظام حديث يكفل حقوق أبناء شعبنا جميعاً، وسيطلق على هذه الدائرة اسم دائرة الطابو، وسيراعى في النظام الجديد التسهيلات اللازمة، والتدقيق وكل ما يكفل المصلحة العامة، وستبدأ هذه اللجنة التي ستكون برئاسة الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم أعمالها مباشرة، فالرجاء من أبناء شعبي الكريم أن يتعاونوا مع هذه اللجنة ويقدموا لها كل ما يلزمها من معلومات تساعدها وتسهل لها القيام بواجبها على الوجه الأكمل».

بهذه الصيغة صدر قرار تشكيل أول لجنة للأراضي والأملاك في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان ذلك خطوة جديدة على طريق العملية التنظيمية التي أخذت دبي بزمامها في تلك المرحلة التي كانت تشهد نشوءاً وتطوراً متسارعاً في الدولة بشكل عام، وفي إمارة دبي بشكل خاص.
فريد وجدي / البيان

تعليق واحد

  1. السودانيون رواد التعليم والمعرفة والتنمية والبناء في كثير من دول العالم،وريادتهم ظاهرة جلية واضحة بينة، لكنهم للأسف هم قومٌ مهضومو الحقوق، وجميلهم منكور، بل إنهم في الفترة الراهنة ، صاروا في حالة لا يحسدون عليها، وقد يكون السبب هو المنافسة غير الشريفة من بعض العرب ، أو لأن أبناء الخليج تعلموا، وصار توظيفهم مصدر قلق لعدم استقرار سياسي، أو قد يكون السبب زهد السودانيين وقناعتهم بالقليل، وعدم تقديرهم لأنفسهم، أو ربما لاعتزازهم بقيمهم وعدم إحناء الرؤوس، أو فعل الكثيرمما قد يرضى به غيرهم، والشاهد أن أسلافنا كانوا الرواد في التعليم، والرياضة والترجمة والطب، والهندسة، وقطاعات الأعمال المختلفة، حتى الأعمال البسيطة من طبخ وحرسة ، كانوا هم الرواد فيها، فقد اسسوا المدارس، وشخصيا كنت " معلما" قبل ثلاثين سنة في هجرة بدو بقلب " نجد" ومعي زميل يحمل بكالريوس فيزياء من جامعة الخرطوم ! وكان معنا سعودي هو مدير المدرسة ، وغيرنا المئات،، بل كان الممرض الوحيد في المستوصف الذي يخدم آلاف البدو، سوداني مثلنا،، قس على هذا الرواد في الصحافة والإذاعة والتلفزيون ،ومن أنشأوا وأسسوا نادي الاتحاد السعودي " على سبيل المثال" ، وأذكر أنني ذهبت لإذاعة أبوظبي ، وقدمت للعمل فيها فصدمت عندما قال لي مدير مكتب مدير الإذاعة وهو مصري : إنهم لا يحبذون السودانيين،( قال جملة أشد مضاضة) ولا تتعب نفسك! وتذكرت كيف أن من أسس الإعلام في أبو ظبي هو أستاذنا علي شمو، فسبحان مغير الأحوا

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..