القدرات الذهنية ولعبة الحرب

إيمان الرياحي
إن تفاعلنا مع مقال الكاتب كه يلان محمد المعنون بـ«ستيفان زفايغ في «لاعب الشطرنج»: قهر الوحدة باستحضار القرين» والمنشور في «القدس العربي» 29 يوليو/ تموز لا يردّ فقط إلى جمالية أحداث الرواية التي يحدثنا عنها. إنّما كتاب «لاعب الشطرنج» يدفعنا أيضا للتفكير مليّا في طبيعة الشخصية العبقرية وفي قدرتها وفي مشكلاتها النفسية، وعلى أي نحو تعيش في زمن الحرب.
يحاول الروائي فهم شخصية بطل العالم في الشطرنج ميركوكزنتوفيك هذا الذي فشل في الدراسة وحســـبه الناس أحمق. لكن، هل يعقل أن يتفوق في الشـــــطرنج من هو محدود الذكاء؟
لا شك في أن ميل ميركوكزنتوفيك للشطرنج كل الميل يجعل منه متميزا، بل إنّ تميز العباقرة يجعل منهم غرباء، كحاله، حتّى أن جلّ النّاس لا يفهمون المتفوقين وينعتونهم أحيانا بالحمقى.
أما عبقري الشطرنج الآخر «شخصية السيد (ب)»، فتفوق في هذه اللعبة بعد أن فرضت عيه الحركة النازية الاستجواب والعزلة، فتحدّى منفاه باِبتداع «قرين» وفقا لعبارة كه يلان مُحَمَد. هذا الشخص الوهمي يلاعبه الشطرنج ويعلمه التحدي والصبر وجودة الروية، إن وجوده المتخيّل يثير ممكناته الذهنية ويحافظ على قدراتها.
نفهم على ضوء هذه الرواية شيئا من اِضطراب المتفوقين والمثقفين والمفكرين أثناء الحرب العالمية الثانية. ذلك أنّها تستغل فكر بعضهم من جهة وتشوش فكر بعضهم الآخر من جهة أخرى، وهذا قصد التحكّم والسيطرة. لقد أدّى كل ذلك إلى مضاعفة قلق المفكرين في تلك الفترة الزمنية وأدّى أيضا إلى إثارة حساسيتهم المفرطة.
إنّ العباقرة يتصفون عادة برهافة الوجدان والإنسانية، وهم يعيشون غالبا في صراع مع عالمهم الخارجي، فما بالك لو كان هذا العالم مشحونا بالتطرف والعنصرية؟ إنّ ستيفان زفايغ، كاتب الرواية انتحر لأنه لم يعد يحتمل شرور الحرب. ليست «ألفة الشر» إلا علامة على موت الإنسانية، كما تقول حنّا أرندت التي فرّت بدورها من تطرف النازية طويلا. إن الحرب كالشطرنج لعبة فيها مراوغةٌ وفيها التباس، إنها تخاتل المثقفين، ولكنها تدفعهم أيضاً نحو تفكير عميق ومركب. رمزية اللعبة المثيرة للذهن نجدها أيضاً في البيوغرافيا المعنونة بـ«الدماغ الجميل « لجون فوربس ناش الحائز جائزة نوبل للاقتصاد عن أعماله في مجال »نظرية الألعاب« التي تمثل شكلاً من أشكال التحليل الرياضي ويهدف هذا التحليل إلى ضبط استراتيجيات التصرف في منظومة معيّنة، وإلى تحديد الحلول المناسبة واتخاذ المبادرة، وإلى الحسم في القرار أثناء التفاوض التجاري.
لقد عاش جون فوربس ناش وضعية تتراوح بين جنون العظمة والانفصام في الشخصية، وابتدع هو الآخر قريناً وهمياً وكان يتحدث معه ويعتقد أنّه يعيش إلى جواره في الغرفة نفسها، وانتهى به كلّ ذلك إلى اكتئاب نفسي حاد. لقد مرّ العالم بهذا الوضع العصيب لأنه كان يعيش معاناة مضاعفة فقد كان يسعى من ناحية، للدفاع عن نظريته العلمية التي لم تفهم حينها وكان من ناحية أخرى يواجه المخابرات الأمريكية التي حاولت اِستغلاله وطلبت منه التجسس في زمن الحرب الباردة.
إن ألعاب الاقتصاد والحرب مثلها مثل لعبة الشطرنج، لا تخضع للصدفة بقدر ما يحكمها الحساب. إنها تقيس حركات وسكنات الغير لتحسم في الاحتمالات الممكنة ولتهزم المنافس أو القرين.
أمّا الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين، فلعبته لغوية. لقد هاجرهذا العبقري إلى النرويج حيث عاش وحدة ملهمة في كوخ صغير كان قد ألّف فيه رسائله المنطقية والفلسفية التي أثرت لاحقا على الفلسفة الأوروبية والأنكلوساكسونية. يعتبر فيتغنشتاين أنّ اللغة صورة للعالم ولأحداثه الواقعة فيه وقد سمّى في ما بعد التعبير عن ديناميكية الوقائع لعبة لغوية. لذلك انتقد الحوار الباطني مع الذات ليؤكّد أنّ التواصل الفعلي يستوجب الانخراط، ويقتضي الحديث على نحو واضح مع الغير. أمّا مدار الكلام، فلا يكون إلا على ظواهر واضحة لا نختلف في فهمها. تخلّص برّانية الفكر بهذا المعنى الذات من جوّانية القرين الوهمي، وتسمح بتحديد قواعد اللعبة الخطابية خالية من الأوهام ومن الخلط ومن ثمّ تضع حدّا للتناقض الحاصل بين الناس. لم تمنع الحرب العالمية المفكر من إتمام كتابه، أي الرسائل، بعد الحرب العالمية الأولى وبعد ااعتقاله في السجن في إيطاليا في أواخر الحرب.
تبدو جمالية الفكر في واقع لا سويّ ضربا من المواجهة والمقاومة والثبات وسط الزحام، وهي شكل من أشكال الأمل، لاسيما أنّ الحقبة الزمنية التي أفرزت العنصرية هي ذاتها الحقبة التّاريخية التي خلدت إبداعات أدبية وفلسفية وعلمية عظيمة.
تونس
القدس العربي



