أنيميا المسؤولية .. وفقر الدم الوطني

جمال علي حسن
التصريح الصحفي الذي كان نُسب للأمين العام لجهاز المغتربين في وقت سابق والذي يقول فيه إن الدولة ليست مؤسسة خيرية حتى تقوم بتشغيل العائدين من السعودية، هذا التصريح الذي كان قد أثار رفضاً واسعاً في أوساط مختلفة قبل أن يخرج صاحب التصريح وينفيه نفياً قاطعاً، نكاد نشعر ويشعر المواطن بشكل يومي صدق هذا التصريح عملياً، ليس على مستوى جهاز المغتربين بل في معظم تفاصيل الواقع.
الواقع الماثل الذي يؤكد أن الحكومة فعلاً لديها مثل هذه القناعة حتى ولو لم تتحدث بها أو كان قد نفاها كرار التهامي أو غيره، لكن عملياً هذا هو لسان حال الدولة السودانية مع المواطنين الآن في كل شيء.
الحكومة صارت تاجراً أو مستثمراً في السوق.. تستأجر حتى سيارات الإسعاف للمرضى.. ولا تكاد تكون هناك نافذة حكومية واحدة تقدم خدماتها للمواطن دون مقابل.. ويعني هذا أن كرار التهامي لو لم ينفِ تصريحه ذاك فإنه سيكون أصدق مسؤول حكومي أطلق تصريحاً صريحاً بشكل غير معهود.
الحكومة لا تريد أن تتعامل مع المواطن إلا بعلاقة بائع الخدمة مع الزبون الذي يشتري كل شيء من جيبه.. الحكومة لا تشعر فعلاً بأية مسؤولية في تشغيل لا العائدين من الغربة ولا غير العائدين من العطالى الخريجين وغير الخريجين.
تصريح كرار الذي تم نفيه كان دقيقاً وصحيحاً وصادقاً، لحد بعيد، ربما هو حد الوقاحة في مخاطبة المواطنين، لكنه كان سيمر في نهاية الأمر وبعد لحظة الصدمة مرور الكرام؛ لأن في ثقافة مجتمعنا هناك أمثال متداولة لا تخلو من تعظيم مثل هذه الفكرة الجارحة للشعور، حين نقول في وصف الشخص الجريء الذي تتسم مواقفه بالوضوح أنه (زول واضح يقول للأعور أنت أعور).. وهذه الورطة هي التي ربما جعلت كرار التهامي ينزعج كثيراً بعد أن نسبت له صحيفة (آخر لحظة) هذا التصريح الذي يجعله يتحدث بلسان جارح مع المواطنين.
لكن لا معنى من أن تتفادى الحكومة الإضرار بمشاعرنا كونها تفصح عن سلوكها الحقيقي معنا وهي التي لم تتورع في ممارسة هذا السلوك مع المواطنين.
سيحتاج السودان للكثير من زجاجات الدم الوطني التي تعوضه حالة فقر الدم الوطني في المستقبل، لو استمرت هذه الحالة التي لا يشعر فيها المواطن بأي دور أو موقف للدولة ومؤسساتها من قضاياه اليومية المرتبطة بمعاشه وضمانات حياته، لا في علاجه ولا في تعليم أطفاله، ولا حتى في إسعاف من يحتضر بين يدي أبنائه.
سيندم الوطن حين يفهم أن فصيلة الدم الوطني المفقودة غير قابلة للاستجلاب من معامل الخارج أو أخذها من المتبرعين.
شوكة كرامة
لا تنازل عن حلايب وشلاتين.
اليوم التالي