بَلْ هُناك من يبيت “القوا” يا سيادة نائب الوالي

بَلْ هُناك من يبيت “القوا” يا سيادة نائب الوالي

بابكر فيصل بابكر
[email][email protected][/email]

أشرتُ في مقالِ الأسبوع الماضي إلى أنَّ أحد أدواء الآيديولوجيا يتمثل في أنها تزوِّد مُعتنقها بقناع يحجبُ رؤية الواقع كما هو, ويجعلهُ هائماً في ملكوت عالم من صُنع الخيال “الوهم”, وأضيف اليومَ أنَّ خطاب الآيديولوجيا يستخدم أدواتٍ عديدة لتزييف الواقع و إحلال الصُّور البديلة ” المُتخيلة” والمُرغوب فيها.

وتمثل “اللغة” أحد أخطر الأدوات التي يشتغل عليها ذلك الخطاب بما تمتلكهُ من خصائص تسمحُ بالتمويه والتعميم والتوظيف.

في هذا الخصوص أجرت الأستاذة هبة عبد العظيم حواراً مُهماً بصحيفة “السوداني” مع المهندس صديق على الشيخ وزير المالية ونائب والي الخرطوم. و تنبعُ أهميَّة الحوار من كشفهِ لإستغلال وتوظيف آليات “اللغة” للتمويه على الحقائق, والتغطية على الواقع, وتسويق الوهم.

سألتْ الأستاذة هبة السيِّد نائب الوالي السؤال التالي : برنامج الوالي الإنتخابي كان تقريباً من سبعة محاور أبرزها محور المعالجات الإجتماعيِّة وأساسها مُحاربة الفقر والواضح أنَّ حكومتهُ فشلت في محاربته ؟

فأجابها السيَّد نائب الوالي بالقول : ( ما هو معيار الفقر ؟ الحمد لله نحن سودانيون ليس منا من يبيت (القوا)، الحزمة الإجتماعية معالجتها تتم عبر تشغيل الأيادي عبر برامج التمويل الأصغر وبرامج تشغيل الخريجين ولكن الثقافة بها مازالت ضعيفة، وعلينا أن نقر بضعف السياسات علينا أن نكسر حاجز أننا شعب يستهلك فقط ، لابد أن نكون مُنتجين. بصراحة فترة البترول الماضية أضرَّت بنا بذات مستوى نفعها. لا بد من تعظيم فائدة الاسرة في الإنتاج هذا تحد لا بد ان نخوض فيه ). إنتهى

التمويه في إجابة السِّيد نائب الوالي يتمثل في أنهُ إعتبر ? بعد أن حَمَدَ الله – أنَّ “معيار الفقر” هُو أنْ لا يبيت إنسان القوا “جائع”, وهو معيارٌ مُدهش لم يقل به أحدٌ من الإقتصاديين في جميع أنحاء العالم من قبل. معيار “خط” الفقر المُتعارف عليه في كل أنحاء الدنيا ? يا باشمهندس ? هو أدنى مستوىً من الدخل يحتاجهُ الفرد أو الأسرة حتى يتيَّسر توفير مستوى “ملائم” من العيش في بلدٍ ما.

في هذا الإطار يعلمُ السيِّد نائب الوالي أنَّ الحد الأدنى للأجور حالياً هو 165 جنيه ( مائة خمسة وستون جنيهاً ), وهو يُغطي 11 % فقط من إحتياجات الفرد ( 89% هو العجز), في حين أنَّ دراسات الجهاز المركزي للإحصاء تقول أنَّ الحد الأدنى للأجور يجب أن يكون 1946 جنيه (ألف وتسعمائة ستة واربعون جنيهاً ) !!

غير أننا سنتغاضى عن كل ما درسناهُ في كلية الإقتصاد, وسنختارُ طواعية مُجاراة السيِّد نائب الوالي في إختياره مبيت “القوا” مقياساً للفقر, وسنفاجئهُ بأنَّ هناك الآلاف ( وربما الملايين) من المواطنين لا يجدون قوت يومهم, ويبيتون على الطوى.

ألم يأتك يا سيادة نائب الوالي نبأ المواطنين الذين يأكلون “الطين” ؟ إذاً فلتقرأ حديث النائبة البرلمانيِّة عن الحزب الحاكم الاستاذة “عائشة الغبشاوي” في جلسة البرلمان حول مناقشة الخطة الخمسية, حيث نادت بمُحاسبة المُفسدين وإعادة أموال الشعب لمحاصرة ومكافحة الفقر الذي قالت أنه يُهدِّد البلاد “بمجاعة”, وأوضَحتْ أنَّ : ( بعض الأسر تأكل الطين لتسُّد الجوع، وقد دفعتُ بالأمر للسيد رئيس الجمهورية ). إنتهى

إنَّ تعمُّد إختصار معيار الفقر في موضوع “مبيت القوا” ينطوي على حيلة غير ذكيَّة للتنصُل من المسئولية الحكوميَّة تجاه المواطن, إذ أنَّ “العيش الملائم” الذي يُشارُ إليه في تحديد مستوى الفقر لا يقتصرُ فقط على “وجبة طعام”, فهو يشمل السكن المناسب, والتعليم, والعلاج, وهى الأمور التي أضحت لا تشكل أولوية في موازنة الحكومة منذ مجىء الإنقاذ ( المبالغ المرصودة للقطاع السيادي وحدهُ في الموازنة التي أجيزت قبيل أيام أكبر من مجموع المبالغ المُخصَّصة للصحة والتعليم معاً ).

حديث السيد نائب الوالي يعكسُ عُزلة أهل “السُّلطة” وجهلهم بأحوال الناس, و التاريخ يُحدِّثنا عن “ماري أنطوانيت” التي كانت براكين الثورة تشتعلُ من حولها وهى في عُزلتها المجيدة تسأل : ماذا يُريد الناس ؟ فتأتيها الإجابة : إنهم لا يجدون خبزاً يأكلونهُ, فتقول لهم : فليأكلوا بسكويتاً “أو كيكاً” بدلاً عن الخبز. فتأمل !

فهلاَّ خرج السيِّد نائب الوالي في جولة تفقديَّة ? نتبرعُ بإصطحابهِ فيها – إلى أطراف مدن الولاية, إذاً لعلِم أنَّ خلف جُدران البيوت المُتهالِكة وأبوابها المُوصدة يُخيِّم البؤس والدُّموع والحرمان والأنين والجوع والمرض.

ويتبدَّى التمويه بجلاء في قول نائب الوالي : (علينا أن نكسر حاجز أننا شعب يستهلك فقط ، لابد أن نكون مُنتجين, بصراحة فترة البترول الماضية أضرَّت بنا بذات مستوى نفعها ). ذلك أنهُ يصِفُ الشعب دون وجه حق بأنهُ شعبٌ “مُستهلك”, ويتعمَّد عدم الإشارة للسياسات الحكوميَّة الفاشلة التي أدَّت لتدمير الزراعة والصناعة, وخلقت جيوش العاطلين الذين هجروا حقول الإنتاج.

وهو كذلك يستخدمُ حيلة لا تمُرُّ على العارفين بأبجديات تحليل الخطاب, وهى “التعميم” ويتحاشي الخوض في التفاصيل, فهو يقول أنَّ هناك ضرراً وقع في فترة البترول ولكنهُ لا يُحدثنا عن الكيفية التي وقع بها ذلك الضرر, و لا عن الجهة المسئولة من وقوعه ؟ و هو كذلك يقول أنَّ هناك نفعاً من فترة البترول ولكنهُ لا يُبين ماهيَّة “النفع” الذي يتحدث عنهُ ؟ وماذا عاد منهُ على المواطن والبلد ؟

المسئول ? يا سيادة نائب الوالي ? عن وقوع الضرر هو الحكومة التي بدَّدت عائدات البترول في الصرف البذخي على المنازل الفاخرة, والسيَّارات الفارهة, ولم توجِّه الأموال للقطاعات المُنتجَّة الحقيقية, والذين إستفادوا من تلك العائدات هم مُشايعي الحكومة و عضوية حزب المؤتمر الوطني وليس الشعب أو البلد.

وتسأل الاستاذة هبة السؤال التالي : المواطن ملَّ الوعود الكثيرة من قبل الحكومة وفقد الثقة تماماً في كل ما يصدر عنها بهذا الشأن ؟ فيجيبها نائب الوالي قائلاً : ( لابُدَّ من الصبر . رب العالمين أمرنا بالصبر . نحن عندنا مشكلة في الصبر ذاتو ).إنتهى

إجابة السيِّد نائب الوالي تنقل النقاش حول موضوع الفقر من “الأرض” إلى “السماء” وتُصوِّر نفاذ صبر الناس من فشل السياسات الحكوميَّة وكأنهُ إعتراض على إرادة “رب العالمين” الذي أمرنا بالصبر. وهنا يتضِّح بصورة جليَّة “التوظيف” الديني للخطاب بحيث يتم صرف الأنظار عن “سبب” المشكلة الحقيقي ويتحوَّل المواطن إلى مُتهم في دينهِ و إيمانهِ لأنهُ “عنده مُشكلة في الصبر ذاتو”.

وتسأل الاستاذة هبة سؤال المتابعة التالي : يصبروا أكثر من كده كيف ؟ فيُجيبها نائب الوالي قائلاً : ( لا توجد دولة تخطط وتنفذ بين يوم وليلة وأعتقد أننا لو صبرنا على سياساتنا ومشينا فيها نستطيع أن نجني ثمارها ).

هُنا أيضاً يتجَّلى بوضوح التمويهُ في الخطاب إذ أنَّ القاصي والداني يعلمُ أنَّ حكومة الإنقاذ تدَّعي أنها تخطط وتنفذ منذ أكثر من عقدين من الزمن وليس “بين يوم وليلة” كما يقول السيِّد نائب الوالي, وقد صبر الناسُ طويلاً على إستراتيجيات الإنقاذ التي تتلاشى دون أن تتمخَّض عن شىء, فهذهِ إستراتيجية عشرية, وتلك ربع قرنيَّة, و هنا “نفرة”, وهناك “نهضة”, وهلمجرا.

ختاماً : يقول الكواكبي في “طبائع الإستبداد” أنَّ الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال : ( أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال ). إنتهى

تعليق واحد

  1. لو يمشى المرء فى الأزقة الشعبية فى المساء فأذنه لا تخطئ سماع “أبو مطيرق” وهو أنين الأطفال الذين يبيتون وهم جائعين لأنهم ليسوا كالكبار يتحملون العيش على وجبة واحدة أو اقل فى اليوم وخاصة أيام البرد. هؤلاء الكيزان أناس نزع الله الرحمة من قلوبهم ولا يذكرون أبدا صنيع سيدنا عمر بن الخطاب الذى طبخ بيديه الطعام لأطفال أحس بجوعهم ذات ليلة مثل ليلى السودان الحالية.

  2. إجابة السيِّد نائب الوالي تنقل النقاش حول موضوع الفقر من “الأرض” إلى “السماء” وتُصوِّر نفاذ صبر الناس من فشل السياسات الحكوميَّة وكأنهُ إعتراض على إرادة “رب العالمين” الذي أمرنا بالصبر. وهنا يتضِّح بصورة جليَّة “التوظيف” الديني للخطاب بحيث يتم صرف الأنظار عن “سبب” المشكلة الحقيقي ويتحوَّل المواطن إلى مُتهم في دينهِ و إيمانهِ لأنهُ “عنده مُشكلة في الصبر ذاتو”.
    _____________

    هؤلاء اعترضوا على الله سبحانه وتعالى في امور كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر:

    1- قال الرئيس البشير : مافي تعددية ولا أعترف بها // والله سبحانه وتعالى يقول (( يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عندالله اتقاكم))

    2- دعا البشير بدعوة الجاهلية حينما قال (( اغتصاب ….. من …. شرف لها)) وفي قوله جهل وسفاهة وتفاهة وهو الراعي، كما فيه اعتراض على القيم القرآنية والسنة بالتالي على الله

    3- السفاح أحمد هارون قال (( اكنس قش ما تجيبوا حي ما عايزين عبء اداري)) وفي ذلك اعتراض على حكم الله الداعي لعدم قتل الاسرى فما بالك باسرى مواطنين وفيهم مسلمين ومسيحيين،،

    4- علي عثمان قال شووت تو كيل // ومنع تجارة الحدود مع الجنوبيين ونقض عهده الذي مهره بيديه في نيفاشا فخالف بذلك الآية القرآنية التي تأمر بالوفاء بالعهود في سورة التوبة،،

    5- سبدرات في مؤتمر الشفافية في قطر قال (( نحن في السودان ليس لدينا فساد لأننا نعتمد على مكافحة الفساد بمبادئ الدين)) أي نفى مبدأ المحاسبة وخالف بذلك المبدأ النبوي (( والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)) وطبعا من اعترض على الرسول يكون اعترض على الله،،

    6- نافع علي نافع وغيره من هؤلاء المرضى يعتقدون أنهم سيخلدون في الحكم ولم نسمعهم يقولون اذا عجزنا عن الاصلاح سنذهب بل قالوا لن نسلمها الا عيسى بن مريم وفي هذا اعتراض على قول الله تعالى (( وتلك الايام نداولها بين الناس ….))

    في الحقيقة إن أخطر سلاح كما ذكرت أخي بابكر هو سلاح اللغة سيما عند استخدام النصوص الدينية للتستر عن الحق والصراع الديني من قبل الكذابين (( أنظر كتب التاريخ الاسلامي)) ،،، اللغة هي أساس ظهور الفرق والنحل لا الفكر ،، لأن من له فكر يتحدث بلغة واضحة ولايسب ولا يسفه ولم أجد من نحى كذلك في التاريخ الاسلامي قاطبة منذ وفاة النبي والشكلة التي حدثت في سقيفة بني ساعدة وحتى يومنا هذا سوى المعتزلة وأخوان الصفا سابقاً والجمهوريين أصحاب محمود محمد طه، وأنا لا أنتمي اليهم ،، لا تقولي شيوعيين ولا بعثيين ولا اخوان مسلمين ولا سلفيين ولا اتحاديين ولا حزب أمة ولا غيره من أحزاب الفكة (( الجمهوريون هم الحزب الوحيد كوحدة كلية الذين يطابق فكر العضو منهم لغته وسلوكه،،، أما بقية الاحزاب الاخرى فأقوالهم وسلوكهم شتى أي ليست بصبغة واحدة كما في حالة الجمهوريين ،،، ولا أقلل من أفراد داخل هذه الاحزاب اختطوا لأنفسهم نهج مثالي ساروا عليه ولكن شتان ما بين النهج السلوكي الجمعي للجمهورين كحزب وفكرة وبين المثالية المبعثرة في بعض أفراد تلك الاحزاب ما يدل على ضعف بنيتها الفكرية أي بناء الفكرة في الفرد لينتهج نهجا سلوكيا واحدا يمكنك تصنيفه به من قولت تيت،،، مع تشكراتي ،،،، أحب كتاباتك دائماً،،

  3. الشمالية مثالا:
    رصدت مبلغ طائلة فى مشروع سمى بتوطين القمح فى الولاية الشمالية كما كانت فى السابق من البترول نفسه لا من عائداته حيث اعتمدت كميات كبيرة من البترول للولاية بشيكات من شركة سميت سنابل ولكن كل الشيكات رجعت طائرة الى المؤسسة العامة للبترول بعد ان بلغت قيمتها 14 مليار جنيه بالقديم ووجدت عمارات قد انشئت هنا وهناك ولم يحسب احد حتى اليوم

  4. يقول الكواكبي في “طبائع الإستبداد” أنَّ الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال : ( أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال ).
    الله يجازيك يا الكواكبي علمك ده ما نافع لانو ده الاتعلموه ناس نافع

  5. لقال : ( أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال )…أهذا قول الكوكبى أم دين الإنقاذيين

  6. ياأستاذ بابكر هذا المعتوه يعني سكان جمهورية المؤتمر الوطني المستعمرة لشعب جمهورية السودان انسان جمهورية السودان غارقاً في الفقر حتي الأذنين ومالنا نذهب بعيداً أستاذ بابكر لو تذكر في برنامج (الاتجاه المعاكس)بقناة الجزيرة بين دكتور القراي وربيع عبدالعاطي يقول للقراي متوسط دخل المواطن السوداني الشهري 1800 دولار بالله بربكم أليس هذا هو مسيلمة الكذاب لا أملك الأ أن أقول رحم الله السودان وأهله

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..