تفقد الخزينة 30% من المحاصيل الأوعية التخزينية.. موارد البلاد تتبدّد

الدخيري: البلاد تعاني من ضعف السعة التخزينية
مدير البنك الزراعي: أعددنا دراسة لإنشاء صوامع
عادل عبد العزيز: أطالب الدولة بتغيير نظرتها لآلية الاقتصاد الحر
مسؤول: تلف «25%» من الحبوب يؤكد ضعف مواعين التخزين
الخرطوم: صديق رمضان
حينما كانت الحكومة ممثلة في المخزون الإستراتيجي تعمل على تخزين الذرة بطمره تحت الأرض بالقضارف، كان هذا الفعل مثار تندر وسخرية من قبل قطاع واسع من المواطنين، ووقتها كنا في زيارة للولاية الإنتاجية الأولى للمحاصيل، حيث دار حديث بالقرب من مكتب الصحف المملوكة للأستاذ الهادي بوسط سوق المدينة عن الاتجاه لتخزين الذرة بدفنها تحت الأرض بمنطقة أبو النجا، واستمعنا يومها الى سيل من التعليقات اللاذعة والطريفة، حيث قال شاب يدعى عثمان “نحن راجعين إلى الوراء جد جد والدليل على كده المطامير تاني رجعت”.
وقريبًا من ذات القول فقد بدا موظف خمسيني ناقماً وقال” الناس طلعت القمر ونحن لسه بندفن العيش في الواطة”، تعليقات بقدر ما حملت من طرافة إلا أنها أوضحت عمق أزمة اقتصادية أخرى تلقي بظلالها السالبة على إنتاج البلاد الغزير من المحاصيل وتتمثل في ضعف المواعين التخزينية.
غرائب وعجائب
وإذا كانت الذرة التي تعرضت للتلف أخيراً بولاية القضارف قد أثارت الرأي العام وجعلت وزيرة الرعاية الاجتماعية تلجأ للقول إلى أن ما حدث “قضاء وقدر”، فإن هذه القضية ظلت تتكرر سنويًا ليس على صعيد الذرة والسمسم بل حتى على نطاق الخضروات والفواكه، فمن قبل لم يجد منتجو البطاطس بالولاية الشمالية غير التخلص من كميات تقدر بعشرات الأطنان لعدم وجود مخازن كافية “برادات”، وينسحب هذا على محاصيل أخرى لا حصر لها، والغريب في الأمر أن السودان رغم أنه دولة زراعية منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، إلا أن ضعف السعة التخزينية ظلت عنواناً بارزاً له يؤكد اقتصاديون ومنهم الخبير عادل عبد العزيز من الأسباب المباشرة لفقدان كميات مقدرة من المحاصيل، وجود ثلاثة أدوار تؤديها خدمات التخزين للاقتصاد، يتمثل الدور الأول في حفظ المنتجات من التلف لحين تسويقها بالسعر المناسب الذي يحقق الربحية للمنتج، أما الدور الثاني وهو تحقيق الأمن الغذائي للسودان، وذلك عن طريق قيام الجهة المسؤولة عن المخزون الاستراتيجي للدولة بتخزين المواد الأساسية الإستراتيجية في منشآت تخزين ضخمة كصوامع الغلال أو مستودعات المواد البترولية، فيما يتمثل الدور الثالث في استخدام المخزونات كأدوات إئتمان «ضمان» تمنح بموجبها البنوك القروض للمصنعين والمنتجين.
مقارنة معدومة
يقدر إنتاج السودان السنوي من الحبوب بخمسة ملايين طن إلى ثمانية ملايين طن، ويتوقف هذا على ارتفاع وانخفاض كميات الأمطار إلا أنه رغم ذلك فإن السعة التخزينية في البلاد تبلغ مليون طن فقط، منها 650 ألف طن بحسب مدير البنك الزراعي صلاح الدين محمد أحمد مقسمة بين صوامع القضارف وبورتسوادن بغرض المناولة والأجمالي 240 ألف طن، علماً بان بالبلاد صومعتين تم بناؤهما في ستينيات القرن الماضي، حيث تبلغ سعة صومعة بورتسودان 100 ألف طن للحبوب، والأخرى بالقضارف سعتها 300 ألف طن إضافة إلى صوامع أخرى صغيرة الأحجام تابعة للبنوك والشركات، ويعمل البنك الزراعي على إنشاء مطامير تقليدية في حالة الإنتاج العالية من الحبوب وليس تشييد صوامع جديدة، ويعترف مدير البنك الزراعي بأن السودان ورغم أنه من أفضل ثلاث دول تمتلك موارد في العالم بالإضافة إلى أستراليا وكندا إلا أنه لم يستغل موارده الاستغلال الكامل.
وحول قضية ضعف التخزينية اعترف مدير البنك الزراعي بها وقال إن البنك أعد دراسة دراسة تتعلق بإنشاء صوامع ومخازن مبردة قدمها لوزارة المالية في العام 2012 لتوفير التمويل اللازم لإنشائها، ولكن لم يتم تشييدها حتى الآن.
تلف وخسائر
التلف الذي أشار إليه الخبير الاقتصادي عادل عبد العزيز أقر به من قبل.
مدير إدارة المخزون بالبنك الزراعي فضل حسن محمد الذي كشف أن تلف «25%» من إنتاج الحبوب بسبب سوء التخزين يؤكد ضعف مواعين التخزين بالبلاد، مؤكداً وجود ضعف في السعة التخزينية ومفارقات بين حجم الإنتاج الذي بلغ في الذرة لأحد المواسم الصيفية أربعة ملايين و300 ألف طن، وقال إن السعة التخزينية للمخزون الإستراتيجي التابع للبنك الزراعي تبلغ 650 ألف طن، وحديثه هذا يؤكد وجود فجوة كبيرة بين الإنتاج ومواعين التخزين.
اعتراف رسمي
الغريب في أمر المواعين التخزينية أن الدولة وعلى كافة مستوياتها تقر بوجود أزمة حقيقية فيها، غير أنها حتى الآن ورغم تشييدها لأكثر من ثمانية آلاف كيلو متر من الأسفلت وعدد من السدود والكباري، إلا أنها ظلت تكتفي بتأكيد ضعف المواعين التخزينية ولا تفعل شيئاً، وهذا ما يشير إليه وزير الزراعة السابق البروفسير إبراهيم الدخيري الذي أكد على ضعف المواعين التخزينية بالبلاد، ويقول إن الإنتاج وصل في الموسم الماضي إلى (8) ملايين طن من الذرة وحدها، ولكنه أكد أن مقدرة البلاد التخزينية لا تصل ألى مليون، وأضاف: الأفضل أن يكون التخزين في أوعية تخزينية مثل الصوامع التي لها نظمها ومواصفاتها المتطورة، وتوجد مشروعات مطروحة من قبل البنك الزراعي ووزارة الزراعة للقطاع الخاص في التوسع في المواعين التخزينية، والتوسع في أوعية التخزين الحديثة، وتخزين المخزون الإستراتيجي الذي يسمح بالتعامل مع الأزمات التي تنتج، خاصة أن الإنتاج الزراعي في الغالب مرتبط بطريقة أو بأخرى بهطول الأمطار وتقلب المناخ، وتظل المخاطر موجودة، لذلك التخزين الإستراتيجي بوصفه حداً أدنى مطلوب لأننا نتحدث عما يقارب (4) ملايين طن، وهذا يحتاج إلى استثمارات ضخمة وحديثة.
طموحات بدون إمكانيات
رغم عدم وجود مواعين تخزينية كافية في البلاد، إلا أن الغرابة تكمن في أن البرنامج الخماسي للإصلاح الاقتصادي 2015 ـ2019 الذي جاء تحت شعار «الإنتاج من أجل التصدير» ركز على زيادة إنتاج الحبوب الغذائية من 7.5 مليون طن إلى 14 مليون طن بنهاية الخطة والحبوب الزيتية من 1.5 مليون طن إلى 4.4 مليون طن وزيادة إنتاج القطن من 500 ألف طن إلى 882 ألف طن، غير أن الدولة ورغم هذه الإستراتيجية لم تضمن المواعين التخزينية ثنايا أوراق الإستراتيجية، وعلى نعرف كيف سيكون الواقع إذا وصل الإنتاج إلى 14 مليون طن.
تلف وإتلاف
لم تكن حادثة تلف الذرة التابع لديوان الزكاة أخيراً الحادثة الأولى لتعرض المحاصيل لأضرار بداعي أزمة التخزين، فقد سبق وأكد رئيس اللجنة الزراعية بالمجلس الوطني عبد الله علي مسار تلف أربعة ملايين جوال من مخزون الذرة المطمور في الأرض بولاية القضارف، وذلك تحت قبة البرلمان، حيث تم استدعاء مدير البنك الزراعي، وعلى طريقه مضى رئيس اللجنة الزراعية بالمجلس التشريعي بولاية القضارف الصافي عوض الذي حذر أكثر من مرة من تلف أكثر من 9 ملايين جوال ذرة تم تخزينها في المطامير التقليدية داخل الأرض والمخازن التجارية غير المطابقة للمواصفات التخزينية بعد توقف البنك الزراعي عن تشييد المطامير التخزينية، وقال: وظلت الأمطار تتسبب في معظم المواسم في تلف كميات كبيرة من الذرة للمزارعين والتجار والبنوك والشركات وديوان الزكاة.
أزمة حقيقية
من ناحيته، فإن أمين أمانة الزراع السابق بالمؤتمر الوطني بولاية القضارف وأحد كبار المنتجين عمر حسن فاضل يعتقد أن التخزين يمثل أزمة حقيقية للمزارعين، الذين كشف عن أنهم عندما يكون الإنتاج كبيراً يتركون الذرة في العراء لأشهر حتى يتمكنوا من إيجاد مواعين لتخزينها، وقال إن القضارف رغم أنها ولاية زراعية تنتج في العام ما يربو علي الخمسة ملايين طن من الحبوب إلا أن كل الأوعية التخزينية التي توجد فيها لا تستوعب سوى 10% من الإنتاج، ويرى في هذا ضرراً على الاقتصاد القومي بتعرض محاصيل للتلف، ويشدد على أهمية توجيه الدولة لموارد مالية ضخمة للمخزون الإستراتيجي لتشييد صوامع ذات سعة تخزينية كبيرة وأن يفعل ديوان الزكاة ذات الشيء بأن يحرص على إنشاء مخازن كبيرة بمختلف ولايات البلاد، وأن يتم إلزام الشركات والبنوك والمصدرين أيضاً بإنشاء مخازن وصوامع صغيرة، ويرى أن التخزين بصفة عامة يعتبر من نقاط ضعف الاقتصاد بالسودان، وقال إن الأزمة تنسحب على المنتجات الأخرى مثل الخضر والفواكه التي تعاني من شح المواعين التخزينية الجافة والباردة، ورأى أهمية تشجيع القطاع الخاص على دخول هذا المضمار حتى تتم الاستفادة من كل المنتوجات الزراعية، ورأى أن التخزين الجيد يحافظ على توفر المنتج طوال أيام العام وبسعر جيد.
واجب الدولة
ويعود الخبير عادل عبد العزيز ويشير إلى ضعف مواعين التخزين ومشكلة التسويق، ويقول في تصريحات صحفية: هما مشكلتان مترابطتان ولهما نتائج كارثية بسبب ضعف مواعين التخزين أصبح كثير من الإنتاج يضيع بسبب كثرة العرض في مواسم الإنتاج مما يؤدي لانهيار الأسعار وتكبد المنتجين خسائر كبيرة وخروجهم من دائرة الإنتاج في الموسم التالي، وهذا يضعف العرض ويسبب ارتفاع الأسعار فيه، والمشكلة الثانية مشكلة التسويق حيث يتعدد الوسطاء ويربحون هوامش ربح بصورة مبالغة تعادل أضعاف المنتج الأصلي للسلعة، وبسبب الحاجة للسيولة وضعف مواعين التخزين فإن المنتجين يتعرضون لابتزاز واضح، وكل هذا يضعف توجه الناس للإنتاج، بينما يزدحمون في مهن الوساطة والسمسرة لأرباحها العالية والسهلة، وطالب الدولة أن تغير نظرتها لآلية الاقتصاد الحر وحرية وضع الأسعار وهوامش الربح ذلك لأن الآلية لا تعمل بصورة جيدة لصالح المنتج، وأردف:” لكنها للأسف تعمل لصالح كائن طفيلي غير مرغوب فيه في العملية الاقتصادية”.
دخول القطاع الخاص
سألت وزير المالية الأسبق والخبير الاقتصادي الدكتور عبد الرحيم حمدي عن انعكاس أزمة ضعف المواعين التخزينية على الاقتصاد بالبلاد، فأشار إلى أن المدير الأسبق للبنك الزراعي أحمد الطيب حرحوف كشف في ندوة عن فقدان 30% من المحاصيل لسوء التخزين وانعدامه، وقال إن الدولة اكتفت بإنشاء صومعتين بالقضارف وبورتسودان، ويلفت الوزير الأسبق إلى أنه في عهدهم أجازوا مقترح إنشاء عدد من الصوامع ولا يعرف ماذا حدث بعد ذلك، غير أن حمدي يعتقد بأهمية تشييد عدد من صوامع الغلال وذلك لمقابلة الإنتاج بالبلاد، ولكنه في زاد الوقت يطالب بدخول القطاع الخاص في هذا المجال الذي يعتبره مربحًا ومن أسهل أنواع الاستثمار ، ويشير إلى أن خروج الحكومة من القطاع الزراعي وتركه للخاص يسهم في تطوره، ويرى بأن تكتفي الدولة بوضع السياسات العامة وإنشاء الطرق وإيجاد حلول لمشاكل التمويل حتى يصبح الحصول عليه أكثر يسراً، ويعود إلى الصوامع، ويشير إلى أن أمريكا وبداعي دخول القطاع الخاص في الزراعة، فإن كل مزارع يمتلك صومعة خاصة، ويؤكد إمكانية حدوث هذا أو على الأقل إنشاء صوامع في كل مناطق الإنتاج بالبلاد حال دخول القطاع الخاص في الزراعة وفقاً لسياسات حكومية جديدة في التمويل.
الصيحة.