كلمات ليست كالكلمات

بروين حبيب

«إن لم تختر مسدسا جيدا لتطلق به النار على عدوّك فلسوف ينفجر في وجهك وتموت أنت». نصيحة يقدمها ثائر معتق لمتمرد شاب، قاصدا بها اختيار الكلمة لا السلاح، ذلك أن حسن اختيار الكلام فيه من الفوائد ما لا يدركه المرء في ريعان تجربته الحياتية، وفيه من الموت ما يقتل صاحبه من أول همسة.
والحديث يجرنا لمجتمعاتنا الفتية، مقطوعة الأواصر في ما بين أجيالها، مبتورة الأصابع والأيدي والألسن، مقلّمة الأجنحة مثل طيور يقدم لها العلف لينتهي بها الأمر في المسالخ. أنت في هذه الحياة كمن يجلس أمام مربع كبير للكلمات المتقاطعة، إن لم تضع الكلمة المناسبة في تلك المربعات التي ترمقك بأحجياتها فلن تصل لحلها كاملة أبدا.
يبقى بعضها فارغا، والبعض الآخر سيحمل خطأ يعكر على باقي المربعات وصفو معانيها وجمالياتها. وكما يقال، عندما لا تكون هناك أرض وسط بين طرفين متطرفين، فمن واجب الإنسان أن يختار أكثر «الحكمة» وهذه الحكمة لا تكون إلا في حدود الكلام. وحدها اللغة تعيد ترتيب الأشياء التي تداخلت بسبب فوضى ما.
لقد أثبتت التجارب الإنسانية عبر التاريخ أن الكلمة وحدها تصنع الفواصل الحاسمة في صنع مصائرالشعوب. فإن حلّ الصمت فذلك لا يعني أن تقرع طبول الحرب والتراشق بالحجارة والبارود، بل من الأفضل استغلال ذلك الصمت للإصغاء للكلام النابع من الدّاخل. فكل صمت لغة أكثر بلاغة من اللغة التي نتفوه بها وتخضع لتأثيرات كثيرة داخلية وخارجية. ولعلّ أشهر الكلمات في التاريخ، التي لخصت بعض التجارب الإنسانية العظيمة كلمة «يوريكا» أو «وجدتها» التي تلفظ بها أرخميدس حين اكتشف سر كثافة الأشياء، عمر الكلمة ثلاثة وعشرون قرنا تجاوزت حدود منبعها اليوناني وأصبحت كلمة عالمية، ارتبطت بخطابات وشركات ومحلات، وظلت محافظة على سياقها الذي استمدته من اللحظة، إنها لا تعني الاكتشاف، ومع هذا فقد حملت هذا المعنى، يمكن استعمالها بسهولة لإيصال فكرة اكتشاف أي شيء وسيتقبلها الناس أكثر من أي خطاب طويل عريض يشرح تفاصيل الاكتشاف نفسه.
كلمة «هللو» التي استعملها توماس إديسون سنة 1877 كتحية عبر الهاتف، أيضا أصبحت عالمية، والكلمة لها قصة لطيفة وتطور ألطف، يمكن الرجوع إليها عبر غوغل لاكتشاف «حكاية كلمة» تم بشأنها مراسلات رسمية، ورفض وموافقة وخوف من انسلاخ شخصية وغزو ثقافي وما إلى ذلك.
كلمة فرضت نفسها وتحوّلت إلى أبسط تعبير إنساني يلتقي من خلاله كل البشر على المعمورة، باستثناء المجتمعات البدائية في بعض القبائل المعزولة بسبب الجغرافيا الصعبة، ومع هذا يبدو للكلمة سحرها، كما يبدو ذلك في التحقيقات المتلفزة لمغامرين يقتحمون تلك التجمعات البشرية ويتواصلون معها بأول كلمة «هللو» فإذا بها نظرة وابتسامة فسلام فموعد، فكلام لا يشبه الكلام لكنه يوصل للغايات. سنة 2009 زار الرئيس السابق باراك أوباما القاهرة وخاطب الأمة الإسلامية بلغتها مفتتحا خطبته الشهيرة بتحية الإسلام «السلام عليكم»، وكانت الكلمة التي اهتزت لها القلوب، وبكت على وقعها الأعين، وتحركت لها العواطف، فتغيرت سياسة المنطقة كلها في حركة أحدثت فوضى عارمة على مسارات السياسات العربية، التي صدّق بعضها الرجل وكذّبها بعضها الآخر.
قلبت الكلمة كيانات المشتغلين بالسياسة والمسيرين دينيا، سواء دعاة وشيوخا أو متابعين. وشرّعت الأبواب أمام تغيرات عاصفة في المنطقة العربية، وإن كان البعض قرأها آنذاك على أنها «بداية جديدة» للسياسة الأمريكية في المنطقة العربية، فإن نوعية البداية لم تحدد، وأبعادها أيضا لم توضع تحت مجهر المنطق لفهمها من خلال المعطيات، لكن الأرجح والأقرب للحقيقة هو أن الأمريكان والقوى الغربية العظمى فهمت أن «فتوحاتهم» لن تكتمل بالسلاح ? بعد ان استنزف العراق الكثير من أموالهم ? بل بالكلمة، وما سيليها من «عتاد لفظي» سيجعل شعوب المنطقة تنفذ أجنداتهم وهم يراقبون.
نعم «السلام عليكم» نفسها الكلمات التي حفظناها بتعبيرات مغايرة من خلال تأثرنا بفيلم «الرسالة» لمصطفى العقاد: « السلام على من اتبع الهدى» و«أسلم تسلم»، لكن الوضوح في التحية المحمدية كان أبعد منه في رسالة أوباما كتحذير بقدوم حرب إن لم يتبعها استسلام ومعاهدة سلام تقوم على شروط، لما في فعل الأمر «أسلم» من تهديد وتحديات. ولا أستبعد أن تكون تلك الرسائل درست بعناية فائقة لتحضير الرسالة «الباراكية» المباركة التي وجهت للعالم العربي تحديدا قبل تهيئته للمضي مشاركا في مخطط استسلامه الجديد.
إنها كلمة تفوق كلمة هاري بوتر العجيبة «آبرا كدابرا» وكل كلمات سحرة الكون من عهد موسى عليه السلام إلى سحرة القرون الوسطى إلى هاري هوديني سيد فن الوهم في القرن الماضي، الذي قال «العقل يصدق ما يسمع وما يرى» وهذه أكثر حقيقة صدرت عن شخص لعب بعقول الناس طيلة فترة حياته القصيرة. لكنها الحقيقة التي نرفض الاعتراف بها مع أننا نُساق بها كما القطعان التي تساق بتصفيرة، أو بنباح كلب. تعبث الكلمة بمكونات العقل أحيانا، فيصعب الخروج من سطوتها، مثل بعض الكلمات التي تبدو لنا «مقدسة» فلا يجوز حتى ترجمتها لتقريب مفهومها للسامع، ولعل المختصين في علم اللسان لديهم الكثير حول هذا الموضوع، حتى أن شعوبا بأكملها روضت بكلمات، وبعد سنوات حين انفتح العالم على بعضها بعضا عبر الإنترنت و شبكات التواصل الاجتماعي بدت تلك «الكلمات» المرتبة بعناية على شكل خطابات هزت بعض الأمم، بدون قيمة اليوم، بل إنها أقرب إلى مادة إنشائية يكتب تلميذ في المراحل المتوسطة أفضل منها بكثير. لكن حين نقرأ خطاب المهاتما غاندي على سبيل المثال، وهو يفتتحه بجملته العظيمة «ليس بيننا أسرار» ونستمر في قراءة فلسفته المسالمة المناهضة للعنف، سنكتشف مدى شفافية الرجل ودقته في اختيار كلمات ذات محتوى خال من أي استفزاز «نريد أن نقاوم غضبهم لا أن نشعله.. لن نضرب.. لن نقتل». وقد قاد بحكمته تلك أعظم ثورة مسالمة في التاريخ، وإلى اليوم يتساءل الدارسون والباحثون في فلسفته وقوته هل يعود سر ذلك إلى تأثره بأدب الكاتب الروسي تولستوي؟ أو الكاتب الأمريكي ديفيد تورو؟ أو تأثر خاص بالسيد المسيح بعد أن قرأ الإنجيل وتمعّن فيه؟ والأرجح ربما أن غاندي فتنته الكلمات وكوّن نفسه بنفسه مُغذيا بذرة المعرفة التي بداخله، حتى كبرت وأثمرت. وأنّه منذ البداية كان صاحب رؤية، وفضّل أن تكون الخسائر بأقل ما يمكن خلال قيادته لثورته ضد العنصرية والاستعمار، بل أبعد من ذلك، أدرك أن كل الحروب لا تنتهي إلا بالحوار الذي يأتي بعد أن تنهك الحرب أصحابها وتمص غضبهم، ويبدو أنه مص ذلك الغضب بعصيان مدني هادئ، لم يتكرر في التاريخ إذ كان أساسه كلمة، ونهايته انتصارا.. مع خلاصة قيمة وهي «إن كانت الكلمة تحقق الغايات فلماذا كل هذه الحروب؟».

شاعرة وإعلامية من البحرين
القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..