أخبار السودان

انهيار الخدمة المدنية بنظرية التمكين والولاء السياسي والفساد…وزارة الخارجية كمثال

سليمان حامد الحاج

قال وزير العمل د. بابكر أحمد نهار في مخاطبته لمبادرة مؤسسة ” السودان فاونديشن للإصلاح والتطوير الإداري” تحت شعار ” معاً نحو نهضة تنموية شاملة” والتي اقيمت بدار الشرطة في3 اكتوبر 2017م، إن البلاد تشهد حركة دؤوبة لإصلاح الخدمة المدنية، واعتبر الخدمة المدنية قوة للدولة الحضارية والثقافية، وأن التحدي الذي يواجهنا هو التدهور في الخدمة المدنية، ورهن ذلك لتدهور القطاعات والنواحي القانونية والإدارية والتنظيمية، وأن برنامج إصلاح الدولة يجئ باصلاح الخدمة المدنية بتأهيل وتدريب الكوادر البشرية لتمكينها من استغلال الموارد بالصورة المثلى.

هذا التصريح يوضح أن الوزير نهار يعرض خارج الحلقة، ولن يستطيع إذا أصر على هذه السياسة،انقاذ الخدمة المدنية من الانهيار ،بل سيعيد إنتاج أزمتها ويفاقم من أسباب معاناتها.

القاصي والداني يعرف الأسباب الحقيقية التي قادت إلى هذا الانهيار الشامل ولا شك أن نهار يعلمها علم اليقين بحكم منصبه وملامسته لجهاز الخدمة المدنية.

أول هذه الأسباب يكمن في نظرية التمكين التي رسخ بها حزب المؤتمر الوطني الحاكم أقدامه في الحكم، وأمسك عبرها بكل مفاصل السلطة والثروة في البلاد. هدفت هذه النظرية إلى فصل كل المعارضين لسياسته واحلال الموالين للنظام مكانهم ولا تترك أي ثغرة لأي صدفة موضوعية أو غير موضوعية تنفذ منها قوى المعارضة إلى أي مسام في جسد الخدمة المدنية.

استعين في هذا الخبر بما جاء في السفر القيم كتاب “ذكريات وتجارب دبلوماسية” لمؤلفه د.عطا الله حمد بشير تحت عنوان “التطهير والفصل التعسفي في الخارجية ” ما يلي:

كانت وزارة الخارجية أولى الوزارات التي امتدت إليها حملات التطهير باسم الصالح العام وتوالت عليها حملات التطهير بطريقة منهجية. تصدر السفير إبراهيم طه أيوب وزير خارجية الانتفاضة القائمة الأولى للمفصولين التي أصدرها مجلس الانقاذ بعد أقل من شهر من انقلاب يونيو 1989 وتتابعت ضربات التطهير بصفة متقطعة في مجموعات وأفراد في وزارة الخارجية. صدرت أولى قوائم التطهير في يونيو 1989م شاملة آلاف المفصولين من الخدمة المدنية في مختلف الوزارات والنظاميين من ضباط القوات المسلحة والشرطة وشملت قائمة الخارجية 12 من كبار السفراء، بعد اسبوعين تقريباً وفي اغسطس 1989م صدر ملحق الاعفاءات يشمل مجموعة ثانية من كبار السفراء. أما المجزرة الكبرى فقد تمت في 8 نوفمبر 1989م بصدور القائمة الثالثة التي تميزت بعدديتها المهولة التي بلغت 41 دبلوماسياً وبشمولها لكل الدرجات الدبلوماسية من سفير حتى صغار السكرتيريين ومعظم الكوادر النسائية، وكانت بمثابة مذبحة جماعية أحدثت ذعراً وموجة من الأحزا ، وتشرد على اثرها عشرات الدبلوماسيين وأسرهم بالداخل والعواصم المختلفة، فكانت تصفية لكوادر الوزارة المتمرسة مهنياً من ذوي الخبرات المتراكمة.

وأحدثت شللاً في الوزارة بنسبة 35% من العاملين بالسلك الدبلوماسي و50% من السفراء.

لم تقف حملات الانقاذ للتصفيات والاعفاءات لكوادر السلك الدبلوماسي بل توالت بوتيرة متقطعة في شكل قوائم لمجموعات صغيرة، وكانت وزارة الخارجية من أهم المرافق التي استهدفتها “الانقاذ” بعملية التطهير والابدال والاحلال والتمكين.

شملت تعيينات جماعية وفردية من كوادرالانقاذ الإسلاميين في كل الدرجات الوظيفية في هرم الهيكل التنظيمي الخاص بالسلك الدبلوماسي. ففي اغسطس 1989م صدر مرسوم بتعيين سفراء من شخصيات دخيلة وجديدة على وزارة الخارجية، ثم توالت التعيينات السياسية في درجة السفراء بحالات فردية في مايو 1995صدر مرسوم بتعيين 35 شاباً من كوادر شباب الانقاذ كدبلوماسيين جددد في درجات تتراوح من سكرتير ثاني إلى وزير مفوض وذلك دون إجراء لامتحانات تحريرية أو فحص لمؤهلاتهم العلمية أو خبراتهم العملية. اتضح أن معظمهم كانوا يعملون كممثلين لمنظمة الدعوة الإسلامية في الدول الافريقية وغيرها من المؤسسات الإسلامية التابعة لحزب الجبهة الإسلامية القومية داخل وخارج السودان وفي أمريكا تحديداً. تواصلت سياسة الاحلال والتمكين في الخارجية بالحاق بعض أفراد النظام من حين لآخر بموجب قرارات جمهورية أو وزارية لحالات فردية وشخصية ،تشير خلفياتهم العملية بأنهم كانوا يعملون في مختلف التنظيمات الإسلامية أو رؤوساء اتحادات طلابية داخل وخارج السودان أو مؤسسات الجبهة الإسلامية الأخرى أو جهاز الأمن.

خرقت الانقاذ نظام واجراءات الخدمة المدنية في القبول للمناصب باجراءات صورية تنتهي باختبار كوادر الجبهة الإسلامية من بين الممتحنين، فالهدف هو استقطاب كوادر الولاء على حساب الآداء والمحسوبية بدلاً من المؤهل والجدارة.

لم تتوقف هجمات الاحلال والتمكين في استخدام الكوادر الموالية فقط إنما في معاملتهم معاملة تفضيلية خاصة وغير قانونية بتجاوز شروط وقوانين الخدمة المدنية، فما ان بلغ ما تبقى من السفراء المهنيين سن التقاعد، يتم انهاء خدماتهم في التاريخ المحدد، فيما لا يخضع السفراء الذين تم تعيينهم سياسياً لقانون الخدمة المدنية، إذ لا يحالون للتقاعد بل يواصلون البقاء في وظائفهم ومواقعهم كسفراء حتى بعد تجاوزهم السبعين من العمر. كما يتجاوزون حتى لوائح السلك الدبلوماسي القاضية بعودة السفراء بالخارج بانتهاء دورتهم المحددة اربع سنوات، ويبقون بالسفارات دون تحديد سقف زمني لهم. كما يتميز السفراء والدبلوماسيون المعينون سياسياً بامتيازات خاصة في تحركاتهم وتسهيلات لا تتوفر لنظرائهم وبعيدة عن قوانين الخدمة المدنية، كما يجدون رعاية خاصة عند وزير الخارجية وقيادات الدولة لا سيما ولبعضهم نفوذ وسلطات داخل وخارج الوزارة بحكم قربهم أو موقعهم في التنظيم أو مكانته في اتخاذ القرار.

تجاوز عدد أفواج السفراء الذين عينتهم الانقاذ حتى العام 2013 المائة سفير، أوردهم الكاتب باسمائهم ووظائفهم، فيما يشكل الدبلوماسيون ما دون السفير الذين تم استيعابهم عبر سياسة الاحلال والتمكين غالبية الوظائف الدبلوماسية، باستثناء بعض العشرات من المهنيين القدامى الذين لم يتم بترهم بسيف التطهير أو الذين لم يبلغوا سن التقاعد بعد، وهم اقلية يطغي عليهم المئات من الدبلوماسيين السياسيين المعينين الذين يهيمنون على الوزارة عددا وسيطرةً ونفوذاً.

غير أن أغرب الممارسات التي تتعارض مع الخدمة المدنية وتناقض قوانينها هو ما ابتدعته الانقاذ من مفاهيم تسير بها وزارة الخارجية وهو شعار ومفهوم ” الدبلوماسية الرسالية” والترويج لـ “المشروع الحضاري” بمعنى أن السفير لم يعد سفيراً نمطياً بمفهوم القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية المعروفة والسائدة، ولكن حكومة الانقاذ وجهت سفيرها بأن يحمل رسالة خاصة في مهمته بالمبادرة والمبادأة للاعلان ونشر ثقافة المشروع الحضاري في كل انحاء العالم.

ولن يتأتى تأهيل السفير الرسالي إلا عبر وسيلتين: تعيين سفارء جدد من كوادر الجبهة الإسلامية بدلاً من السفراء التقليدين والنمطيين، او عبر تلقين السفراء الموجودين بجرعات تثقيفية في دورات ومعسكرات “الفاروق” لغسيل عقولهم بمبادئ الانقاذ Indoctirinationلإعادة تأهيلهم وتوجيههم لتمكينهم من آداء مهمتهم وفق التوجه الاسلامي، ونشر وترويج المشروع الحضاري الاسلامي السوداني الانقاذي في العالم. وعليه أصبح سفراء السودان يمثلون الجبهة الإسلامية وليس مصالح السودان.

أوردنا هنا مثالاً واحداً مطولاً عن تصدر لتوضيح التخريب الذي حدث في الخدمة المدنية، ويمكن ايراد العديد من الأمثلة للاحلال والأبدال الذي حدث وسط المعلمين وعمال وموظفي السكة الحديد والأطباء ومختلف المهن، وبمئات الآلاف لهذا لم يكن مدهشاً ولا أمراً عجباً ما يحدث من فساد مستشري في معظم أجهزة الدولة أن لم يكن جميعها.

السؤال الذي يفرض نفسه على وزير العمل د. بابكر نهار هو: كيف تستطيع بما أوتيت من القدرات إصلاح مثل هذا الخراب الذي صار أشبه بشملة كبيرة الـ “ثلاثية وقدها رباعي” لقد اتسع الفتق على الراتق، ولا سبيل لإصلاح خدمة مدنية تفتقد أبسط المقومات والقوانين التي تحكمه، ويسيطر عليها نظام شريحة طبقة الرأسمالية الطفيلية المتأسلمة الذي جسد عبر هذا التمكين أبشع أنواع الحكم المعادي للشعب والمدمر للوطن. ولهذا لا مخرج للخدمة المدنية إلا باسقاطه.

الميدان

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..