أخبار السودان

في ذكرى إعلان الاستقلال قائد طابور رفع العلم الفريق مزمل غندور يفتح خزائن الأسرار

عبد الخالق محجوب إلى أن غادر الدنيا كان ضد الانقلابات
خلال سنوات الحرب العالمية كلها لم يكن هناك أسير سوداني واحد لدى الأعداء
تأميناً للثورة فقد تقرر إحالتكم للمعاش ضمن عدد من الشخصيات
الختمية والأنصار أشبه بالزيت والنار
أجراه: مزمل عبد الغفار
صورة معلومة للجميع، مشهداً وحدثاً وواقعاً، شكَّلت ملامح الأفق السياسي السوداني، حملت معها حالة من عدم الاستقرار السياسي لتجارب الحكم عسكرية كانت أم مدنية، من الاستقلال وحتى الآن.
تلك التجارب التي لم يحالفها الحظ والتوفيق في أن تبقى أو أن تستقر بالبلاد فصارت هذه الدائرة الجهنمية (انقسامات سياسية ــ تمرد ــ انتفاضات وانقلابات) فدار السودان ودارت كل قواه السياسية في هذا الفلك ردحاً من الزمن. هكذا في تجربة الحكم العسكري الأول التي مرت ذكراها مؤخراً 17 نوفمبر 1958م (انقلاب عبود) والتي نُسبت إلى حزب سياسي بعينه، ثم التجربة العسكرية الثانية والتي جاءت بملامح آيدولوجية في مايو 1969م (انقلاب مايو) تلك الحقبة التي قدمت ثلاثة أنواع من التجارب السياسية، حُسبت على اليسار في بدايتها ومضت نحو الوسطية في نسختها الثانية ثم انتهت يمينية في أواخر عهدها، وما بين الديمقراطية الأولى والثانية والثالثة، كان الفشل أبرز المعالم إلى أن جاءت حكومة الإنقاذ وهي التجربة العسكرية الثالثة أيضاً. وبهذه المقدمة يكتسب حوارنا الذي أجريناه مع الفريق مزمل سليمان غندور أهمية ذلك للوقائع التاريخية التي عاصرها وشاهدها بحكم وجوده المبكر في القوات المسلحة، وإلمامه بكل المراحل والمحطات التي مرت على دفتر أحوال السياسة في السودان منذ فجر الاستقلال وحتى الآن. وفي ذكرى إعلان الاستقلال من داخل البرلمان يواصل محدثنا اعترافاته المثيرة من خلال إجاباته على عدد من الأسئلة بدأناها بالسؤال:
> كيف كانت ملحمة الاستقلال والقرار هنا؟
< لقد نلنا استقلالنا كما هو معلوم في يناير 1956م والفنان الذي قاد ملحمة ولوحة الاستقلال وأخرجها في حللها الزاهية كان هو الزعيم إسماعيل الأزهري الذي كنت أنا أحد طلابه في المدارس الثانوية، حيث كان معلماً لمادة الرياضيات وكنت قريباً منه كطالب. وأذكر أنه كان يحدثنا في ذاك الوقت أي قبل توليه مهام السلطة بأن حزب الأشقاء لا يعني المناداة بالاتحاد بين مصر والسودان، بل أن الحزب ? للأزهري- هو عبارة عن الجماعة الذين كونوا الحزب، وكان يقول أيضاً أن المناداة بالاتحاد مع مصر كانت وسيلة وليست هدفاً وهذه المفردة لناس ما كانوا يتفهمونها على الوجه الصحيح، فكانت فكرته تقوم هنا على استصحاب طرف عدو للتخلص من عدو آخر فهو ظل ينادي بالتقرب من المصريين من أجل خروج الإنجليز. وحقيقة وحتى نصل للاستقلال، كانت كل الأحداث التي دارت هي نتاج للمفاوضات التي جرت بين مصر وبريطانيا في العام 1953م، وجمال عبد الناصر كان يقول وقتها إنه قدم فكرة مشكلة السودان على مشكلة إخراج الإنجليز من مصر والاتفاقية وقتها انتهت إلى أن البريطانيين قد طالبوا بحق تقرير المصير للسودان وهذه كانت واحدة من أخطاء جمال عبد الناصر التي لم تكن واردة في تفكيره ولم يولها اهتماماً، لأن حملة فتح السودان من قبل ذلك كان اسمها (الحملة) استرجاع السودان وذلك على اعتبار من جانبهم أنه جزء من مصر، ومصر على طول ذاك الزمان لم تكن معترفة بأن السودان منفصل عنها وكان ذلك حتى في زمن الملك فاروق، ولكن الاتفاقية قد حددت إجراء الاستفتاء حول الاستقلال التام أو الاتحاد مع مصر أي على السودانيين أن يقرروا في ذلك، ومرت الأحداث تباعاً إلى أن جاءت رحلة الأزهري السرية لبريطانيا والتي أقنع البريطانيين فيها بفكرة استقلال السودان من خلال اجماع البرلمان والإنجليز أصلاً لم يكونوا يفضلون لنا الاتحاد مع مصر وبعد انعقاد مؤتمر جوبا الذي وافق فيه الجنوبيون على فكرة أن السودان هو بلد واحد وذلك بعد أن كان البريطانيون في حيرة من أمرهم في هذه الناحية ومع مناداة البعض من المثقفين وأهل الكنائس بالفيدرالية، وافق الجميع بأن يصوت البرلمان لصالح استقلال السودان فنلنا استقلالنا وفي صبيحة يوم الاستقلال يناير 1956م لحظتها أنا كنت قائداً للطابور الذي أشرف على رفع علم استقلال السودان وذلك بحكم أنني كنت وقتها في سلاح المهندسين ولهذا كنت قائداً للبلك الذي قام برفع العلم. > انتهت بالتالي ملحمة الاستقلال ودخلنا على أول مرحلة للحكم الوطني ماذا كان هنا؟
< حقيقة وبعد أن تحقق استقلال السودان وتكونت الحكومة الوطنية ذهب السيدين الإمام عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني كلٌ لموقعه ذاك في أم درمان وهذا في الخرطوم بحري، وأذكر أن الإمام عبد الرحمن كان نهجه هو الشورى والمناصحة مع السياسيين من أنصاره أما السيد علي الميرغني فكانت علاقاته مع الاتحاديين غير معلنة، وبالتالي وعندما أصبح إسماعيل الأزهري رئيساً للوزراء وهو لم يكن ختمياً وما كان على تشاور مع السيد علي الميرغني الذي لم يعجبه هذا السوك (عدم التشاور معه) فلم يرضَ عن الأزهري وفي نفس الوقت السيد عبد الرحمن المهدي كان يريد ان يعود زخم استقلال السودان له، ومن هنا ظهر ما يُسمى تاريخياً بلقاء السيدين فإجتمعوا وتآمروا على حكومة الأزهري، لأن أنصار الأزهري الذين أوصلوه للبرلمان هم قسمين فهناك اتحاديين وهم ليسوا بختمية وهناك آخرين ختمية فانفصلت مجموعة الختمية من الأزهري وتآمروا مع الأنصار وداخل البرلمان تم التصويت على اسقاط حكومة الأزهري فسقطت، واتفقوا على قيام حكومة جديدة تجمع الاتحاديين الذين سموا أنفسهم حزب الشعب الديمقراطي وحزب الأمة فجاءت حكومة جديدة برئاسة عبد الله خليل ووزير خارجيتها شيخ علي عبد الرحمن زعيم مجموعة الختمية التي وقفت ضد الأزهري، فسقطت كما ذكرت حكومة الأزهري وتكونت هذه الحكومة الجديدة. > إذن.. بتغيير حكومة الأزهري جاءت حقبة سياسية جديدة قوامها الائتلاف بين حزبين كصيغة جديدة لأول مرة فلماذا إذن انهارت الأوضاع السياسية من بعد ذلك أيضاً الطريف لمجيء عبود ماذا هناك؟
< هناك حقيقة ماثلة وكما يقول بعض من عاصروا ذلك التاريخ أن الختمية والأنصار لا يمكن أن يكون التقاؤهم جميعاً سلساً وبالتالي فإن تلاقيهم أشبه بالزيت والنار كما يقول المؤرخين، وبالتالي ما كان من الممكن أن ينجحوا في ذاك الوقت، وبالفعل بدأت الخلافات تدب في أوصالهم والرئيس المصري وقتذاك كان سعيداً بهذا لأنه كان يعاني من مشاكل ليست متعلقة بخروج الانجليز فقط، بل هناك مشكلة قيام السد العالي في أسوان، والبنك الدولي هو الذي سيمول ذلك السد ولكن البنك الدولي كان قد اشترط على القيادة المصرية موافقة السودان على ذلك، فعُقدت مفاوضات بين الحكومة الجديدة السودانية والحكومة المصرية وكان رئيس وفد السودان في هذه المفاوضات ميرغني حمزة الذي كان وزيراً للري والزراعة وقتها فكان الحديث في هذه المفاوضات عن حصيلة المياه بعد قيام السد العالي فبدلاً من حصة السودان البالغة 4% مصر رفعت هذه النسبة إلى 14% وميرغني حمزة كان مصراً على نسبة الـ 22 ونص مليار مياه في العام، فالاتفاق لم يتم وتوقف ومن بعدها حاولت مصر ممارسة الضغوط على السودان فجاءت مشكلة حلايب والتي هي تاريخياً جزءاً من السودان فقام رئيس الوزراء عبد الله خليل وقتها بإرسال قوة عسكرية لحلايب وهذه الخطوة هي لأول مرة تحدث وكذلك قوة عسكرية أخرى لحلفا بقيادة عبد الماجد حامد خليل. مع العلم أن حلفا لم يكن فيها جيش أصلاً. > هل يمكننا القول إن هذه هي لحظة اشتداد التوتر الحقيقية في العلاقات بين مصر والسودان ومن ثم بدأت الخلافات؟
< كما ذكرت لك من هنا بدأت العلاقات تسوء بين مصر والحكومة الجديدة. والقيادة المصرية لأنه وقتها ندمت القيادة المصرية على أنها أسقطت حكومة الأزهري فسادت أجواء الخلافات بين البلدين، وبعد مؤتمر بادونق الشهير انطلقت شائعات ذلك بأن جمال عبد الناصر قد أقام مأدبة عشاء حضرها علي عبد الرحمن وزير خارجية السودان ومحمد أحمد المرضي المحسوب على الأزهري، والإشاعة كانت تقول إن هناك اتفاقاً تم على إسقاط حكومة عبد الله خليل عبر البرلمان يوم 19 نوفمبر 1958م وعودة حكومة الأزهري مرة أخرى، وهذا الخبر وصل لرئيس الحكومة عبد الله خليل وكان من أكثر قرباً لعبد الله خليل هو الضابط الكبير وقتها أحمد عبد الوهاب فكان رأي الأول هو أن يتسلم السلطة أحمد عبد الوهاب مثلما فعل جمال عبد الناصر في مصر، وعندما تم طرح الفكرة رسمياً من جانب عبد الله خليل كان رد أحمد عبد الوهاب أنه ضد الانقلابات ولا يحبذها واقترح أن يتسلم السلطة قائد الجيش الفريق عبود شريطة أن تكون العملية إدارية فقط وهذا ما حدث فكان يوم 17 نوفمبر هو ذاك التاريخ، وأنا وقتها كنت أحد ضباط القيادة العامة المتواجدين بها في ذاك اليوم وللحقيقة فإن ذاك التحرك تم بالفعل يوم 16 نوفمبر ليلاً، وأذكر أنه عند الساعة الرابعة صباحاً رأيت عبد الله خليل خارجاً من المبنى القديم للقيادة العامة فسألني عن اسمي فأجبته وقال لي يا ابني نحن ما عندنا مزاج في السياسة وهذه العملية قمنا بها حفاظاً عليكم ولمستقبلكم ومستقبل السودان، وحقيقة هذه هي فكرة ذلك التغيير منذ أن تولى عبود هذه المهمة إلى أن غادرها، وعندما صدر البيان الأول كثيرون عبروا عن ارتياحهم نسبة لتردي الأوضاع فيما يتعلق بالحالة السياسية. > أين كان الحزب الشيوعي وقتها هل كان موجوداً وحضوراً وماذا عن عبد الخالق محجوب وجماعته؟
< عبد الخالق محجوب إلى أن غادر الدنيا كان ضد الانقلابات أياً كان وبما في ذلك انقلاب هاشم العطا نفسه، فالمصريون هم الذين أدخلوا الشيوعية في السودان عبر فكرة الضباط الأحرار. > المجلس الأعلى للقوات المسلحة لثورة 17 نوفمبر عندما تكون يُقال إن هناك قوات جاءت من بعض الولايات للاصطدام بالمجلس وتغيير تركيبته ومن ثم إدخال بعض الأعضاء فيه متى كان ذلك؟
< هذه المسألة جاءت لاحقاً وأصلاً المجلس الأعلى للقوات المسلحة وقتذاك عضويته كانت وفقاً للأقدمية المطلقة بل ومن الذين كانوا قد تمت سودنة القيادة العامة على أيديهم. > ولأن التاريخ القديم والحديث مرتبط ببعضه نخرج إلى بعض الأحداث والموضوعات المتفرعة الأخرى، فمتى أصبح.. مزمل سليمان غندور صاحب ميول إسلامية منذ وقت مبكر ومعلوم أن في ذاك الوقت كان اليسار مزدهراً؟
< أنا لم أكن يسارياً ولا يمينياً أي لا مع هذا ولا مع ذاك، فأنا إسلامي بالفطرة والسلوك الشخصي، والذي أظهر ملامحي الإسلامية بصورة كبيرة هي مرحلة بداية التفكير في انقلاب مايو (جعفر نميري) والتفكير هنا أيضاً ظهرت مؤشراته من المصريين وذلك في مسيرة البحث عن من الذي يمكن أن يقود هذه المهمة وهذا التحرك، وتم طرح العديد من الشخصيات هنا، والإسلاميون وقتها كانوا ينظرون إليّ من خلال سلوكي الإسلامي ولكن في نفس الوقت هم يرون أن لي صداقة بدأت من لندن مع الختمية وذلك من خلال الزمالة الدراسية التي كانت تربطني بالراحل أحمد الميرغني، وفي نفس الوقت الختمية أنفسهم كانوا يدركون أهمية صلاتي الأسرية مع الأنصار أيضاً، وأنا حتى الآن سوداني ولست أخو مسلم ولا أنصاري ولا ختمي ولا شيوعي وأنا ضد فصل الجنوب وهذا هو رأيي الذي قلته منذ ثورة 17 نوفمبر 1958م وحتى الآن، فنيفاشا هي جريمة في حق التاريخ وأنا أعتز وافخر بمواقفي جميعها وبآرائي وعشت طوال عمري واضحاً وصريحاً وأسعد بذلك وسط أهلي السودانيين جميعاً وهذا المنزل الذي أسكنه شيدته بمبلغ أربعة عشر ألف جنيه ووقتها كان الجنيه السوداني يعادل أربعة دولارات. > المحطة الانقلابية الأخرى في عمر المسيرة السودانية السياسية كانت هي انقلاب مايو 1969م وما للحزب الشيوعي من دور في هذا التحرك، ماذا أنت قائل هنا؟
< حقيقة أقول إن الحزب الشيوعي السوداني كان في الماضي أكبر تكتل سياسي خارج نطاق الاتحاد السوفيتي ولم ينهار هذا الحزب إلا بعد انشقاق البعض منه واتفاقه مع بعض القوميين العرب لتنفيذ انقلاب مايو، وعبد الخالق محجوب كمفكر وسياسي لم يكن كالترابي مع أنهم يتشابهون في العبقرية، فالترابي كان يريد الوصول لحكم السودان في حين أن عبد الخالق محجوب كان يريد أن يكون مثل شخصية لينين أي أن يصبح زعيماً خالداً ويحكم الآخرين. > عندما اندلعت ثورة مايو أنت واللواء الباقر كنتما في بعثة دراسية خارج السودان وبحكم أنكما حاملي الرتب الأعلى في القوات المسلحة جئتما وتفاوضتما مع مجلس قيادة ثورة مايو ومعلومات ترددت كانت تقول إن قادة مايو كانوا يتخوفون منك كثيراً فصف لنا تلك اللحظات المثيرة؟
< حقيقة لم تكن لي نوايا انقلابية ضد مايو ولكن قد تكون لي نوايا من قبل ذلك، ولكن كان تحفظي هو أن هذه البلاد يجب ألا يتولى أمرها ضباط صغار وأنا كنت حريصاً على أن لا تتأثر القوات المسلحة جراء ذلك، لأن الجيش منذ الاستقلال تأثر وتضرر كثيراً بالانقلابات، فقوة دفاع السودان كانت أفضل جيش شارك في الحرب العالمية الثانية وعندما تم تكريم هذه القوة في بريطانيا نالوا الجائزة الذهبية لأنه وفي خلال سنوات الحرب كلها لم يكن هناك أسير سوداني واحد لدى الأعداء أي إما يموت أو يقتل وهذه عادت بالسمعة الطيبة للجندي السوداني، ولم يتأثر ذلك الصرح المجيد إلا باستلام عبود للسلطة فجلس قادة الوحدات على كرسي الحاكم العسكري وبدأوا يعملون بالحكم والسياسة وتركوا الجيش لدرجة جعلت تنظيم التدريب السنوي يتأخر، لذلك عندما قامت مايو كان هذا هو موقفي ورأيي وأذكر أنه قبل ذلك أن جعفر نميري عندما تم نقله كل الوحدات رفضته إلا أنا عندما كنت قائداً بجبيت قبلت به وهذا سر العلاقة الطيبة بيني وبينه، وعندما تولى مهمة الانقلاب وترقى في الرتبة من عقيد إلى لواء أرسل لي وطلب حضوري من خارج البلاد لأكون قائداً للجيش وذلك بعد إحالة عدد من الرتب العليا للتقاعد، فقال لي إنني أرغب في أن تتولى أنت هذه المهمة ولكن أعضاء مجلس قيادة الثورة قالوا لي لابد من أن يديروا حواراً معك، فذهبت لهم في اليوم التالي فأول شخص سألني هو المقدم بابكر النور والذي عمل معي وأشرفت على تدريبه عسكرياً ولكن في ذاك اليوم صار شخصاً آخر فقال لي أنت طموح وطموحك هذا فيه خطورة على الثورة فبماذا ترد على قولي هذا، فقلت له يا بابكر أنا من خلوة مرفعين الفقراء بالعباسية، وأنا طموح منذ ذاك الوقت إلى أن وصلت جامعة الخرطوم ومن ثم الجيش الذي كنت مميزاً بجدارة فيه، فكان الحديث كله مع بابكر النور في حين أن بقية الأعضاء لم يتحدثوا معي، وما فهمته لاحقاً من هذه المقابلة المثيرة أن القوميين العرب كانوا يعتقدون أنني أفضل شخصية يجب أن تكون موجودة في قيادة القوات المسلحة، فيما الشيوعيون كانوا يعتقدون أنني أخطر من جعفر نميري فاستمرت هذه المفاوضات لمدة ثلاثة أيام وأنا لم أتحدث معهم إلا بعد هذه الثلاثة أيام ووجهت لهم سؤالين الأول قلت لهم من الذي يقدم التحية العسكرية فينا فأنا عميد وأنتم معظمكم في رتبة الرائد فرد عليّ أبو القاسم محمد إبراهيم بأن الموقف قد تغير هنا بعد استلامهم للسلطة، فقلت لهم يجب أن ترقوا أنفسكم لرتبة اللواء أو ترتدوا الزي المدني فعندما احتد الحديث بيننا قال نميري ما هو سؤالك الثاني، فقلت له ما هي علاقتكم بالحزب الشيوعي، فرد جعفر نميري قائلاً إنهم قد حلوا الحزب الشيوعي مثل بقية الأحزاب الأخرى، ذكرت له حينها أن هذه الإجابة هي غير صحيحة لأن غالبية التشكيلة الوزارية هم شيوعيون فقال لي أبداً هؤلاء دخلوا بصفتهم الشخصية كمثقفين، حينها تحدث بابكر النور مرة أخرى مدافعاً عن الشيوعيين، فعندما شعر نميري بأن أجواء الحديث هنا باتت ساخنة قال لي نلتقي غداً، وعندما حضرت لم يأتي أعضاء مجلس قيادة الثورة فتحدث معي عن معسكر جبيت والاحترام الذي كان متبادلاً بيننا وعندما طال الوقت قليلاً سألته عن موعد حضور بقية الأعضاء حينها أخرج لي ورقة واعتذر لي بأنه هو عضو واحد من أعضاء مجلس قيادة الثورة من حيث التصويت على أي قرار فقال إن المجلس اجتمع مساء أمس واتخذ عدداً من القرارات فقرأ عليّ القرار وكان فحواه (تأميناً للثورة فقد تقرر إحالتكم للمعاش ضمن عدد من الشخصيات على أن يستفاد منهم في وزارة الدفاع) > إذن.. كيف كان ردك على هذا القرار؟
< قلت له يا جعفر نميري هذا قرار جيد وأنا أتيت للبلاد بنية تأمين هذه الثورة وبعد خلعي للزي العسكري فهذا هو الفراق بيني وبينكم وأشكركم.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..