استقلال بلا معالم فرح..!

محمد عبد الله برقاوي..
كثيرا ما كنا نسخر ونغضب ونحن في فورة الثورية الشبابية ،من كلام بعض أهلنا الكبار الذين يتحسرون على أيام الانجليز!
فقد يكون كلامهم مبني على ما عاصروه في أيام الاستعمار من نظام ونماء وانضباط، وما يخشونه وقتها رغم تفاؤل الساسة من مستقبل يترأى لهم قاتم القسمات ..كما ترأى لهم من مناظر أفعال العنصر السياسي الوطني الذي دلف الى سراى الحكم وقد وضع رجله في منزلقات التجاذبات بين ثنائية الكيانات الطائفية التي لم تصمد الا سنوات قليلة في تجربة الحكم الوطني بعد جلاء ثنائية الانجليز والمصريين !
و ما لبثت احدى الطائفتين نكاية في الأخرى أن رمت بلجام الحكم الى قيادة الجيش ، فانغرس المسمار الأول في ظهر الاستقلال والديمقراطية في وطن لم يزل وقتها يحبو على طريق السودنة!
بالتأكيد لا يمكن لانسان حر أن يقبل عودة الاستعمار في اى شكل من أشكاله ، ولكن بالمقابل يصبح ما أقسى أن يتحول استقلال وطن ما من ربقة الاستعمار الى استغلال من ابنائه لموارده و مقدراته و حقوق مواطنيه بالدرجة التي تولد فيهم حنينا لحكم الغريب ، لان ظلمه يكون على بينة من قبيل العداوة أو على أقل تقدير لتحقيق الجانب الأكبر من مصلحة بلاده الذاتية ومن ثم يرمي بما تبقي لأهل المستعمرة !
خرج الانجليز ومعهم المصريون ، لكن الأثر الانجليزي في الحياة العامة كان هو الأبرز ، في التعليم والخدمة المدنية والمشروعات المنتجة والبنى التحتية والقوات النظامية ، وجمال المدن وسلوك البشر الإنضباطي في المظهر المدني والحضاري !
ولانهم كانوا مطمئنين لمقدرات شعبنا في الحفاظ على تلك الأساسيات ، فقد أوصوا بقية مستعمراتهم أو محمياتهم وفي أكثر من قارة ، بالاعتماد على الكادر السوداني لتأسيس وتنظيم خدمتهم المدنية والعسكرية والادارية !
لم يكتمل نصف القرن من استقلالنا عنهم ، حتى انفرط عقد كل شيء عندنا ، انهارت البنى التحية التي تركتها الانجليز ودونك منشأت مشروع الجزيرة والسكة حديد والخدمات الصحية وغيرها من مظاهر الروعة التي كانت تجمّل الحياة وتسهلها ، فلم نطورها ولا حافظنا على بقاياها !
بدل أن نستمر في تطوير تعليمنا نوعيا وخبراتنا التي بدأت تؤتي أكلها ليس في الداخل فحسب بل و في بلاد الاخرين الناشئة ، انتكسنا بنسبة مذهلة ، فأصبحنا عالة على غيرنا نتسول لقمة العيش في أوطانهم التي اسرعت الخطى نحو العلا ، فيرضي الجامعي المتفوق في علمه الذي ملّ طول العطالة والظلم في توزيع الفرص ، بتأشيرة راعي ليخرج فقط من البلد راكبا البحر شرقا وبعد ذلك يحلها الحلال .. مع إكبارنا لمهنة الرعي وغيرها من الحرف النبيلة!
أما من سنحت له فرصة العبور الى البلاد البعيدة ، فقد وجد وفقا لكفاءته تقديرا ضنت به دياره في غمرة تغول غثاء السيل على شواطيء الخدمة المدنية والنظامية عامة بكل أشكالها المدنية !
على ايام بداية غربتنا والسودان ليس فيه الا جامعة الخرطوم والاسلامية والمعهد الفني والمدارس الثانوية القوية ، لم يكن يطلب من السوداني حتى توثيق شهادته ان لم يتيسر له الأمر وهو يتقدم لنيل الوظيفة في دول الخليج مثلا !
الان وفي ظل سياسة جامعة لكل الف مواطن ومدرسة ثانوية لكل عشرة من البدو الرحل مع الغاء مجانية ذلك الحق مضافا اليه تكليف المستشفيات العامة للمريض أو المريضة الفقراء باحضارعصب الخياطة وشاش العملية والبنج كما تقتضي عدالة دولة الشريعة المزيفة في رعايتها الصحية لمواطنها الهالك !
صارت الشهادة السودانية وان كانت مؤثقة من القصر الجمهوري مصدر ريبة وفي اي مجال كان، في عهد صارت فيه درجة الدكتوراة وحتى كرسي الأستاذية يمنحان جزافا لأهل قربى الحكم ولو كان بحثه حول نقائض الوضوء ، وكيفية التيمم مع تقديرنا لكل شعائر ديننا الحنيف واحترامنا لكافة المجتهدين في تعميم النفع بالمعارف الفقهية والشرعية ولكن بالقدرة العلمية الحقيقية وليست القائمة على الولاية بمؤهل الولاء المضروب !
وبعد كل ذلك الاجترار الذي يتساقط قبله الدمع دما على مآل ومصير سودان دفنت أمجاده في تراب أرضه وباياد ابنائه ، وقد ذهب أهلنا الكبار الذين دفنوا أيضا وفي قلوبهم باقي غصة وحنين..لا للاستعمارفي حد ذاته فهو بغيض مهما كانت حسناته، وانما تحسرا على العمار الذي ذهب كثيرا بعدهم وقد تنبأوا بكل ذلك من منظور الحكمة التي ترى بعيدا ، فحملوا معهم في أفئدتهم كتل الخوف من عاقبة الدماراللاحق !
ولعلهم لو عادوا الى الحياة لبرهة، لقالوها لنا بالفم المليان !
لا زلتم في حاجة لاستقلال جديد ، ولعلهم لن يطيقوا أن ينتظروا قدوم ذلك اليوم فقد يكون بعيدا نظرا لما حاق بنا من عدم الشعور بحب الوطن كفرض واجب ، دعك عن نافلة احساسنا به كونه مستقلا أو مُستغلا !
فيؤثرون حيال كارثتنا الماحقة، راحتهم في العودة الى مثواهم الأخير عن البقاء في عالم مواطنتا الناقصة والمريضة في ذات الوقت !
ونحن لا نملك من موقع جحيم واقعنا في دنيا الذل، الا أن ندعو لهم بالجنة ..ونذرف الدمع مدرارا وقد تعثرت خطانا في المزيد من الوحل على أعتاب العام الثالث والستين من الحكم الوطني ..وبلا أدنى درجات المعالم الوطنية ..أوحتى الشعور بالفرح الحقيقي بيوم رفعت فيه راية استقلالنا..!
ولا حول ولا قوة الا بالله العظيم !