حوار مع الوزير البروفيسور محمد سليمان أبو صالح: لدينا تشريع ينظم عمل ?الركشة? ولا يوجد قانون يحمي التخطيط الاستراتيجي!!

حوار: خالدة ود المدني
** يراهن بروفيسور محمد سليمان أبو صالح وزير وزارة التخطيط والشؤون الاستراتيجية على ما تطرحه وزارته من خطط استراتيجية في مختلف المجالات، في إحداث التنمية والتقدم، لكنه يشدد على ضرورة التزام كافة المؤسسات الحكومية بهذه الاستراتيجيات، وبعيدا عن التقلبات السياسية داخليا وإقليميا وخارجيا، ويؤكد أبو صالح في مقابلة مع (اليوم التالي) أن فكر التخطيط الاستراتيجي يعني الدولة ولا علاقة له ببقاء أو زوال الحكومات.
تاليا نص الحوار:
* حدثنا عن مفهوم التخطيط الاستراتيجي القومي؟
يظن البعض أن كلمة استراتيجية مصطلح عسكري، ولكن ثبت أن أصل الكلمة صراط (استراتا) أو طريق، وهي هندسة المستقبل أو فن وعلم وتشكيل علم المستقبل، أي هندسة ثقافية ونفسية وتشكيل وجداني، بالتالي الدولة في التخطيط الاستراتيجي لابد لها من حلم وطني أي أن تكون لها خطة (وطنية) وليست (حكومية)، لذلك لا تجاز من قبل مجلس الوزراء في الدولة المعنية بل وفق توافق وطني.
# هل ماآل اليه حال السودان الآن نتيجة عدم وجود خطة استراتيجية قومية؟
بكل تأكيد السودان واحدة من مشاكله الأساسية أننا في العام (56) لم نمتلك رؤية وطنية تعبر عن حلم وطني سوداني يتضمن ترتيبات للتعامل مع الظروف والتعقيدات الداخلية والإقليمية والخارجية والمستقبلية، ابتداء من النفس البشرية التي تميل إلى الفساد وانتهاءً بمشاكل المستقبل كقضايا البلاد، ولكن ما حدث هو أن خرجت الفكرة الوطنية البريطانية ولم تحل مكانها الوطنية السودانية، بالتالي لم ندرك مصالحنا وغايتنا، هذه مهمة التخطيط الاستراتيجي بالتحديد.
* في رأيك هل ينجح التخطيط الاستراتيجي دون التخطيط لتصحيح مسارات السلوك الشخصي وسط المجتمع؟
الضعف في السلوك الاجتماعي والسياسي من جهل وأمية، بجانب الاحتقان القبلي والجهوي والصراعات والنزاعات المستمرة، صنعت مناخا تنطلق منه فكرة التخطيط، لذلك الفكرة تحتوي فكرة ثقافية في البناء النفسي والتربية، وأفكارا في كل شيء لكنها متناغمة في إطار كلي لذلك نبدأ في سلوكنا من خلال المسار الاستراتيجي، بعض الدول العظمي مثل أمريكا وأوروبا نهضت بعد الحروب وفق التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى وفي الأصل لا توجد دولة تولد جاهزة.
* هل للدولة علاقة بوضع الخطط الاستراتيجية؟
أبدا، لسبب بسيط جدا مثل الانتقال الكبير في كوريا الجنوبية وسنغافورة وتركيا وغيرها، إذا افترضنا أن أي حكومة تخطط لمدة خمس سنوات وتذهب، بذلك تنحصر البلد في وضع أهداف قصيرة ومحدودة لا تكفي لمعالجة قضايا البلد، لكن في حالة وضع خطة طويلة المدى لا تقل عن خمسة وعشرين عاما، حينئذ يتم وضع حلم كبير متفق عليه بالإجماع، ومن ثم يأتي من يأتي ليكمل ما بدأه الآخر، ربما تختلف الوسائل لكن الهدف واحد.
* هل يوجد قانون يحمي أجندة التخطيط الاستراتيجي؟
للأسف لا يوجد في السودان، قد يكون هناك قانون لـ(الركشة) ولا يوجد قانون يحمي الاستراتيجية التي تشكل المستقبل السوداني بأكمله، مؤخرا بدأنا في ولاية الخرطوم ولأول مرة في تاريخ البلاد، نصوغ قانونا يحرم الخروج على الاستراتيجية، ومن خرج عنها يمكن أن يعفى من منصبه، ليس هذا فحسب بل يحتوي على ترتيبات من ضمنها إلزام الوزير أو المعتمد أو وكيل الوزراة، بالخضوع للتدريب قبل ممارسة عمله.
* هل تتوقع أن تنفيذ القانون يضمن الاستمرارية؟
نعم، لكن الضمان ليس بالقانون فقط، لابد أن تكون الاستراتيجية ناضجة تعبر عن مصالح الناس حيث الضمان الأكبر، وكونها قابلة للتطبيق فهذا أيضا ضمان، بالإضافة إلى أنها محمية بقيم العدالة والمساواة أيضا، وعندما نشرك الناس حاكما ومعارضا ومجتمعا ونطور السلوك فهو الذي يحميها، لكن إلى أن نطور سلوكنا ويرتقي بنا الوعي خلال سنوات، قطعا نحتاج إلى قانون يحميها، وأتمنى أن نستغني عن القانون بالسلوك القويم في أقرب مدى.
* هل يتعثر تنفيذ وتطبيق الخطط الاستراتيجية في حالة تغيير الحكومات كليا كان أم جزئياً؟
سابقا، أما الآن فعندنا استراتيجية أجازتها الأحزاب في الحكومة والمعارضة، وعرضناها على الحركات المسلحة أيضا، حتى مخرجات الحوار الوطني كانت جزءا من هذه الاستراتيجية، وكما أسلفت القانون بلزم الوزير بالتدريب وحينها يتم تسليمه خططه الاستراتيجية مقيده بالسيستم، لذلك لا تتأثر وزارة الاسترتيجية بذهاب أو استمرار وزير معين، كون فريق المؤسسة كله يخضع للتدريب ويحمل درجة الماجستير في التخطيط الاستراتيجي وعدد مقدر منهم سيكون من حملة الدكتوراة، بالتالي فالمؤسسة لا تتوقف خططها بتغيير وزيرها أو مديرها، والوزير نفسه يحرص على التدريب في الاستراتيجية ولا يخرج منها لوجود مجلس تشريعي يتحدث لغة الاستراتيجية كونه تدرب عليها، بالمقابل يكون هنالك إبداع في التنفيذ من أول يوم، ونحن الآن لكي نؤمن مسارنا نقيم دورات تدريبية للحكومة والأحزاب المعارضة والحركات المسلحة، بجانب الأندية الرياضية والمنظومات والطرق الصوفية، ودربنا (1200) لجنة شعبية و(120) ألف طالب شرحنا لهم مفهوم الاستراتيجية بمفهوم بسيط حسب أعمارهم.
* ما تقييمك لنجاح التخطيط الاستراتيجي داخل ولاية الخرطوم؟
فكرة التخطيط الاستراتيجي عمرها لا يتعدى العام، وحققت نجاحا ملموسا رغم وجود عقبات مثل العقلية التقليدية البيروقراطية للخدمة المدنية، كذلك إذا نظرنا إلى الأسواق نجدها عشوائية بيد أنها تؤول إلى المستثمر وبإمكانه تهيئتها وفق مواصفات ومعايير، والآن سيبدأ العمل في سوق سعد قشرة كأول سوق بمواصفات حديثة، وجزء منه العقبات العقلية التقليدية القديمة البيروقراطية في الخدمة المدنية.. مثلا ليه الاسواق تنشأ بالطريقة القبيحة دي والسوق ما بقروش؟
في خطتنا يجب أن تحوي المدارس مساحات للحدائق والملاعب للنشاط اللاصفي، وكذلك المشافي، نحن بدورنا تراخينا في مواصفاتنا ولابد للمجتمع أن يشارك في هذه النقلة، لكن نستطيع أن نصف عام 2018 بأنه عام البداية الحقيقية للاستراتيجية، وما قبله كان تدريبا للنقلة من منهج قديم إلى جديد، بالتالي انتظمت الدورات التدريبية بالمئات على مستوى الخدمة المدنية، غير صوغ القانون وتأسيس اللوائح، سابقا تودع الموازنة ومن ثم الاستراتيجية فلا يكون لها معنى، أما الآن فالموازنة تبنى على الخطة الاستراتيجية، وقتئذ كانت توجه مبالغ معينة للوزرات دون تفكير كلي، وحاليا وبتفكيرنا الكلي ألزمنا كل الوزارات بأن توجهة أهدافها نحو منظومات إنتاجية أساسية، مثل منظومة الجيلي الصناعية وسوبا الصناعية ومنظومة الإنتاج الحيواني المتكامل ومدينة الجلود والصناعات الغذائية، بجانب المنظومة السياحية ومنظومة التنمية الاجتماعية ومنظومة الإنتاج الزراعي والغذائي، ولأول مرة في تاريخنا الحديث ألزمنا كل وزراة بموجهات أصدرناها في شكل كتاب، لكي توجه ما يلي بهذه المنظومة.
# كيف يتم تنفيذ هذه المنظومات في ظل العجز الاقتصادي الحالي؟
قدرت هذه المشروعات بميزانية بلغت 8 تلريونات، ستودع في المجلس التشريعي وفي 1/ يناير يجب أن يبدأ التنفيذ بهذا المبلغ المحدد، ما يساوي نسبة 56 % من ميزانية الخرطوم للتنمية، الجديد أن الخرطوم لم تخطط بمال الحكومة، بل بمشروعات فيها تمويل حكومي وغيره لتوفير مناخ للاستثمار، وفي العام القادم سيبدأ مشروع حوسبة المعاملات الإلكترونية في الخرطرم، لمعالجة قضايا البيروقراطية والفساد الحكومي، وفي نفس الوقت لتوطيد العلاقة مع القطاع الخاص والشراكة واستقرار السياسات، لضمان مشاركة القطاع الخاص والمجتمع والتمويل الأصغر في التنمية، كون حكومة الخرطوم لا تستطيع وحدها إنجاز مشروعات التنمية.
* هذه المنظومات التي تحدثت عنها، قطعا تحتاج لتأسيس بنيات تحتية بالكاد يسودها قصور واضح وفاضح داخل الولاية؟
نعم يوجد قصور واضح، لكن مثلا نأخد نموذج مدينة الجيلي الصناعية فهي مؤمنة بالإمداد الكهربائي ونحن نقوم بعمل الشبكة.. زمان المستثمر يدخل المنطقة الصناعية ويجد بها مشاكل مجاري وصرف صحي وطرق وغيرها، الآن يجد الخدمات كاملة، وبهذا الفهم نؤسس مواقع جاذبة للاستثمار.
* يعاني المستثمر جراء معاملات المنافذ الحكومية المتعددة، هل لديكم حلول في الشأن؟
نعم هنالك نظام جديد اسمه إدارة المنطقة الصناعية، سابقا كان يأتي لمندوب المحلية والصحة وغيرهم، الآن توجد جهة واحدة تابعة للجهة المنوطة ومن لديه مشكلة يتصل بهذه الإدارة، ما يعني وجود نافذة واحدة للحكومة (مش يجي كل مرة زول متلب) كما توجد نافذة واحدة يقدم من خلالها المستثمر.. بعد أن انتهت الاستراتيجية بهذا التفكير العلمي، وجدنا تناقضا بين وزارة وأخرى وبين وزارة ومحلية تم فك الاختلالات من خلال فرز المشروع الاتحادي من الولائي، ومن ثم بدأنا بهندسة المشروعات بتغيير تشريعاتنا نلغي أو نضيف ريثما تتكامل مع الاستراتيجية، ومنها تعديل السياسات والآن نعمل على التشريعات، وبذلك تكون لدينا سياسات متكاملة مع تشريعات متكاملة.
* لكن يقال إن خططكم بعيدة عن برامج وسياسات الدولة؟
فعلا كان هذا حاصلا، لكن الآن استخدمنا منهجا وأنتجنا كتابا اسمه منهج الإدارة الاستراتيجية للولاية. كل المشروعات مدونة في كتاب يودع أمام المجلس التشريعي وبالتالي عندما يقدم وزير تقريره عن الإداء، فإن المجلس التشريعي ما عليه إلا أن يتقصى عن المشروع في الكتاب باسمه وبـ(الكود نمبر)، وإذا كان غير ذلك يخرح من الاستراتيجية وتخضع الجهة المعنية للمساءلة، وبهذا نقفل بابا معروفا.
* كيف يتم الرضى الوطني لإكمال منظومة التخطيط مع سياسة الترضيات السارية؟
واحدة من خططنا أن بدأنا ننفذ مبدأ الشفافية في التعيين، والأمر سيحتاج نقلة كبيرة كوننا نواجه مقاومة في العطاءات وغيرها، حتى في حال الترقيات لابد من معرفة أسبابها، وقد طبق هذا النهج داخل وزارتنا وتم تعيين الوظائف الشاغرة عبر إمتحان إلكتروني وكذلك إعلان النتيجة من دون أن نعرف شخصية المرشح للوظيفة من أي قبيلة أو أي حزب فقط هو سوداني مؤهل، وغير المؤهل يلوم نفسه، وفي هذه الحالة لا يشعر أحد بالظلم أو المحسوبية، ولأول مرة بالسودان تخضع الوزراة بالكامل للدراسات العليا في التخطيط الاستراتيجي، وجميعهم حملة ماجستير، وطالبنا بقية الوزارات أن تبعث بموظفيها للدراسات الاستراتيجية.
* جل ما تتحدث عنه خطط استراتيجية قيد التنفيذ، ما هي خططكم الإسعافية لمواطن الولاية في ظل التضخم الاقتصادي المستمر؟
كلام سليم، ولا يمكن ان نعول على المسار الاستراتيجي البعيد والآن الوضع صعب، لذلك نتحدث عن مسارين، لو ركنا للحلول الاسعافية فقط دون مسار استراتيجي نكون ارتكبنا الخطأ السابق منذ العام (56)، ومشكلة الاقتصاد السوداني هي اللجوء للحلول المؤقتة، لذلك راهنا على أن الحل الاستراتيجي هو الأضمن، وفي نفس الوقت نعمل لترتيبات إسعافية للمواطن، مثل منظومة معاش الناس على المستوى الاستراتيجي بما فيها خدمات المياه وغيرها، وعلى المستوى الأساسي فيها عدد من المشروعات، جزء منها تتظيم وإدارة الأسواق بطريقة احترافية، وقطع الصلة بين المنتج والمستهلك في حلقة الوسطاء، ونحن في الوزارة وفق دراسة مباشرة وجدنا القيمة الحقيقية لكيلو الطماطم (8) جنيها من المزارع بينما يباع بـ(40) جنيها ريثما يصل السوق المركزي، لذلك قررنا إدارة الأسواق بطريقة احترافية عن طريق قطاع خاص لكنه محكوم، ما يعني تطبيق نهج خصخصة الإدارة العالمي، بجانب نشاطات مختلفة في التوزيع في الأسواق الصغيرة، فهي ترتيبات متكاملة، تنفذ مباشرة بعد أن تجاز، وهذا نهج يساعد في خفض أسعار (قفة الملاح) بالتالي تكون في متناول يد الجميع.
مشكلة السودان أن حكوماته ظلت تفكر دون حجم فرصه وإمكانياته، نحن محتاجون لأن نفكر بحجم كبير بقدر مواردنا.
* في رأيك هل لدى السودان قوة اقتصادية حتى تخشاه بعض الدول وتتآمر عليه؟
نعم السودان عنده موارد طبيعية تؤهله لعمليات تبادل استراتيجي دولي، مثل البترول والحديد والمعادن، ومثل هذه السلع لا تباع كالجبنة والطحنية، أعطها لمن يحتاجها بالمقابل، ولمن لا يعلم: في العالم (31) علما تدرس إدارة الصراع الاستراتيجي، ومنها علم الإدارة بالأزمة، وهي أن تجعل خصمك مأزوما دائما حتى لا يستقر في تحقيق استراتيجية لامتلاك القوة، يعني نحن دون أن ندري ولغياب الرؤية الاستراتيجية ظللنا في حالة لهث منذ سنة 56.
* هل نحن ضحية لاستراتيجيات دول كبرى؟
(أنا ما بلوم غيري)، وأي إنسان يمكنه أن يطمع في حق غيره، لذلك يجب علينا نحن أن نبادر ونحمي أنفسنا والذي لا يمتلك القوة سيظل رهينة لغيره، وقوة الدولة أن تكون هناك رؤية استراتيجية واحدة للشعب بأكمله، بمنهج تخطيط يقود نحو القوة حتى نستطيع في يوم من الأيام أن نفرض إرادتنا، ودون ذلك نصير رهينين لغيرنا.
* يعتقد كثيرون أننا مازلنا رهينين للغير، كيف المخرج؟
للسودان موقع جغرافي مميز، وبه موارد طبيعية ضخمة، ويمتلك فرصا كبيرة جدا على مستوى الصادرات، والزراعة والطاقة والوقود والمعادن وغيرها، بجانب المورد البشري في كل العالم على مستوى متقدم في كل شيء، لكن الحقيقة فقر السودان هو فقرنا في التفكير الاستراتيجي والإبداعي، لذلك وفق تفكير استراتيجي عميق يمكننا الخروج.
* هل تتحق خطط الشراكات الخارجية في ظل عدم الاستقرار السياسي تجاه العلاقات الخارجية؟
أوافقك الرأي تماما، الخلل في عدم وجود غايات وطنية وفكرة وطنية وفي 56 لم ينشأ صراط سوداني أو مسار استراتيجي سوداني، بعد خروج الخطة البريطانية، وبدأنا بدون رؤية وبحكومة متقلبة، النتيجة ثلاث حكومات في فترة وجيزة، وبذلك نستنتج أنه لا يوجد مسار استراتيجي سوداني للتحالف مع دولة أو مع أخرى، وعالميا التحالفات لا تأتي برأي حكومي بل وفق رؤية الدولة، لذلك لابد من رؤية واحدة للدولة السودانية، كون الاستراتيجية للدولة لا للحكومة.
اليوم التالي.