مقالات سياسية

التعددية الثقافية والأمن

الدكتور/ تيراب أبكر تيراب

لم يعد الأمن قضية تنشغل بها الدولة بمعزل عن قضايا التنمية والتطور الإجتماعي والإستقرارالسياسي، بل هو اللبنة الأولى التي يتأسس بناء الإستراتيجيات الإقتصادية والسياسية عليها، ولهذا السبب أصبح تحقيق الأمن على المستويين الوطني والعالمي، هدف لا نكصان منه ومطلب لا محيد عنه. وبفضل ظاهرة العولمة تطور مفهوم الأمن وإتسع مجاله، فظهرت مفاهيم جديدة له، مثل: مفهوم الأمن البيئي ومفهوم الأمن الألكتروني ومفهوم أمن الأقليات وغيرها من المفاهيم الأمنية الحديثة التى لا نجد لها أثر في مفهوم الأمن التقليدي، ولا شك في تأثير العولمة على البنى الإجتماعية للدول وفي طبيعة العلاقات بين البشر عبر الحدود، وذلك بفضل التقدم التكنولوجي و إنعكاساته البارزة على عدد من الظواهر مثل الهجرة، وسهولة المواصلات، ومفاهيم الإقتصاد العالمي والسوق العالمية.

وكما زكر فإن العولمة بمثلما تعمل على توحيد الكوكب عبر تسهيل سبل الحركة والإتصالات فإنها تعمل في المقابل على تقريب المجتمعات ثقافيا، ولهذا شهدنا في السنوات الأخيرة جدلا كثيفا وحوارا متواصلا يتناول موضوع توفير الأمن وسبل/آليات تحقيقه في المجتمعات ذات التعددية الثقافية، في محاولة إلى تأسيس منهج نظري ملائم وإستراتيجيات عملية مكافئة للتحديات الأمنية في ذلك النوع من المجتمعات. وتؤكد أهمية هذا الموضوع المشاريع والأطروحات والبرامج والبيانات الصادرة من المؤسسات الأمنية الدولية والإقليمية والوطنية.

ومن اللافت للنظر نقص في الأعمال والبحوث الأكاديمية التي تتناول موضوع الأمن والتعدد الثقافي، رغم شدة الإهتمام بالقضايا الأمنية، وارتفاع نبرة الحديث عن التعددية الثقافية. ومن هذاالمنطلق وحتى يتم تفهم و إستيعاب موضوع كيفية توفير الأمن في مضمار التنوع العرقي والثقافي بشكل سليم وتحقيق السلام الإجتماعي بين الثقافات المتعددة التي تعيش جنب إلى جنب في مجتمع واحد؛ يمكن القول أنه يقع على عاتق الساحة الأكاديمية مهام كبيرة في دراسة هذه الظاهرة من زوايا متعددة، تخرج نتائجها التعددية الثقافية في المجتمع من كونها مصدرا لتهديد الأمن إلى أفق قيمة يجب تبنيها والنظر إليها كعامل لإثراء أمن المجتمع ونهضته؛ وذلك عبر إدارة هذا التنوع والإختلاف بإحياء مبدأ المساواة والمواطنة العادلة. في هذا المضمار، يعتبر التعليم أهم عامل يساهم في تحقيق السلام الإجتماعي وتأسيس روح التعايش والإحترام المتبادل بين الأفراد في المجتمع. فالتعليم هو الذي يرشد الأجيال إلى رؤية وإدراك التنوع الثقافي كقيمة ثقافية سامية لا تقتضي استعلاء على الآخر المختلف أو الصراع معه وتحقيره بل يرى فيه رافدا مهما ومساهمة عظيمة في بناء وإثراء ثقافة التعايش السلمي في المجتمع أو الدولة.

ومن هذا المنطلق يجب على الدول أن تأخذ التعليم بعين الإعتبار في جميع التدابير التي تأخذها حيال البعد الإجتماعي للأمن الوطني. بعبارة أخرى يجب أن تعيد الدول النظر في مفهوم التعليم وإعادة تصميم برامجه بحيث يتناسب والتنوع الثقافي في مجتمعاتها. ووينبغي تنظيم ذلك بحيث يشمل جميع المجموعات العرقية بمختلف ألوانها التي تعيش في المجتمع. إضافة إلى ذلك، حتى تتمكن المجتمعات من إدارة التنوع الثقافي الذي تحتويه بشكل سليم ومثمر، من الضروري أن تعد إستراتجية لذلك تحت مسمى”إستراتجية إدارة التعددية الثفافية” تدارعبرها شؤون التعدد والتنوع الثقافي في المجتمع وفق البرامج والرؤى الموضوعة مسبقا. ويجب أن يتم ذلك تحت مظلة التنسيق الدائم والعمل جنب إلى مع جميع المؤسسات ذات الصلة في الدولة، ووفقا للإستراتجية الكلية للدولة والإستراتجيات الفرعية مثل إستراتيجية الأمن الوطني و الإستراتيجيات السياسة والإقتصادية.

كما يجب أن تحدد “إستراتجية إدارة التعددية الثفافية” التدابير التي سيتخذها العاملون في إدارة التنوع الثقافي في المجال العام الذي تملكه/تديره الدولة مثل المؤسسات السياسية والتعليمية بجانب مؤسسات المجتمع المدني، ويجب تشكيل آلية تراقب تطبيق هذه التدابير التي سيتم إتخاذها في هذا المضمار. كما زكر آنفا بمجيء العولمة تغيرت المفاهيم التي يحملها مصطلح الأمن بشكل لا مثيل له في الماضي، وتبعا لهذا استحدثت إستراتيجيات وسياسات جديدة للأمن في العالم. كذلك من الواضح للغاية أنه لن تستطيع أي دولة أن تقوم بتأسيس أمنها على الساحة الدولية بشكل مستقل عن الدول الأخرى. إذ إننا اليوم نجد إن شروط تأسيس الأمن الداخلي للدولة مرتبطة إرتباط مباشر بالتطورات الإقليمية والدولية. فلا يمكن تأسيس الأمن الكامل داخل الحدود الوطنية بدون تأمين أمن الدول المجاورة. كما لايمكن أيضاً تحقيق السلام والإستقرار في أي مجتمع دون تحقيق الأمن البيئي الذي تتقاسمه جميع شرائح المجتمع الدولي.

وتأكيدا لهذا المعنى، فإن حدوث أي نوع من الظلم وإخلال بمبدأ وسياسات المساواة بين المجموعات العرقية في مجتمع ما – وخصوصا في ما يتعلق بالحقوق الأساسية للمواطنين- فإن ذلك الإخلال سيترك بشكل علني آثارا سلبية على عملية تحقيق الأمن في الدولة ويجرها إلى نزاعات داخلية، وهذه النزاعات الداخلية سرعان ما تعبر الحدود إلى الجماعات العرقية المشابهة في الدول الأخرى أو تحي مشاعر الظلم والاضطهاد في جماعات أخرى تعيش ظروف مثيلة في دولة الجوار، وبهذا تدخل دولة الجوار في نزاع مماثل. ومن هذا المنطلق، يمكن القول أنه لتحقيق الأمن الوطني والدولي – التكامل الأمني بين الدول- يجب أولاً إقامة نظام سياسي وإجتماعي على المستوى الوطني عادل مبني على مبادئ العدل والمساواة. وتقع على عاتق وسائل الإعلام القومية والعالمية مهام ومسؤوليات كبيرة في هذا الخصوص. لأن وسائل الإعلام الموجودة في الدولة تلعب دورا فعالا في تأسيس الموقف الإيجابي اللازم من أجل تأسيس الوعي المجتمعي المتعلق بالتعدد الثقافي. لهذا السبب، يجب أن يتم توفير جو إعلامي حر تعددي يمثل كافة الطوائف في المجتمع ويعكس طريقة حياتهم التي يرغبونها بصورة محايدة الى جميع مكونات المجتمع الأخرى، وتعريف شركائهم في المجتمع بثقافاتهم. والتعارف الثقافي هو المدخل الصحيح لتطوير روح التلاحم والتضامن بين الثقافات المتعددة الموجودة في مجتمع واحد.

من المهم أيضا أن تتم إدارة ظاهرة التنوع الثقافي بحيث تساهم في اقتصاد الدولة. فتوفير الأمن الإقتصادي في الدولة له علاقة وطيدة بالقدرة على الإستفادة من إمكانات الدولة ومقدراتها في رفع مستوى الرفاهية والإرتقاء بالمستوى المعيشي لدى المواطنين. لأنه لا يمكن التحدث عن الأمن الاقتصادي بالمعنى الكلي لدولة مصابة بضعف بسبب الصراعات العرقية في مجتمعها لعدم قدرتها على إدارة التعدد الثقافي فيها. ولايمكن إقرار الأمن الإقتصادي للدولة دون توزيع كافة الموارد والفرص العامة من قبل جميع المجموعات والطوائف العرقية الموجودة في مجتمع الدولة بالتساوي وإدارة التنوع الثقافي، وإلا فإن النزاع العرقي والثقافي المحتوم سيترك آثارا سلبية على إقتصاد الدولة وعلى الأمن الإجتماعي في مجتمعها. لأن الصراعات العرقية في دولة معينة والأثار السلبية الناتجة عن عدم توفر الإستقرار الداخلي وتدخل عوامل خارجية في تلك الصراعات ستظهر وتنعكس بشكل بارز على المجالات الإقتصادية والإجتماعية كما هو عليه الحال اليوم في الكثير من الدول.

لأنه سيتم تحويل جزء كبير من الميزانية العامة طيلة فترة عدم الإستقرار من مجال الإنتاج/ والتشغيل إلى خدمات توفير الأمن بجانبه العسكري في البلاد. وستظهر النتائج السلبية لذلك على شكلين. أولا حرمان الدولة من إستخدام القوة المالية المذكورة في سبيل رفع مستوى الرفاهية لدى المواطنين. ثانياً، الآثار الإجتماعية الناتجة عن إستخدام الطاقات التي تملكها الدولة في مكافحة وقمع الإشتباكات الداخلية التي تهدد الأمن، أي أن محاولة فرض السلام بالقوة بين الجماعات العرقية المتصارعة ربما يعمق من روح الإنتماء الى العرق والهوية العرقية بدلا عن الهوية الوطنية في تلك المجتمعات.

هناك خطوتان هامتان يجب أن تخطوها الدول ذات التعدد الثقافي من أجل توفير الأمن الوطني: الخطوة الأولى، هي إدارة الفوارق العرقية بحيث تساهم في الإقتصاد. لأن الأمن والإقتصاد وجهان لعملة واحدة يكملان بعضهما بعضاً. فغياب أحدهما سيجعل الوجه الآخر بلا معنى ويكون ناقصا. الخطوة الثانية؛ هي تشكيل مؤسسة (بعيدة عن السياسة)، مهمتها تقدم خدمات إستشارية في إتخاذ القرارات ذات الصلة بشؤون المجموعات العرقية في المجتمع. وهذه المؤسسة يجب أن يتم تشكيلها لتضم جميع القيادات الأهلية للقبائل والمجموعات العرقية التي تكون النسيج الإجتماعي للدولة. وسيتم بذلك إشراك الشعب بشكل مباشر في إدارة شؤون البلاد من جهة، وتقليل مخاطر النزاع الناتج عن التعدد الثقافي إلى الحد الأدنى من جهة أخرى، وذلك بإستخدام قوة تأثير قادة الرأي – القادة المجتمعيين – على المجتمع. وسيتم بفضل هذه المؤسسة جمع كافة المجموعات العرقية الموجودة في المجتمع تحت سقف واحد.

ونوجز القول حول علاقة التعدد الثقافي بالإقتصاد؛ انه إذا نظرنا إلى بعض الدول التي تعاني من مشاكل بسبب عدم قدرتها على إدارة بيئة التعدد الثقافي نجدها ضعيفة من الناحية الإقتصادية. وفي المقابل نجد الدول التي حولت التعدد الثقافي فيها إلى قيمة ومصدر قوة تأتي في المقدمة من الناحية الإقتصادية بين دول العالم. ومن هنا يبرز دور الفشل أو القصور في إدارة التعدد الثقافي في المجتمع بإنه السبب المباشر في الضعف الاقتصادي للدولة. أما الصورة الثانية لهذا المشهد الجدلي، فهي تتمثل في أثر الإقتصاد الجيد للدولة على ظاهرة التعدد الثقافي بها، فالدول القوية من الناحية الإقتصادية لاتعاني من أي مشكلة تتعلق بالتعدد الثقافي، بينما الدول الضعيفة اقتصادياً يصبح التعدد الثقافي مصدراً للنزاعات والصراعات فيها. لهذا السبب يجب على الدول أن تهتم إلى حد كبير بالتنمية الإقتصادية في إستراتيجية إدارة التعدد الثقافي. وكذلك لابد من إستصحاب حقائق التنوع الثقافي والتعدد العرقي عند بناء السياسات الإ قتصادية والتنموية.

الدكتور/ تيراب أبكر تيراب
[email protected]

‫3 تعليقات

  1. مش عيب عليك تنقل بالمسطرة من كتاب د طلال المعلا المسمي ( التراث الثقافي غير المادي تاريخ الشعوب الحي)

    حتي مجهود تغيير الكلمات ما قادر علية صحي قرقور

  2. “زكر” مكتوبه مرتين، تقصد “ذكر” ؟
    برضو كلمه نكصان ما صحيحه لغويا رغم ورودها في قصيده النونيه لابن القيم، الصحيح “نكوص”

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..