تحول إلى رمز الإنسانية بالجزائر.. قصة طبيب جراح خطفه الموت على الطريق السريع وهو ينقذ أسرة

في ليلة يحاصرها الضباب بمرتفعات بوزقزة، وليس بعيداً عن أول نفق يصادف المغادرين للعاصمة الجزائر نحو الشرق، تجلس نجاة علوي بسيارة على قارعة الطريق السيار تنتظر ابنها الجراح محمد وليد، الذي نزل لإسعاف عائلة من خمسة أفراد بعد تعرضهم لحادث سير.
نجاة، صاحبة السابعة والستين عاماً والمصابة بالشلل، لم تكن تدري بأن ابنها نزل من السيارة ولن يعود أبداً، ولأنها مقعدة حرمت من النزول للسؤال عن الابن، الذي كان استجاب لنداء الواجب المهني.
بداية القصة التي صنعت الحدث في الجزائر، كانت من ولاية بسكرة (700 كلم شرق الجزائر)، عندما قرر الطبيب الجراح علوي محمد وليد، النزول عند رغبة والدته المقعدة، واصطحابها لحضور زفاف ابن أختها بالعاصمة.
انطلق الابن ووالدته ظهيرة الخميس 28 ديسمبر/كانون الأول 2017، عندما حزمت الأخت الأمتعة وودعتهم.
أمين علوي، ابن عم محمد وليد، يقول لـ”هاف بوست عربي” إن الفقيد كان لا يرفض طلباً لوالدته، وكان متحمساً لإسعادها.
الواجب الإنساني
وسط ضباب كثيف زاد الظلام حلكة، وصل وليد وأمه إلى منطقة “الاربعطاش” بجبال بوزقزة التي تفصل بين ولايتي البويرة وبومرداس (100 كلم شرق العاصمة)، في حدود الحادي عشرة ليلاً.
وليد قرر ركن سيارته، بحسب رواية أمين علوي، على حافة الطريق السيار شرق غرب، وتوجه لإنقاذ عائلة تعرضت سيارتهم لحادث سير، وبالفعل تمكن من إنقاذ وإسعاف 3 أطفال، ووالدهم.
وفي الوقت الذي كان الطبيب الجراح يتأهب لإنقاذ الأم العالقة في السيارة، ومحاولة تقديم الإسعافات اللازمة لها، كانت شاحنة في طريقها لصدم، في محاولة فاشلة للنجاة قفز الطبيب خارج الحاجز الحديدي ناسياً أنه يقف فوق جسر على ارتفاع 110 أمتار.
درجات الحرارة تزداد تدنياً مع بداية الثلث الأخير من الليل، والوالدة نجاة تنتظر عودة الابن داخل السيارة.
بعد 40 دقيقة من البحث بين أحجار الوادي، من قبل فرق تابعة لمصالح الحماية المدنية، تم العثور على الطبيب الجراح علوي محمد وليد جثة هامدة.
الحماية المدينة كشفت هوية الضحية من خلال الوثائق التي كانت بجيبه، كما تم التأكد من أن للضحية سيارة مركونة على حافة الطريق السيار من خلال المفاتيح التي عثر عليها لديه.
بعد فتح السيارة، عثرت رجال المساعدة على مسنة مقعدة، سارع أحدهم بالرد على أسئلتها بالقول: “ابنك ذهب لمهمة عاجلة بسبب مظاهرات في العاصمة”.
بطل جزائري
تحول اسم علوي محمد وليد الى رمز لمهنة الطب والجراحة، وبات حديث كل الجزائريين بعد الحادثة.
نقابة الأطباء الجزائريين اعتبرت وليد مثالاً لابد من تخليده، وقال رئيس النقابة محمد بقاط بركاني لهاف بوست عربي “الأخلاق العالية للطبيب وليد، وواجبه المهني جعلاه يخاطر بحياته لإنقاذ عائلة كاملة من الموت وهذا موقف إنساني سيخلده تاريخ الطب في الجزائر”.
نظم الأطباء المقيمين في الجزائر، موازاة مع احتجاجاتهم التي يخوضونها منذ أزيد من شهرين، دقائق صمت على روح الفقيد، ويقول لهلالي موفق، طبيب مقيم بمستشفى “مصطفى باشا” الجامعي لهاف بوست عربي “وفاة الطبيب الجراح وليد بتلك الطريقة وفي تلك الظروف تجعلنا نتألم لفقدان جزء مهم من الإنسانية، فوليد أراد أن يترك رسالة سامية وكل الأطباء فهموا تلك الرسالة ونحن على وصايا وليد نمضي”.
وكانت الشبكات الاجتماعية قد عجت بتعابير الاشادة ببطولة الطبيب الجراح وتعابير الترحم والتعازي.
الإنسانية تسري في دمه
حياة الطبيب الجراح محمد وليد علوي كانت ثرية بفعل الخير، إذ كانت آخر صبيحة في حياته مكللة بعمل تطوعي خيري كبير.
ويقول ابن عم الفقيد، أيمن علوي، لهاف بوست عربي “أجرى وليد عمليات ختان لـ5 أطفال صبيحة مغادرته ولاية بسكرة متوجهاً إلى الوداع الأبدي، وهذه العمليات كانت لأبناء عائلات فقيرة”.
هيثم معمري عضو بالجمعية الشبابية “صناع الأمل” بولاية بسكرة يؤكد الجانب الإنساني للفقيد بالقول لهاف بوست عربي “في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 اتصلنا بالطبيب الجراح وليد للمساهمة في عملية خيرية لختان 15 صغيراً من أبناء العائلات المعوزة والفقيرة”.
ويضيف هيثم “رغم أننا نحن الشباب ما زلنا ننشط دون ختم يحمينا قانوناً، إلا أن الطبيب ولما تأكد بأن العملية خيرية هدفها مساعدة الفقراء والمعوزين، لم يتأخر في الرد بالإيجاب، وكان مستعداً للعمل والمساهمة في أي عمل تضامني يسطره الشباب”.
إيمان صاحبة الـ31 ربيعاً من ولاية بسكرة، تؤكد لهاف بوست عربي أنها أجرت عملية جراحية أشرف عليها الطبيب الجراح محمد وليد، دون مقابل، بعد اطلاعه على ظروفها المادية.
جنازة الطبيب حضرتها حشود كبيرة، ولكل منهم قصة إنسانية عاشها مع وليد.
زميل الفقيد في العمل، الدكتور جبار يسري تحضره قصة إنسانية لصديقه محمد وليد، لما استقال من المستشفى الجامعي ببسكرة، يرويها لهاف بوست عربي، “بعد استقالته بأيام، كانت هناك بالمستشفى حالة مرضية تنتظر إجراء عملية، وهو من كان يتابعها، وقد ذهب الى مديرية الصحة بالولاية وحصل على تصريح بالإشراف على العملية رغم أنه كان بإمكانه عدم العودة إلى المستشفى بعد الاستقالة، وبالفعل أجرى العملية بنجاح”.
هذا دون نسيان الأعمال التضامنية التي كانت تقوده إلى ولاية جيجل -400 كلم شرق العاصمة- لإجراء عمليات جراحية للمرضى من العائلات الفقيرة.
تخلى عن الزواج لخدمة والدته المقعدة
غادر محمد وليد الحياة في سن ال31 عاماً، ويعد هو الأصغر من الذكور في العائلة، يقضي أغلب أوقاته في خدمة والدته المصابة بالشلل، فهو طبيبها، وطباخها، والحريص على نظافتها الخاصة.
شاهيناز علوي، أخت محمد وليد، تقول لهاف بوست عربي، “كل ما فاتحناه في موضوع الزواج يتهرب، كل إخوتي متزوجون وأغلبهم مستقرين في المهجر”.
لن نسمع بعد اليوم “طبيب جراح”
رحل محمد وليد تاركاً آثاراً أغلبها إنسانية بين أبناء ولايته بسكرة، وعديد من المناطق في الجزائر، كما ترك بزوايا البيت ذكريات يصعب نسيانها.
الفقيد حسب ابن عمه أمين كان مولعاً بأغنية “طبيب جراح” لجورج وسوف، “فكانت رفيقه في السيارة حين السفر”.
زميله جبار يسري يستحضر ذكرياته في الرياضة، فكان مولعاً بالدوريات الأوروبية، فكانا يجتمعان في البيت لمتابعة مباريات كرة القدم.
أما الأخت شاهيناز، فرائحة قهوتها ومداعبة أولادها كانتا دائماً الصورة الأوضح في يوميات الطبيب الجراح.
هاف بوست عربي