الأرستقراطية القبلية والدينية (3/4)
د. صدقي كبلو
في المقالات السابقة تناول الكاتب بدايات تشكيل الارستقراطية الدينية الاسلامية في السودان و ارجاعها لسلطنة سنار وقال :ان السودان عرف الارستقراطية الدينية مثله مثل المجتمعات الاخرى قبل سنار وقبل الاسلام، كما تناول الكاتب الدور الذي لعبته تلك الارستقراطية في مملكتي مروي ونبتة وفي الممالك المسيحية التي تلتها كالمقرة وعلوة وسوبا. واشار الي ان الارستقراطية الدينية ظلت تلعب دورا هاما في وسط القبائل والشعوب السودانية التي لم تعرف الاسلام حتى يومنا هذا. وقال ان الامام عبد الرحمن المهدي كان عنصرا هاما في قيادة الارستقراطية الدينية والحفاظ على وحدتها وتحالفها مع الارستقراطية القبلية، ورغم ان السيد الصديق المهدي قد ورث عنه تلك القدرات القيادية إلا انه كان ميالا لقيام تحالف وطني مع الرأسمالية السودانية وقطاعات المتعلمين ،مما جعله قائدا فريدا للارستقراطية الدينية.واشار الي الانسقام حدث داخل طائفة الانصار بعد موته و استمر وتطور بعد ثورة أكتوبر.كما تناول الصراع الذي تفجر الصراع في حزب الأمة وارستقراطية آل المهدي الدينية و انقلاب مايو والضربة القاسية لارستقراطية بيت المهدي وللتطور السلمي الديمقراطي للبلاد، وأكد ان الأرستقراطية الدينية فشلت في إدراك اضمحلالها التاريخي وأهمية تحولها لرأسمالية توحد حولها فئات الرأسمالية الأخرى .
الأرستقراطية القبلية والدينية، عدا عائلة المهدي، هي من بقايا المجتمع قبل الرأسمالي في السودان والتي قام الحكم الثنائي بالحفاظ عليها وتقويتها ومفصلتها ضمن اسلوب الانتاج الرأسمالي الذي بدأ إنشاؤه ضمن الاقتصاد الكولنيالي التابع. وقد الحقت عائلة المهدي بهذه الأرستقراطية بعد استيعاب السيد عبد الرحمن المهدي أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى[1] ضمن مجموعة الاعيان.
الأرستقراطية القبلية والحكم الثنائي
لقد تناولنا تطور هذه الفئة التاريخي في غير هذا المكان[2]، ولكن رغم ذلك من الضروري إلقاء بعض الضوء على تطورها خلال فترة الحكم الثنائي والحكومات الوطنية حتى انقلاب مايو 1969. إن الحكم الثنائي لم ينشئ الأرستقراطية القبلية، فهي كانت موجودة قبله ولكنه اعاد اليها اعتبارها بعد ان اهتزت مكانتها على ايام الثورة والدولة المهدية، خاصة في الفترة الأولى للثورة عندما كان تعيين الأمراء يتم وفقا لأسبقية مبايعتهم للإمام المهدي وفي فترة حكم الخليفة عبد الله عندما كانت ثقة الخليفة أو واليه في الإقليم المحدد هي المعيار، إلى جانب ما حدث من هجرات وتحركات للقبائل خلال الثورة وفي فترة حكم الخليفة عبد الله. ولقد أدت هزيمة الدولة المهدية إلى رجوع معظم القبائل إلى مناطقها (ديارها). وخلافا لعلي دينار الذي أعلن نفسه سلطانا على دارفور فإن قبائل شمال السودان قد خضعت لسلطات الحكم الثنائي الذي اعترف بقياداتها وقد أوضح كتيب إرشادي أرسل إلى مساعدي المآمير في عهد إدارة ونجت باشا (امتدت فترته كحاكم عام من 1900 إلى 1916) إن الشيوخ يقومون بدور هام ويتحملون مسئولية كبيرة وان الحكومة تهدف إلى ربطهم بالإدارة ولكن ينبغي إلا تتم معاملتهم وكأنهم موظفون عموميون، فهم وكلاء الحكومة القبليون، تعينهم، تنقض قراراتهم وتفصلهم أو تستبدلهم[3]. وبالفعل فقد قامت الإدارة البريطانية بتغيير بعض شيوخ القبائل. وقد توطدت سلطات الارستقراطية القبلية عندما نفذ اقتراح المستر والاس مدير الاستخبارات والذي وجد دعما من المستر بونهام كارتر السكرتير القضائي باعضاء الشيوخ سلطات قضائية تحت اشراف مفتشي المراكز. ودعمت لجنة ملنر، التي كلفت اساسا بدراسة اسباب ثورة 1919 المصرية ووسعت من سلطاتها لدراسة الوضع في السودان، هذا الاتجاه بتوصيتها بضرورة انتهاج شكل الحكم غير المباشر في ادارة السودان واستعمال العناصر المحلية لتخفيض التكلفة[4]. وانعكس كل ذلك في صدور قانون سلطات شيوخ الرحل لعام 1922، والذي استبدل بقانون سلطات الشيوخ لعام 1927 وتعديلاته في عام 1928 وقانون المحاكم الاهلية لعام 1930 الذي حل محله (والذي يقابله في الجنوب قانون محاكم السلاطين لعام 1931)[5].
الأرستقراطية القبلية والاستقلال
لقد ادى هذا الوضع الإداري والقانوني للارستقراطية القبلية لوضعها في مكان متميز في الريف السوداني، مما ادى لوضع يدها على ثروات طائلة بحكم ادارتها للمراعي والغابات والاراضي الزراعية لقبائلها المملوكة بشكل جماعي بواسطة القبيلة (ارض القبيلة أو دارها). ولقد أدى الاستقلال السياسي لزيادة نفوذها؛ فبعد ان كانت تابعة لجهاز الدولة، اصبحت جزءا من الحلف الطبقي الحاكم الذي ضمها والارستقراطية الدينية والرأسمالية التجارية والرعيل الاول من المثقفين (من كبار الموظفين والسياسيين) الذين رهنوا الحركة الوطنية للارستقراطية الدينية بعد مذكرة الخريجين في مطلع الاربعينات من هذا القرن. وبالتالي اصبحت الادارة المحلية واقعة تحت نفوذها فبدلا من ان يكون رجال الادارة الاهلية خاضعين للاداريين من مفتشي المراكز (والضباط التنفيذيين بعد إلغاء نظام المفتشين عام 1960)؛ اصبحت الإدارة الاهلية مسيطرة وقادرة بحكم نفوذها كجزء من التحالف الذي يسيطر على دولة ما بعد الاستقلال على التحكم في نقل وتثبيت الاداريين وبسط نفوذها الاقتصادي والسياسي على الريف. إن هذا الانقلاب في السلطة في المركز والريف كان له أثر كبير في التراكم الرأسمالي في الريف واختلال مستوى تمفصل نمط الانتاج الرأسمالي مع الانماط السابقة للرأسمالية ذلك التمفصل الذي كان محروسا ومنظما وتتم إدارته بواسطة الدولة الكولونيالية، وخاصة في مجالات الرعي والزراعة والاراضي المحجوزة. لقد سمحت الارستقراطية القبلية لنفسها ولحلفائها من الارستقراطية الدينية والتجار والافندية، بالتوسع في الزراعة المطرية في اراضي القبيلة التي يشرفون على إدارتها بعد الاستقلال، وبتراكم ثروة حيوانية واسعة، والاحتفاظ بها قرب موارد المياه (كالدوانكي والحفائر)، مما أدى إلى تدهور الغطاء النباتي وازدياد تحركات الرعاة ونشوء الصدامات القبلية حول المرعى وموارد المياه.
الميدان