أخبار السودان

(شِنْ خلولْنَا بَلَا حُجّـَارْ) – تحقيق

– نصر الدين عبد القادر
الحلقة الأولى
لا أدري لماذا أكتب ما سأكتب وأنا على يقينٍ بأني سأجد نفسي أذكى بكثيرٍ مما كتبتُ! وسؤال آخر هو: لمن أكتب عن آثارنا.. وعن بعانخي وترهاقا وألّارَا وتانوتَمَني.. أرباب الحضارة السودانية قبل أن تهز مريم العذراء بجذع النخلة حين جاءها المخاض بعيسى عليه السلام، وقبل أن يسألها زكريا عن سر الطعام الذي يأتيها من السماء، لأن نبي الله زكريا وقتذاك لم يكن قد أشرقتالشمسُ عليه! سأترك هذا وذاك وأنظر بعين حِمِّيد وهو يتحسرفي رد الزين ود حامد لزوجته ست الداربت أحمد (فِضْلتْ في آثار.. ما خموها الجونا قبُلْكُمْ.. شِنْ خلولنا بلا حجار).
الجبل المقدس!
إنه جبل البركل، أو أرض المعابد، حيث يضم مجموعة المعابد التي كان يقصدها النوبيون لأداء الشعائر الدينية، وأكبر تلك المعابد معبد (آمون رَعْ) حيث كان تنصيب الملوك يتم داخل هذا الجبل، وحوله قصور مؤسسة بأساسٍ هندسي فريد لم يتوصل إليه العالم إلا بعد آلافٍ من السنوات. كانت الشمس تشرق على المدينة من أعلى قمة الجبل، وكأنه مشرق الشمس، وتغرب في محاذاته وكأنما تُلوِّح له بالوداع. من أعلى قمة الجبل المسطح يتراءى للناظر كيف ينحني النيل مطوِّقا المدينة أو ما شابه، والنخيل يرسم خضرة على النيل لتتشكل لوحة من غرابتها وجمالها تحتاج أن تُضاف إلى عجائب الدنيا.. كل ما خلفه الأجداد قبل الميلاد سينضاف إلى العجائب لو أن عقلاً مفكراً،وذهناً صافياً، وضميراً حياً، وقلباً يتذوق الجمال قد عمل على ذلك.. أضيف موقع جبل البركل إلى منظومة التراث العالمي (اليونسكو) كخمسة مواقع نحن بصدد الكتابة عنها في هذا التحقيق الوصفي بعد زيارتها، وهي (جبّانة الكُرو/ أهرامات نوري التي من بينها هرم ترهاقا / وجبل البركل نفسه/ وصنم أبو دوم / والزومة).
ماذا تبقى؟
ما تبقى من آثار هي عبارة عن حجارة وفخار ورسومات على جدران المعابد وداخل الأهرامات بعض النقوش والكتابات، أما الذهب والكنوز والمومياوات التي تخص الملوك والملكات (الكنداكات) فقد تشتتت وتوزعت بين متاحف العالم. ومن بين هذه الكنوز المسروقة رأس الكوبرا الذي كان أعلى جبل البركل وهو من الذهب الخالص، إذْ كان يعكس ضوء الشمس حتى ليظن الناس أن انعكاسه هي، ولا يعلم الناس أين هذا الكنز، ولا حتى من أخذه (تلطفاً) لأنه ربما يكون من أهل البلاد. ومن المثير ? ربما – أن البعثات التي نقبت وما زالت تنقب عن الآثار السودانية، كلها قادمة من أوروبا؛ فتوزعت الكنوز بين متاحف أوروبا وأمريكا التي تحتوي على كنوز مقابر الملوك في الكرو ومومياواتهم حيث أخذها إلى هناك عالم الآثار جورج أندرو رايزنر حين التنقيب في العام 1916 بحسب أستاذ الآثار المشارك بجامعة دنقلاونائب عميد كلية الآداب د.الرشيد محمد إبراهيم،الذي قالإن بعثة متحف جامعة بوسطن الأمريكية حين قدمت إلى التنقيب بقيادة رايزنر نقبت في كل المقابر وأخذت معها كل المقتنيات الأثرية التي يحتاج استردادها إلى عمل كبير. ورايزنر نفسه بحسب مفتش الآثار بمحلية كريمة، لؤي شمس العلا، قد عاث المناطق الأثرية تدميراً، إذ كان يتّبع التنقيب العشوائي مما ساهم في تدمير المقتنيات الأثرية من الفخار، فكان همه الأول الكنوز والذهب. ويضيف د.الرشيد أن كل المقتنيات الأثرية التي أخذها رايزنر موجودة الآن بجامعة بوسطن. وبطبيعة الحال فإن جثة الملك بعانخي الذي حكم مصر حتى فلسطين ومن بعده ابنه تهارقا موجودة هنالك. ولم يكن رايزنر وحيداً.
في نهب آثارنا، فقد سبقه إلى النهب الطبيب الإيطالي جوزيف فرلبين سنة 1838م، والذي قام بسرقة أغلى كنز أثري في العالم يخص الملكة أماني شخيتووفقاًلكتاب (ذهب مروي)للألماني كارل هانز بريشة، حيث يحكي أن الطبيب الإيطالي الذي جاء مع غزو محمد علي باشا كان يتحين الفرصة للبحث عن الكنوز التي قرأ عنها وسمع كثيراً، والشاهد هنا أن حضارتنا كانت معروفة لدى العالم القديم، فجاء واستخدم بساطة أهل المنطقة وسذاجتهم وجهلهم بموروث أجدادهم فاشتغلوا معه عمالاً بدراهم معدودات حتى أوصلوه إلى الكنز. وحين سمع إسماعيل باشا بالكنز الذي هرب به فرلبين، حدثته نفسه بالبحث أيضاً ربما يحظى بكنزٍ آخر يغنيه مدى الحياة وذراريه من بعده؛ فعمد إلى هدم الأهرامات وفجرها حتى دمّر أربعين هرماً.. وما تبقى الآن عبار عن أطلال حضارة وحجارة، ولكن ليس كل حجرٍ حجر، كما قال الشاعر محمد نجيب محمد علي.. فالمتبقي هو الذي نهتدي به لتتبع آثار حضارتنا وتاريخنا وكيف كنا، وكيف يجب أن نكون،ها أستحضر مقولة د.منصور خالد: “ولكن لِمَن تعزف مزاميرك يا داؤود؟”
الناس على دين ملوكهم!
ليس المدهش أن تسرق حضارة، أو تكون مدهشة للعالم، ولكن المدهش أن ننتمي نحن لتلك الحضارة، أو ندعي الانتماء، ولا نثور وننتفض إلا إذا كان ثمة مؤثر خارجي. فالذين جاءوا حكاماً على السودان بعد خروج المستعمر ما كانت لديهم ثقافة الآثار، وإن كان منهم من درس خارج السودان، وبما أن الناس على دين ملوكهم فكان التخلف والجهل بهذه الحضارة علامة مسجلة باسمنا، وربما نكون الأمة الوحيدة في هذه الأرض التي لم تكن حضارتها وتاريخها جزءاً من مناهجها الدراسية، والأدهى أنها تركز على تاريخ أوروبا والدولة العثمانية، وما هو مزيف من تاريخنا القريب. الناس في مناطق الآثار ينحتون على الحجارة الأثرية أسمائهم، وأسماء مَن يحبون، فتشوهت. ويعبرون فوقها بدوابهم وسياراتهم، وبها يلعبون، وثمة لافتة صغيرة على حجر قزم مكتوب عليها بقلم الشيني عبارة (لا تجلس على الحجارة، الهيئة القومية للآثار والمتاحف) وهي غير لا ترى إلا مَن تعمد متفحصاً قراءتها. لذلك رأيتُ طلاباً يدرسون بكلية السياحة والآثار بمحلية البُرقيق وهم يجلسون على حجارة القصور المشيدة قبل آلاف السنين وبقية أطلالها أمام معبد آمون بجبل البركل،وتحت العمودين الشاهدَين على أسطورة إيزيس والإله حتحور، وكانوا ينتظرون دورهم في الدخول إلى غرف المعبد تحت الجبل ليشرح لهم أحد المرشدين الرسومات والنقوش. كنت أراقب أولئك الطلاب وكيف يكون مستقبل السياحة على أيديهم، فكان السيلفي هدفهم، والونسات الجانبية بينهم بعيدة كل البعد عن طبيعة المكان، وكان همهم أن تنقضي الرحلة بأسرع ما يكون حتى يعودوا إلى ديارهم لأن الجو حار.. انتظرتُ بعض اللواتي دخلن المعبد للشرح لأسألهن عن انطباعهن، فخرجت إحداهن قبل الشرح وردت على سؤالي “الله لا جابنا هنا تاني.. السخانة كتلتنا.. أوووب علي دا قبُر).. وهي تمسح العرق بخمارها. كانت ملابسهن موحدة في ألوانها وشكلها، وإذا بإحداهن ترتدي خماراً لونه أفتح من الأخريات بقليل فناداها الأستاذ المشرف على زيارتهن تلك وقال لها: (لو شفتك بالطرحة دي ما كان خليتك تركبي العربية)، فبهتني اهتمامهم باللباس أكثر من العقول.
عذراً يا خاليوت بعانخي..فقد ارتكبنا الخطيئة!
من العجائب أيضاً ما كتبه الأمير خاليوت ابن الملك بعانخي سنة (700 ق.م) في رسالة لخصت ملامح الدولة آنذاك وكيف كانوا يحكمون، ورسمت للأحفاد طريقهم وكيف يهتدون.. وهذه الرسالة موجودة في المتحف القومي، وترجمها بروفيسور العباس سيد أحمد، حيث وُجدت أمام أحد المعابد وعمرها الآن تجاوز من السنوات (2717 سنة)،يقول فيها: (إنني لا أكذب، ولا أعتدي على ملكية غيري، ولا أرتكب الخطيئة. وقلبي ينفطر لمعاناة الفقراء. وإنني لا أقتل شخصاً دون جُرمٍ يستحق القتل.ولا أقبل رشوةً لأداء عملٍ غيرِ شرعيٍّ. ولا أدفع بخادمٍ استجارني إلى صاحبه. ولا أعاشر امرأة متزوجة. ولا أنطق بحكمٍ دون سند. ولا أنصب الشِراك للطيور المقدسة، أو أقتل حيواناً مُقدَّساً. إنني لا أعتدي على ممتلكات المعبد (الدولة)، بل أقدم العطايا للمعبد. إنني اُقدم الخبز للجياع، والماء للعطشى، والملبس للعُري. أفعل هذا في الحياة الدنيا، وأسير في طريق الخالق، مبتعداً عن كل ما يغضب المعبود، لكي أرسم الطريق للأحفاد الذين يأتون من بعدي في هذه الدنيا وإلى الذين يخلفونهم، وإلى الأبد).
وقد صدق الله حين قال : “فخَلَفَ مِن بعدِهِمْ خَلْفٌ أضَاعُواْ الصَّلاةَ واْتَّبَعُواْ الشّهَوَاتِ..”
وإلى هنا أراني مديناً بالاعتذار لك يا أبتي خاليوت أصالةً عن نفسي، وليس نيابة عن الآخرين، فربما يأتي من أصلابهم ممن له عقل وضمير ويعيد لهذه الأرض عزتها؛وعذرًا حميد، فليس كل حجرٍ حجرْ!
نواصل..
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. قليل من المنطق لا يضر ، لو لم يأخذها هؤلاء العلماء الإجلاء لبلادهم لحطمها الكيزان والسلفيين من وهابية وانصار سنة ، انه تراث عالمي ويجب الحفاظ عليه وشكرا لك من انقذ اثار السودان

  2. قليل من المنطق لا يضر ، لو لم يأخذها هؤلاء العلماء الإجلاء لبلادهم لحطمها الكيزان والسلفيين من وهابية وانصار سنة ، انه تراث عالمي ويجب الحفاظ عليه وشكرا لك من انقذ اثار السودان

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..