اولاد المرحومة

اولاد المرحومة

منى سليمان
[email][email protected][/email]

بالرغم من ضجيج الفصل واصوات تلاميذ الصف الاول العالية من حوله، كان (صهيب) يجلس على كرسيه مطاطأ الراس في سكون، وقد لاحت في عينيه نظرة انكسار وحزن دفين لم تفلح براءة ملامحه الطفولية في اخفاءها .. كان التلاميذ يتسابقون لاجابة استاذ (مدثر) كل عن ما اذا كانت والدته ربة منزل أم من النساء العاملات وماهي وظيفتها بالضبط، ولكن (صهيب) ظل على صمته مما لفت نظر صديقه العزيز الذي يتشارك معه الجلوس على نفس الكنبة، فبعد أن وقف (عاصم) وأخبر الاستاذ في فخر أن أمه (دكتورة بتعالج العيانين)، مال على صديقه ولكزه بكوعه وهو يقول هامسا:
قوم وري الاستاذ أمك شغالة شنو !
ولكن لدهشته رفض (صهيب) الوقوف كما أن الاستاذ تجاوزه مسرعا بتحويل السؤال لمن يليه !!
لم تسمح سنوات عمره الخمس للدهشة أن تستمر في شغل حيز من تفكير (عاصم)، فسرعان ما نسى الموضوع حتى مال عليه (صهيب) بعد فسحة الفطور، وعلى وجهه ملامح من يحمل سرا خطير .. سأله وهو يتلفت حوله ليتأكد من أن لا أحد من العيال يسمعهم:
أوريك كلام سر لكن ما تكلم بيهو أي زول ؟
وعندما مال عليه (عاصم) باهتمام وهو يهز رأسه علامة الموافقة على الشرط قال (صهيب):
الاستاذ ابى يسألني عشان عاااارف .. أنا أمي ماتت !
ثم اشار بيده لفمه في خوف وكأنه يلوم نفسه على افشاء السر الخطير (أوع تقول الكلام دا لي زول .. سمح ؟)
شعر (عاصم) بشئ يعتصر قلبه ونظر باشفاق لصديقه ووضع يده على كتفه وكأنه يواسيه .. صمتا معا لبعض الوقت ولكن (عاصم) ابتعد عن صديقه فجأة وسأله في استنكار: لكن المرا القاعدة تجي تسوقكم من المدرسة دي مش أمك ؟
فنفى (صهيب) بشدة:
لالا .. البتجينا دي خالتي (نجاة) مرت أبوي !!!
كان شعور (صهيب) بالخجل وحرصه على عدم اخبار رفقائه في الفصل عن وفاة أمه، ناتج من احساس دفين بالغضب منها والشعور بالحنق من فعلتها .. كيف تسمح لنفسها بأن ترحل وتتركه يعاني الوحشة ليلا والانكسار نهارا، بل كيف تتخلى عنه وتتركه خلفها وتذهب وحدها لتسعد بالبقاء في الجنة، كما أخبره والده عن سبب رحيلها المفاجئ، فقد كانت تهيئه لترك مكان نومه بجوارها لأخيه الجديد القادم في الطريق، وكثيرا ما كانت تقوم بدغدغته حتى يهرب منها ليلا لينام مع اشقائه الاكبر، بحجة انه كثير (الرفس) أثناء نومه وقد يؤذي شقيقه المتكور في بطنها المنتفخ، وعندما حملت شنطة حاجيات (البيبي) وغادرت البيت برفقة والده وحبوبة ذات ليلة، حملته واحتضنته بشدة ودموع الالم في عينيها ثم قبلته، وطلبت منه أن يعدها بعدم (التشاقي) ويسمع الكلام لحين عودتها من المستشفى ..
وبدلا من أن تفي بوعدها وتعود، عاد والده وجدته واخيه الصغير كثير البكاء، وجاء معهم أناس كثيرون ظلوا يبكون لايام طويلة، وعند ذهابهم ظلت خالته الحبيبة (نجاة) معهم في البيت، وذلك لأن أمه اختارت أن تذهب للجنة وتتركه!! يا لها من خائنة .. كل ابناء اقربائهم من الاطفال وكل رفقائه في الفصل لهم امهات ماعداه هو واخوته !! لماذا لم تأخذه معها بالرغم من انها كانت تدعي انها تحبه مثل عينيها، ولم تكن تذهب لمشوار دون أن تسحبه خلفها كـ (ذيل مشاغب صغير) ؟!!
حسنا، قصة اليتيم الحساس (صهيب)، وهي ? بالمناسبة قصة حقيقية وواقعية – تابعت تفاصيلها بقلب الأم المهجس بما ستفعله الدنيا بفراخها الزغب الصغار، اذا قدر الله لها ان تغادر فجأة قبل ان تهيأهم للرحيل .. فقلبه الصغير لم يستوعب كم الفراغ والحزن الذي خلفه غياب امه، وجعله يشعر بالدونية والصغار مقارنة برفقائه الذين ينعمون بالنوم في احضان امهاتهم، وعقله اليافع لم يسعفه ليجد تبريرا أو عذرا لتخلي أمه عن مسئوليتها تجاههم وتفضيلها الرحيل .. ربما لذلك الاحساس بالنقص كان يحرص بشدة على ان لا يعلم احد زملائه الصغار بفعلة أمه، وكأن الموت كان لها خيارا ولم يكن اجل وكتاب وميعاد معلوم، ليس لها ان جاء ان تأخره أو تعتذر بمن تركتهم خلفها زغب الحواصل، ولكن لأن الله كان لهم خير كفيل .. فقد هيأ لهم قلبا محبا كريما عطفوفا هو قلب خالتهم (نجاة)، والتي تسعى جاهدة لتعويض ايتام شقيقتها المرحومة عن حنان أمهم ورعايتها، وتتفانى في ذلك حتى ان كل رفقاء (صهيب) واصدقائه كانوا يعتقدون انها أمهم الحقيقية لفرط شفقتها عليهم وتعبها في متابعة سيرهم وتحصيلهم الدراسي ..
سبحان الله فقد ذكرني موقف (صهيب) بقصة تداولتها المواقع الاسفيرية عن رب أسرة سعودي حكى عن عاملة من شرق افريقيا، كانت تعمل في خدمة اسرته ورغبت في اعتناق الاسلام .. لم يدعوها احد افراد البيت لان تعتنق الاسلام، ولكن هذه العاملة تأثرت بالنهج الحسن الذي تعامل به الرجل وزوجته معها، واشار الرجل لأن التعامل الحسن من زوجته مع أبنائه من زوجته المتوفاة، أشعر العاملة برحمة الإسلام وعندما استفسرتها لماذا تتعامل معهم هكذا بالرغم من انهم ليس ابنائها، بينت زوجته للعاملة أن أبناء الزوجة المتوفاة أمانة عندها، وهنا طلبت العاملة كتباً عن الإسلام وقرأتها، ومن ثم طلبت تعليمها كيفية إعلان إسلامها ..
حقيقة، عندما نفتش في أعماق المجتمع نكتشف صور مثالية ورائعة لزوجة الأب والتي كانت أما بديلة لأبناء زوجها فعوضتهم حرمانهم من الأم المتوفاة، وأن الصورة السلبية لزوجة الأب التي تشقي أبناء المرحومة وتزيقهم العذاب الوان، صورة ظالمة توارثها المجتمع نتاج ثقافته وتقاليده القديمة التي عفى عليها الزمان .. هذا لا يمنع من أن يحرص الزوج الذي يفقد زوجته على اختيار الزوجة الثانية، خاصة والأبناء في حاجة إلى أم بديلة تعوضهم حنان أمهم المرحومة، وعليه أن يهيئهم لقبولها، والتقريب فيما بينهم نفسياً، لكسر حاجز الخوف والشك? والأب أيضاً له الدور الأكبر في حفظ التوازن النفسي للأسرة بكاملها، فعليه أن لا يتجه بكل اهتمامه لزوجته الجديدة و يهمل أبناءه وبالتالي يعانون من الحرمان مرتين، أما الزوجة الجديدة فلابد من أن تفهم مشاعر الأطفال ولا تتدخل في أسلوب التربية الذي يتبعه الأب معهم إلا بالحسنى، حتى لا تستعديهم وتتحول في اعينهم لـ (ضرة) بغيضة اخذت مكان امهم، فيتحولوا ضدها ويقوموا بالتنفيس عن كل شعورهم باليتم وفقدان الحنان عليها، فيحيلوا حياتها الى جحيم ففي ذلك تقول الحبوبات:
الضرة بي عويناتا ولا وليداتا !!

تعليق واحد

  1. تسلمي اخت مني وفيتي وكفيتي والله انه لموضوع جدير بالاهتمام مثل هذه الاشياء في سوداننا ليس بالغريبة من شعبنا المتسامح الكريم الابي نسال الله ان لاتندثر تلك القيم النبيلة

  2. ليس كل من سمع قصة واقعية كهذه يستطيع أن يجسدها بأسلوب راقي ورائع . أسلوبك المتميّز أضفى على القصة الواقعية مسحة رائعة الايلام أو ألماً لذيذاً ان جاز التعبير .

  3. الله يديك العافية ويخلي ليك اولادك ويخليك ليهم تساقطت الدمعات من بداية مقالك الى نهايته وليس بعيدا عن الواقع ايضا وجود حالة لوعة وحزن دائم لدي فقدان الاب ايضا عند الاطفال والصبية اذكر انه عندما كنا في الصف الثالث اساس في منتصف السبعينات كانت هنالك عمل روتيني من المدرسة بتسجيل اسم الوالد ومهنته وعدد الاشقاء والشقيقات فكان هنالك طالب زميلنا يبكي كلما سئل عن والده بالم وحرقه ويستغرب الجميع حتى علمنا ان والده متوفي ولم تفارقه حالة حزن حتى اكمل تعليمه العالي . شكرا بنت البلد

  4. مع اكيد احترامي للكاتبة والمعلقين بس مش شايفين انو المدرس يسال التلاميذ جهارا ماذا تعمل امك امام التلاميذ؟؟؟هب ان امه بائعة كسرة او شاي او فراشة او خادمة منزل وهذه قطعا مهن شريفة ولكن الا يعير الصغار بعضهم بعضا يذلك … كونوا واقعيين .. لنفرض ان امه تعمل راقصه وهذا يحدث في كثير من الدول اعتقد انه ليس للاستاذ الحق في طرح مثل هذا السؤال..

  5. انا اشهد انك كاتبة كبيرة ومقتدرة , وكتاباتك هادفة كاطروحات وافكار ,, بس زعلان منك من السنة الفاتت بسبب مقالك المقتبس بتاع (ست الجيل لليتامى دليل )ودة كان اخر مقال اعلق عليه بالمناسبة , نحن كقراء معجبين باسلوبك وطرحك الخاص واصلي على كدة عشان نواصل معاك ..

    الموضوع بتاع المرحومة وزوجة الأب دة والله فعلا موضوع يحتاج الى وقفة ومعالجتكم ليه ككتاب وكاتبات مثقفين مهم جدا بالاضافة لجرعات توعوية بطرق واساليب مختلفة , البلد محتاجة للتوعية اكتر من اي حاجة تانية .. النظام زاتو لو اتغير ما حنستفيد شي لو ما اتغيرت البيئة بتاعت التربية والتوجيه والاعلام المقنن والمدروس والمفيد
    تحياتي

    اخونا عباس نتفق معك تماما رغم انه دة ما الهدف من الطرح
    ودي لك

  6. نحن ما عايزين مقال بس يا استاذة عايزين كتاب عديييييييل كدة لو الفكره مافي ح نحزن ولو جاهز حنطبع ولو مطبوع ح نشتري بس قولي لينا ورينا ولك كل الود والتقدير والاحترام

  7. يعني لو الوليد أمه شغالة مشاطة يقول قدام زملاءه أمي مشاطة ، المقال جيد ولكن القصة لو كانت واقعية يبقى المدرس عايز ليهو زول يدرسه أصول الاتيكيت والعلاقات العامة

  8. طريقة سردك للقصص لطيفةبتقابلنا كل يوم قصة أعجب من أختها ولكن من النادر أن نجد من يسرد هذه القصص التي تمتلئ بها الدنيا بهذا الأسلوب. وأنا لأني بحب القصص من زمااااااااااااااان من زمن الكتب بنشتريها من الواطة جنب المحطة الوسطى في أمدرمان بتلفتني طريقة ا لسرد والرواية. ربنا يزيدك من خيره وربنا يخلينا لعيالنا ويخلي كل أم لأطفالها

  9. والله عشت قصتك بتفاصيلها وكأننى أعرف ذلك الطفل اليتيم…..قرأتها بعين باكية لأننى أب لأطفال فى سن الطفل بطل قصتك…..أسأل الله أن ينعم الأطفال بحنان الأبوين فى مشارق الأرض ومغاربها

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..