طيارون روس في خدمة السلام بجنوب السودان

تعيش مدينة جوبا، عاصمة الدولة الفتية لجنوب السودان، موسم هطول الأمطار الغزيرة العادي في مثل هذا الوقت. غير أن طيارين من المجموعة الجوية الروسية المرابطة هناك يستمرون في تأدية مهامهم بغض النظر عن الظروف الجوية القاسية والمتقلبة. لقد تأكدت من ذلك عندما دعوني في يوم من أيام سبتمبر الحالي لمرافقتهم في إحدى الرحلات الدورية على متن مروحية روسية. وتجدر الإشارة إلى أن المجموعة التابعة لبعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان مزودة بثماني مروحيات من طراز"مي ? 8".

وقال لي قائد المجموعة العقيد أندري ميخايليدي إن هذه الوحدة الجوية العسكرية ظهرت في جوبا لأول مرة في نيسان (أبريل) عام 2006 عقب صدور قرار عن مجلس الأمن الدولي حول مراقبة سير تنفيذ اتفاقية السلام المعقودة عام 2005 بين الحكومة المركزية ومتمردي الجنوب في الدولة السودانية الموحدة وقتذاك، من قبل بعثة تابعة لهيئة الأمم المتحدة. وأراد المجتمع الدولي من خلال إرسال ونشر بعثة حفظ السلام هذه تقديم المساعدة الضرورية للحيلولة دون تجدد الحرب الأهلية التي دارت بين شمال البلاد وجنوبها على مدى نصف قرن وإن تخللتها فترات توقف قصيرة.

وضمت المجموعة الجوية في البداية أربع مروحيات من طراز "مي ? 8" ولكن منذ كانون الأول (ديسمبر) 2010، أي عشية إجراء الاستفتاء التاريخي على تقرير مصير جنوب السودان في التاسع من كانون الثاني (يناير) 2011، تم توسيع المجموعة من خلال ضم 4 مروحيات روسية أخرى مع طواقمها إليها بعد نقلها من جمهورية تشاد المجاورة إلى جوبا.

وكان الطيارون يتوقعون، حسب قولهم، أن يتقلص حجم مهماتهم بعد انفصال جنوب السودان، ولكن عملهم تضاعف في حقيقة الأمر بسبب انتهاء تفويض بعثة الأمم المتحدة في جمهورية السودان وانتقال أكثرية موظفيها إلى جنوب السودان، بدليل أن كل طيار من أفراد المجموعة نفذ خلال الأشهر الخمسة الماضية أعدادا كثيرة من الطلعات بواقع 200 ساعة إجمالا ما يفوق المعدل المتبع في روسيا مرتين.

ويقيم الطيارون الروس في معسكر خاص بهم أطلق عليه "ميخايلوفكا" على شرف قائد المجموعة بتشكيلتها الأولى الذي كان اسمه ميخائيل. ويعتبر المعسكر موقعا مزدهرا ومريحا الآن بالمقارنة مع ما كان عليه منذ خمس سنوات مضت عندما كان المكان خاليا من أي شيء باستثناء أعداد كبيرة من الأفاعي.

ويعيش أفراد المجموعة في بيوت تركيبية جاهزة من طابق واحد. كما بنيت في المعسكر عدة تعاريش واسعة يجتمع فيها الطيارون في أوقات الفراغ للعب الشطرنج والداما والنرد أو لمناقشة أخبار الوطن والمنطقة. وأقيم هناك أيضا حمام مع حوض متوسط للسباحة وملعب للكرة الطائرة وطاولات للتنس وقاعة للتمارين الرياضية التي تساعد الضباط على الحفاظ على لياقتهم البدنية. وكان الطيارون قد شيدوا كافة هذه المنشآت بجهودهم الخاصة.

وتؤمن الوحدة الجوية الروسية كل احتياجاتها ذاتياـ بما فيها إمدادات المياه. وتستهلك المجموعة التي تضم نحو 130 فردا في تشكيلتها، حوالي 15 طنا من الماء يوميا. ويجري أخذ هذه الكمية من نهر النيل بواسطة طلمبات، ثم تصفيتها على أربع مراحل باستخدام الأدوات الخاصة التي تم إحضارها من روسيا ليكون الماء نقيا وصحيا تماما.

ويحب الطيارون معسكرهم كثيرا ويتوقون للعودة إليه بعد أداء المهمات الشاقة في أجواء جنوب السودان وعلى أراضيه.

لقد شعرت كاتبة هذه السطور شخصيا بصعوبة الطلعات الجوية بالمروحية في المنطقة أثناء إحدى الرحلات "الروتينية" الآنفة الذكر، التي دعيت إليها من قبل قائد المجموعة. وكانت المهمة وقتذاك تنحصر في نقل قوة من جنود السلام الهنود من بلدة بريبور إلى عاصمة جنوب السودان. لقد استغرق التحليق ثلاث ساعات ونصف إجمالا فوق مساحات شاسعة من البراري لا توجد فيها نقاط مأهولة بالسكان أو طرق للمواصلات أو أعمدة لخطوط الكهرباء، بل تتبين على سطح اليابسة من حين إلى آخر قطعان من الحيوانات البرية مثل الزرافة والأيل والغزال أو بيوت بدائية لرعاتها.

وفي جنوب السودان بخلاف روسيا يضطر طيارونا إلى قيادة المروحيات دون رؤية أي علامات تأشير أرضية بالاعتماد الكلي على أجهزة نظام "جي بي أس" لتحديد إحداثيات عن طريق الأقمار الاصطناعية. وعندما يرى الطيار على شاشته الملاحية خطا مستقيما يعني ذلك أن مروحيته تطير في الاتجاه الصحيح، أما عندما يتعرج الخط فمعناه انحراف المروحية عن مسارها المبرمج.

ويتكلم الطيارون في اتصالاتهم بنقاط المراقبة والتوجيه النادرة أثناء التحليق مع المرشدين الناطقين بخليط من الانجليزية واللغة الدارجة المحلية دون أن يسبب ذلك الصعوبة في فهم وتفسير توجيهاتهم بالنسبة للضباط الروس.

وأتقنوا أيضا تنفيذ التحليقات في كل الأحوال الجوية، والهبوط على ساحات من التربة والغبار. كما استطاعوا أداء وظائفهم في ظل التقلبات المستمرة في الأوضاع الأمنية بجنوب السودان، حيث تندلع كل أسبوع تقريبا اشتباكات بين القبائل المحلية يذهب ضحية لها مئات المواطنين.

وشارك الطيارون الروس مرات عديدة في نقل جرحى هذه الصدامات القبلية الدامية وفي إيصال أفراد قوة حفظ السلام إلى ومن النقاط الساخنة التي ينزلون فيها لفك النزاعات.

وفي طريق عودتنا من بريبور إلى جوبا اكتظت مروحيتنا بالذات بأكثر من 20 عنصرا من قوة حفظ السلام الهندية وهم عائدون من مثل هذه المهمة الخطيرة بكامل أسلحتهم الفردية والذخيرة.

هكذا يؤدي الطيارون الروس مهماتهم الأممية في دولة جنوب السودان التي تم إعلان استقلالها في التاسع من تموز (يوليو) عام 2011 وأصبحت العضو 193 في هيئة الأمم المتحدة فيما بعد. ولا بد من التذكير بأن هذه الدولة التي تعادل مساحة أراضيها مساحة فرنسا، تقريبا، تنقصها الطرق العصرية للسيارات أو خطوط السكك الحديدية والمطارات الحديثة. لذا أصبحت المروحيات الروسية في جنوب السودان وسيلة قيمة وشبه وحيدة أحيانا لتأمين تنقلات جنود البعثة الأممية لمسافات بعيدة ومتوسطة.

ولا غرابة هنا في منح أفراد المجموعة الجوية مؤخرا ميداليات شرفية من قبل هيئة الأمم المتحدة. وأعرب قائد قوة البعثة الأممية في هذا البلد الجنرال موزيس بيسونج أوبي في كلمة ألقاها بالمناسبة في حفل مهيب أقيم في جوبا، عن تقديره العالي لجهود الطيارين الروس في خدمة البعثة لحفظ السلام في جنوب السودان.

انباء موسكو

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..