العمر فوق نار هادئة

بروين حبيب
■ في رواية «مريم الحكايا» للكاتبة اللبنانية علوية صبح تفكك بسردها الممتع مراحل حياة الإنسان، وكيف تطرأ عليه التغيرات العمرية لدرجة كاريكاتيرية أحيانا، حين تصف في تلك الأحاديث الحميمة بين شخصياتها أمراضها، وقوائم أدويتها، والتحولات الخطيرة في مسارات الأحاديث اليومية، وكيف أن الحديث عن الكوليسترول مثلا يصبح غاية في الأهمية، مقارنة مع أشياء أخرى، كما تلك الأوجاع التي تصبح ملازمة لجسد المرء كلما قارب عتبة منتصف العمر أو تخطّاها.
أرى ملامح النص أمامي غير واضحة تماما، وأشعر برغبة في معاودة قراءة الرواية، فبعض النصوص نتذوقها بشكل مختلف في عمر مبكر، ثم تعود إلى أذهاننا مثل كل شيء جميل عشناه في الماضي فنوَد ُّمعاودة رؤيته من جديد، ذلك أن النص ليس ابن مرحلة معينة فقط، بل ابن تجربة حياتية وهذا ما يمنحه سمة البقاء، تلك كانت علوية.
أما غادة السّمان ففي مقالة قديمة رسخت بعض بصماتها في قعر ذاكرتي، قالت في ما معناه أن موت أول صديق لنا سيكون بوابة لعمر جديد، تطوى بعدها مرحلة الشباب شيئا فشيئا كلما توالت أخبار موت الرفاق والمعارف أقراننا، ولو أن ما قرأته آنذاك تم في زمن الهواتف الذكية لاحتفظت بنسخة من المقال، ولكنه كان في زمن الورق، لهذا أجدني ممنونة لغادة السمان تحديدا، لأنها جمعت مقالاتها في كتب، وأرشفت لأدبها بشكل فريد من نوعه، ما يجعل العودة لأي نص من نصوصها ممكنا.
هذا الحنين أو الرغبة لقراءة نصوص قرأتها في الماضي لا شيء ناداها غير عمر النضج، فقد لامست ذات يوم أزرار حواسي لمسا خفيفا تهيئة لهذا اليوم ربّما، فما أشعر به من شوق لمعاودة قراءة بعض الكتب والنصوص القديمة، مرجعه الأول الإدراك الكامل لمحتواها، أو لنقل أن النص بعد القراءة الأولى أخذ وقتا طويلا دام سنوات حتى اتضحت معالمه الكاملة لي، ولا أعتقد أني متفردة بهذا الرأي، إذ يبدو أن فعل القراءة لا ينتهي بانتهائه الآني، بل يستمر ما دام راسخا في ذهن القارئ.
من هذا المنطلق تساءلت بيني وبين نفسي، هل حين تنتابنا الرغبة لخفض صوت التلفزيون مثلا، أو الاستغناء عنه وتفادي البرامج الصاخبة ومسلسلات البكاء والعويل والتهريج، فإنما لضرورات يفرضها التقدم في العمر؟ وهل حين يخف صراخنا ويزيد هدوؤنا نكون قد تجاوزنا عمر الطيش ودخلنا عمرا أكثر استقرارا واختصارا للسلوكيات المجنونة التي لا تثمر؟ هل حين نسامح أكثر ونغض البصر عن أشياء كثيرة مما يسيء إلينا فإنّما الأمر متعلق بتقدمنا بالعمر؟
لطالما فكّرت في الحكمة من أعمارنا المقسمة إلى مراحل، فنولد عاجزين وننتهي عاجزين، لكن بين العجز والعجز نُمنَح فرصا كثيرة للهو والطيش والتهور والتعلم قبل الاستقامة والاهتداء لمُسْتقَرٍّ لتلك النّفس المتعبة من الركض والجنون.
يصبح لكل عمر عصارته، وليس من باب استخلاص العبر ذلك التفنن في عرضها واستعراضها، بل من باب الرأفة بالأجيال التي تهدر طاقتها في الأخطاء نفسها. فلطالما تساءلت أيضا، لماذا تنحجب أعماق المرء حتى على نفسه، فلا يكتشف نفسه إلا بعد فوات الأوان أحيانا؟ هل يبقى العمر الحقيقي للشخص مرتبطا بتغيرات الجسد؟ أم بمقدار الحب في قلبه، وإيمانه بالغفران، وفهمه الجيد لهشاشته كونه كائنا غير معصوم من الخطأ، أو كون الخطأ نفسه مرحلةٌ أولى من مراحل تلقيه للمعرفة؟
كل التغيرات التي يعيشها المرء منذ ولادته وهو يكبر تشبه رحلة حبة القمح من التربة، إلى الطاحونة ومنها إلى المعجن ثم إلى الفرن ، ثم خبزا طازجا على طاولاتنا. وتلك الرحلة الطويلة التي تقطعها حبة القمح في دورة حياتها تتطلب الكثير من الشجاعة والإرادة لإكمالها لو أن حبة القمح أُبتُلَيَت بشيء اسمه «العقل»، فكل كائن على هذه البسيطة لديه دورة حياة تكتمل وفق قانون الطبيعة، باستثناء الكائن البشري الذي قد يتعثر قليلا أو كثيرا في خلال تلك الدورة بسبب قراراته، وقد لن يبلغ عمر النضج أبدا.
يزين العقل صاحبه إن كان راجحا، ويزيده النضجُ وقارا، ولعلّ هذه المَلَكة هي التي تفتح بصيرته على أشياء لم يكن يراها جيدا قبل حلول بركات هذه النعمة عليه. تثمر تجارب الطيش فيصبح سهلا أن نفرّق بين المحتال والجاد، والعملي وبياع الحكي، والكذّاب والصادق، وتصبح الأقاويل التي تعكر أمزجتنا شيئا لا يستحق الذكر، فآراء الناس على اختلافها لا تغيّر من جوهرنا شيئا، وهذا لا ندركه إلا حين نمتلك تلك الثقة بالنفس التي تجعلنا لا نهتز من نفخ الكلام.
في النص المكتوب تنعكس روح الكاتب بين السطور، تحمل تلك الذخيرة بين طياتها ويمكن الإمساك بخيوطها من أول سطر. فتنشأ منذ بدء القراءة علاقة حميمة بين القارئ والنص، ولا أدري هل من حقي أن أحكم على النص من خلال نوعية قارئه أو العكس، فكلاهما مرآة عاكسة للآخر، لهذا لا يمكن لكتب دسمة، ثقيلة المتون أن تجذب الجمهور العربي الذي نعرف الفئات العمرية الغالبة فيه، وظروفه المعيشية ويومياتها المنهكة، مع كل ذلك التشويش والضجيج السياسي الذي يملأ فضاءه السمعي البصري.
أمّا ظاهرة الإقبال على الكتاب ـ خاصة الرواية ـ مؤخرا فهي بدون شك مرتبطة ببلوغ أجيال الستينيات والسبعينيات سن النضج، متجاوزين مرحلة سياسية عصيبة، وإن كانت تبعاتها مستمرة، لكن الذهاب للكتاب تحديدا بحثا عن فسحة هدوء كشف مباشر عن نضج داخلي. لا يمكن لشخص لا يعرف أهمية الكتاب أن يذهب إليه، لا يمكنه أن يثق في كاتب ويفتح له بوابة ذهنه ويسمح له أن يسرح ويمرح حيث شاء بين بنات أفكاره، ثمة تأسيس لكل شيء، ونحن في ما سبق لم نؤسس لقاعدة تحوي الكتاب بين رفوفها، انبثقت الشعوب العربية مثل آبار البترول، هكذا فجأة، تحررت من استعمارات عدة، واستلمت دفة إدارة نفسها بنفسها بدون تقاليد محكمة سابقة لتلك المغامرة الخطيرة في قلب حلبة تمرّس فيها رعاة البقر على ترويض أعنف الثيران.
عشنا مرحلة طيش طويلة الأمد، على جميع الأصعدة، مارسنا فيها أخطاءنا ونزقنا ولا مبالاتنا، فعسى أن نستعيد زمام أمورنا اليوم وقد بلغنا عمر اكتمال الرؤية وانفتاح البصيرة على ما لنا وما علينا. أمّا هذا الوعي المتأخر، فقد تعثر كثيرا بمنغصات يضيق المقام لذكرها، وقد حجبت الرؤية عن بُعد كما عن قرب لأجيال لم تر من حياتها غير هامش ضيق، مثل تلك الدروب التي لا توصل لشيء. مجرد حياة انقضت كلها كأي حياة لكائن لا حول له ولا قوة.
وإن تحدثنا عن المئة عام المقبلة، فإن تأسيس قاعدة ثقافية متينة لها يبدأ باكتشاف درر كتُبِنا، وخلاصات تجارب مؤلفيها، وارتشاف عصارات تلك التجارب.. وثمة شيء آخر مهم، فذلك العمر الذي يُقصَف باكرا بتعاليم تُبِيد المراحل، لنحصل على أطفال لا يخطئون ومراهقين مثل أجهزة مبرمجة، لا يحمي الفرد من انتكاسة مفاجئة، فهذا العالم مدجج بالمخاطر، والريح فيه أحيانا تهب عكس شهوة السفن، ونحن عراة فيه تماما، نتأثر ونتعب ونستسلم ونموت، ولكننا خلال كل ذلك يمكننا أن نرتدي دروعا واقية تحمينا من السهام المصوبة نحونا، دروعا محبوكة بتجارب الآخرين، وقد لن نجدها فقط في الكتب والسينما والحكايات المروية عبر السنين، بل في أقرب شخص لدينا، دعكته الدنيا وأقعدته الأيام ليروي.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
القدس العربي