?قصة كفاح? تجربته التي شارفت على نصف قرن جعلته خبيراً بأنواع السلع التي يحتاجها المواطن، ولهذا ظل يحدث تغييراً طفيفاً وفقاً للمواسم

كوستي ? محمد عبد الباقي
أنفق زهاء الثلاث دقائق من أجل معرفة عدد السنوات التي قضاها يجوب أحياء وأسواق مدينة كوستي بعربته الكارو التي تعود أن يحمل عليها أنواعاً متعددة من السلع، وعندما خانته ذاكرته، استنجد بأحد الشباب تصادف مروره باللحظة التي ترك فيها (آدم محمد داود) محاولته اليائسة بتذكر عدد السنوات التي أنفقها وهو يمتهن مهنته تلك، فطلب منه أن يخبره بعدد السنوات التي انقضت منذ العام 1982م، فأفتر عن ابتسامه وسرعان ما عاد لوقاره ودندن ببضع كلمات في حق الشاب الذي قال: له إن (32) عاماً انقضت منذ ذلك التاريخ.
أشار (آدم محمد) نحو أثر الشاب الذي بدأ يذوب في وسط زحام سوق كوستي الكبير، وردد صدى كلماته إنه قضى (32) عاماً يكسب رزقه على ظهر حمار!!
ضاقت بما رحبت
بدأ يتحدث بمرارة لم يكن لها أثر في صوته قبل أن يعلم أنه قضى (32) عاماً، دون أن يتمكن من الحصول على قطعة أرض يضع عليها حمل حماره الذي كاد ظهره أن يتقرح من قسوة العمل لأكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً يقضيها وهو يجوب طرقات وأسواق مدينة كوستي التي صار أحد معالمها البارزة، ولهذا ابتدر (آدم محمد) حديثه بالإشارة إلى تلك السنوات التي انقضت وهو يحمل بضاعته على عربة (الكارو) بعد أن أُوصدت في وجهه أبواب جميع المسؤولين الذين تعاقبوا على المدينة، وبحجج مختلفة رفضوا جميعهم التصديق له بكشك في السوق ليستريح من عناء العمل متجولاً، ولم ينف (آدم) أن تجارته التي يتجول بها أكسبته حب الناس، وخلقت له جماهيرية واسعة بينهم مما جعله لا يدخل سوقا إلا ووجد الكثير من المواطنين يعرفونه حق المعرفة من سنوات طويلة، فيبتهجون لرؤياه ويتداولون معه في شؤون الحياة المختلفة، وهو يرى أن هذا الحب الذي يغمره به الناس جعله يستهين بكل المصاعب التي تواجهه في عمله المضني.
القناعة بالمقسوم
لم يكن يشعر بالانهزام، ولهذا أصبح أليفاً لواقعه راضياً به وهو يردد بين الحين والآخر، هذا نصيبي ولابد أن أقبل به، ما دام لا أحد من المسؤولين يرغب في منحي بضعة أمتار من هذه الأراضي الشاسعة. ولكن عدم تضامن المسؤولين معه بحسب وصفه، لم يزده إلا قوة، فصار يعمل بهمة وحب وتضاعف صبره على معاناته وبرع في إيجاد حلول للمصاعب التي تبرز أمامه بين الحين الآخر، ويشير إلى أنه قدم عشرات المرات بطلب ورجاء أن يتم التصديق له بكشك أو متجر داخل السوق، ولكنهم ظلوا يرفضون الطلب، على حد قوله، وفي الوقت نفسه يرفضون له الوقوف بحماره داخل السوق، فيظل متنقلاً من مكان لآخر طيلة ساعات اليوم، ولا يجد متسعاً من الوقت لأخذ قليل من الراحة إلا بغروب الشمس والعودة لأسرته التي تعتمد اعتماداً كلياً على ما يحصل عليه من رزق خلال تجواله المستمر نهاراً. فمن هذه المهنة الشاقة دفع بأبنائه حتى أكمل بعضهم مراحله التعليمية ولا يزال البقية يتلقون تعليمهم في مراحل دراسية مختلفة.
سلع لأي موسم
بتجربته التي شارفت على نصف القرن من الزمان، أصبح (آدم محمد) خبيراً بأنواع السلع التي يحتاجها المواطن، ولذا ظل يحدث تغييراً طفيفاً على نوع السلع التي يحملها وفقاً للمواسم المختلفة من أجل أن تواكب مزاج وحاجة المشترين الذين يقبلون نحوه بدوافع شتى، منها صدقه وأمانته في التعامل، بجانب تعاطفهم معه كونه أقدم من عمل بأسواق الولاية، فتارة تجده يحمل الفواكه والخضروات وفي موسم المدارس يبيع أغراض التلاميذ، وقبل رمضان يتجول بالأواني المنزلية، في كل موسم تكاد تتبدل السلعة التي يعرضها بالكامل ولكن الكارو تظل هي نفسها مهيأة لكل السلع وتصلح لجميع الأغراض.
لسعة أمل
رغم أن ملف طلبه بأن يمنح كشكاً في أي مكان في كوستي ظل يقدمه لكل مسؤول، مر على إدارتها، إلا أن (آدم) لم يقنط قط، فهو متمسك بحبل الأمل، فيقول: ?كلما رفض طلبي بأن يتم التصديق لي بمكان أعمل فيه، ازداد يقيني أنه سوف أجد في يوماً ما مَنْ يستجيب لطلبي، ولهذا ظللت متمسكاً بالعشم?، وأن اليأس لن يتسرب إلى نفسه، ولم يتخلَ عن حلمه وحقه كغيره من سكان المدينة الذين تم التصديق لهم بأماكن تفاوتت مساحتها داخل الأسواق المتخلفة بكل من كوستي وربك والدويم وبقية مدن الولاية.
اليوم التالي
لا حول ولا قوة الا بالله …. الظلم ظلمات 32 سنة
لا حول ولا قوة الا بالله …. الظلم ظلمات 32 سنة